ليلى زين الدين ـ الحل

جرمانالا يمر يوم على سكان مدينة “جرمانا” دون سماع رشقات رصاص من هنا، وقصف مدفعي من هناك، فأصوات المعارك والاشتباكات باتت جزءاً من تفصيل الحياة اليومية للمدينة المحسوبة على الموالاة في محيطٍ منتفض، يستخدم النظام أراضيها لزرع آلته العسكرية ولقصف البلدات المجاورة، كما نجح في تسليح نحو700 شاب من شبابها بذريعة الدفاع عن المدينة، ما جعل صوت المعارضين خافتاً، واتجه معظم الناشطين إلى العمل المدني بإغاثة ومساعدة نحو 24 ألف عائلة مهجرة لجأت للمدينة، في الوقت الذي يشتد فيه الحديث عن قرب دخول قوات المعارضة للمدينة.

أهمية جغرافية وديموغرافية

لكن لماذا جرمانا؟، لا يمكن الإجابة عن هذا التساؤل دون النظر إلى الموقع الاستراتيجي الذي تشغله المدينة، فهي تقع بين الغوطتين الشرقية والغربية، وتعتبر مدخلاً هاماً على العاصمة دمشق، تحيطها المناطق الثائرة والمحاصرة من كل الاتجاهات، ما جعل منها خاصرةً لينةً للنظام، وهدفاً تطمح إليه قوات المعارضة، شرقها تقع أراضي المليحة المحاصرة وصولاً إلى دير العصافير والنشابية والبلالية حيث تحتدم المعارك بين قوات المعارضة والنظام بهدف كسر الحصار، وفي الشمال عين ترما وسقبا وعربين وصولاً إلى حرستا، وإلى الشمال الشرقي تقع كفر بطنا وحمورية ومسرابا، ومن جنوبها يعبر طريق مطار دمشق، الذي يفصلها عن يلدا و بيت سحم وعقربا تلك المناطق التي تمتد إلى مخيم اليرموك والحجر الأسود والحسينية والذيابية وببيلا والسيدة زينب وداريا وكل بلدات الغوطة الغربية.

وأهمية جرمانا (يسكنها نحو 400الف نسمة)لا تتوقف فقط على موقعها في لوحة الصراع كجغرفيا، حيث يصفها محامٍ ناشط “بالفسيفساء التي تعطي صورة مصغرة عن سوريا”، يستقر فيها مواطنون من كل الأطياف والأديان، ورغم أن سكانها الأصليون من الأقليات (دروز ومسيحيون) لكنها خلال العشر سنوات الأخيرة أصبح السكان الأصليون أقلية عددية لا يمثلون سوى نحو 30% من عدد السكان الكلي، هذا التنوع جعل منها مكاناً آمناً ليس فقط للاجئين من مناطق الصراع، بل وأيضاً مكاناً آمناً للضباط في جيش النظام والموظفين الذين ما زال بإمكانهم الذهاب إلى دوائر عملهم بمختلف وزارات النظام بدمشق ما يعطي صورة عن تمسك النظام بها بحيث لا يمكن التفريط بها أو السماح بسهولة في اهتزازها.

حياد غير مقبول..

ومن الصعب قراءة واقع جرمانا اليوم بمعزلٍ عن موقفها منذ انطلاقة الثورة، فعلى الرغم من أن الرغبة العامة لدى معظم سكانها والتي عبروا عنها بأكثر من مناسبة كانت تتجه للبقاء على الحياد وتجنيب المدينة السيناريو الدموي الذي وقع في البلدات المجاورة، وذلك بحسب ما يشير ناشط معارض وأحد مؤسسي لجنة العمل الوطني في جرمانا (فضل عدم ذكر اسمه)، ويضيف: “يدرك غالبية أبناء المدينة من الدروز والمسيحيين بطش النظام وعنفه، لذلك لا يفضلون الدخول بمواجهة معه، ومن ناحيةٍ أخرى هناك خوف حقيقي عند هذه الأقليات من استلام المتطرفين الحكم”.

