قبل أسبوع من الآن تناقل إعلام النظام وصفحات مؤيّديه خبر إعداد أطول سندويش فلافل في العالم. ألخبر تزامن مع نشر صورة بوط عسكري ضخم من الثلج أقامه موالو النظام في حي “المزة 86” الذي تقطنه نسبة من شبيحة النظام في أثناء العاصفة أليكسا. حي “الدويلعة” الذي شهد إعداد الفلافل لم يكن إلى وقت قريب ضمن اهتمامات النظام، وهو يُعدّ من الأحياء الشعبية المهمّشة على شاكلة حزام المدينة كله وريفها، أما اختياره هذه المرة فقد أتى متعمداً لأنه يقع قريباً جداً من ريف دمشق المحاصر. مناطق تكاد تكون متاخمة له مثل “المليحة” و”عين ترما” تعاني حصاراً غذائياً خانقاً منذ أكثر من سنة، حيث تمنع حواجز النظام مرور كافة السلع الغذائية وفي مقدّمها الخبز.

بوط الثلج، بدل رجل الثلج التقليدي، وترف الشطيرة الطويلة من الفلافل لا يدلان فقط على المستوى الكيدي الذي بلغه أنصار النظام، حيث أن الأول يرمز إلى المحنة التي تسببت بها “أليكسا” للنازحين السوريين في المخيمات وللسوريين المحرومين من مصادر التدفئة، ويرمز الثاني إلى التخمة مقابلَ حملة “الجوع أو الركوع” التي أعلنها النظام على المناطق الثائرة. المسألة صارت أبعد من المستوى الكيدي المباشر، على رغم فظاظته ولا إنسانيته، فهي ترمز حقاً وفعلاً إلى الإنقسام إلى شعبين في بلد واحد يكاد لا يربط بينهما شيء مشترك.

الإنقسام لم يعد سياسياً بالمعنى المتعارف عليه. هو انقسام يطاول الرمزيات الصغيرة على الجانبين، وقد بدأ إعلام النظام بتكريسه منذ بدء الثورة فكان مفاد الرسالة التي أراد إيصالها للخارج وللداخل هي أنه حامي الأقليات الحداثية المتمدنة من الأكثرية الأصولية المتطرفة الإرهابية. عليه كان لا بد من إبراز الفوارق بين الجانبين، ومن ثم الإلحاح عليها وتعزيزها في مخيال مؤيّديه. قابلية المؤيّدين لتقبّل هذا الانقسام “الحضاري” أسفرت بدورها عن استعداد مدهش لجهة سرعة التصديق والمبادرة إلى النبش في الاختلافات، أو إلى اصطناع رمزيات جديدة تقطع مع الإرث المشترك للجانبين.

لم يعد مهمّاً على هذا الصعيد أن أقراص الفلافل الصغيرة كانت إلى عهد قريب من مشتركات الغذاء الشعبي للسوريين، لأن القسمة الحالية هي بين من يستطيعون أكلها ومن هم محرومون منها. رمزية البوط، على الرغم من أنها أيضاً كانت إلى عهد قريب تجمع بين قهرهم، بغنى عن الشرح بعد أن صارت رمزاً لطرف منهم. لكن الوتر الأهم الذي راح مؤيّدو النظام يعزفون عليه هو انتسابهم إلى أرومة حضارية مغايرة لتلك التي ينتسب إليها معارضوه. فالمعارضة “العميلة القطرية الوهابية الإرهابية” تنتسب إلى أولئك “العربان المتخلفين”، وهي لا تنتسب إليهم بصلة العمالة فحسب وإنما بصلة الرحم الحضاري، على العكس من أحفاد الفينيقيين الذين يمثّلهم النظام الحالي.

وفق هذا المنطق، موالو النظام هم سكان سوريا الأصليون؛ الثائرون عليه هم دخلاء على البلاد، هم أتباع الفتوحات الإسلامية التي لم تجلب سوى التخلّف والهمجية. هم “عربان”، وليسوا عرباً، مع تحميل المفردة أسوأ ما يمكن أن تحمله من البعد عن المدنية والحداثة، أما أحفاد الفينيقيين فهم في أسوأ حالاتهم أبناء ريف رومانسي ينهل من الريف الرحباني، وشتان ما بين ذلك الريف الوارف والبداوة الجرداء! وأن يضطر العربان إلى النزوح من البلاد فذلك لا يُعدّ تهجيراً قسرياً، إنه بمثابة إعادتهم “بوصفهم دخلاء” إلى خارج الحدود، فضلاً عن أن سكنهم في الخيام يعيدهم إلى أصولهم البدوية، ويليق بهم أكثر مما منَّ عليهم به النظام الذي حاول تمدينهم!.

لا يخفى هنا أن استخدم “العربان” بدل “العرب” هو من باب الحياء ليس إلا، مثلما لا تجري مهاجمة الأكثرية المذهبية مباشرة فتُهاجَم بوصفها إرهابية تكفيرية. في كل الأحوال تفصح العنصرية عن نفسها، وتستلهم أقذر ما يمكن أن تصله جدران الفصل العنصري، فهناك شعب الخيام مقابلَ شعب البيوت الآمنة الدافئة، وشعب أطول سندويش فلافل مقابل شعب يُباد جوعاً، بل هناك حتى فصل كهربائي بين شعب تصله الكهرباء وشعب لا يستحقها. أخيراً لا بد من الاعتراف بأن النظام نجح في اصطناع شعب خاص به، وبأن شعبه السعيد لا يشكو من شيء باستثناء أولئك الدخلاء الذين اكتشف وجودهم عندما بدؤوا ينغّصون عليه عيشه.

عمر قدور ـ المدن

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.