ويدلل الناشط على الحياد الذي كانت تبتغيه المدينة، عبر البيانات العديدة الصادرة عن المشايخ “الدروز”، والتي منعت أي مسيراتٍ مؤيدة أو مظاهراتٍ معارضة، لكن النظام تنبه باكراً إلى أهمية المدينة بالنسبة له، مستغلاً ذعر الأقليات فيها، وخوفهم من سيطرة المتطرفين، حيث قام بتجنيد وتسليح عدد من أبنائها القادمين من أسفل الهرم الاجتماعي، وذهب بعضهم إلى حد مؤازرة النظام في معاركه خارج المدينة، وهو ما أثار حفيظة المشايخ في المدينة معبرين عن موقفٍ متقدم، عبر رفضهم للصلاة على جنازة أي شخص من اللجان الشعبية يقتل خارج حدود المدينة.

مافيات “الدفاع الوطني”

إن استهداف المدينة بالسيارت المفخخة -بما يزيد عن 15 تفجير- والقذائف مجهولة المصدر لم تتوقف عن حصد أرواح المدنيين في بيوتهم والأطفال في مدارسهم، وجاءت لتدعم رواية النظام التي تتلخص بأن “المتطرفين الإسلاميين هم من يستهدفون الدروز والمسيحيين”، رغم أن عشرات اللاجئين والنازحين كانوا ضحايا لهذه التفجيرات والقذائف، ولطالما غمز الناشطون في المدينة من قناة النظام بالوقوف خلف هذه الأفعال لترويع المدينة وضمان بقاء الأقليات إلى جانبه، غير أن إعلام النظام استطاع تضخيم بعض ممارسات الكتائب المتطرفة وتعميمها على أنها الوجه الحقيقي للثورة، ليسهل توجيه الاتهام إلى المحيط، ما أدى إلى تعزيز الاحتقان الطائفي، ولتكون الجملة الأكثر رواجاً على لسان الأقليات هذه الأيام “هي الحرية اللي بدكن ياها؟”.

كل ذلك أدى إلى فشل مساعي وجهاء المدينة وناشطيها بالحفاظ على حياد المدينة، حيث انتشرت الحواجز داخل المدينة وعلى أطرافها، وتم إغلاق كافة معابرها الواصلة إلى الغوطة، وأصبحت الاعتقالات على الهوية، لأبناء المناطق الثائرة، وأصبح ما يسمى بـ “جيش الدفاع الوطني” نافذين فيها وهم عبارة عن مافيات فسادٍ وابتزاز ونهب، يمتلكون شققاً وأقبيةً تحولت إلى مراكز أمنية ومقرات اعتقالٍ وخطف، كما يقتحمون البيوت بقصد السرقة وهو ما يجمع عليه غالبية سكان المدينة.

وإلى جانب عناصر الجيش الوطني الذي تتلقى تدريباً دورياً في إيران، دخل في مشهد المدينة ومنذ ما يزيد عن عامٍ ونصف، عناصر من حزب الله اللبناني، ممن يزداد عددهم يوماً بعد يوم، ويحتلون بقناصاتهم أسطح الأبنية المطلة على مناطق الغوطة المشتعلة.

سيناريو الدخول والتحرير

وتكشف ناشطة من المدينة (فضلت عدم ذكر اسمها) بأن المدينة تشهد هذه الأيام استنفاراً وتشديداً أمنياً، بحجة الخوف من مصيرٍ مشابهٍ لذلك الذي حدث في عدرا العمالية ودير عطية، لافتة إلى أن “جيش الدفاع الوطني” ينشغل اليوم بتدوين وتوثيق أسماء اللاجئين إلى المدينة، والأجهزة ألأمنية تجري حملات اعتقال طالت حتى الآن  يزيد عن 85 نازح، بحجة تواصلهم مع المسلحين من المعارضة، لا سيما بعد ما قيل عن أن دخول عدرا العمالية تم بمساعدة النازحين.

وفي ظل هذا الاستنفار تنتشر الشائعات عن اكتشاف أنفاقٍ حفرها “الثوار”  لدخول جرمانا من جهة بيت سحم المجاورة، غير أن أحد معارضي النظام في المدينة يؤكد أن هذه الشائعات نشرتها الصفحات الموالية على الفيس بوك، ومن ثم تراجعت عنها موضحه انها ليست أنفاق، إنما آبار وأقنية صرف صحي قديمة تم ردمها، لكن الشائعة ما لبثت أن تحولت إلى حقيقة يتذرع بها “الشبيحة” لملاحقة الناشطين وأيضاً النازحين.

ورغم ازدياد وتيرة الحديث عن إمكانية دخول الجيش الحر والكتائب المعارضة إلى المدينة، لكن الناشطين والمتابعين يستبعدون هذا الاحتمال في الوقت الحالي على الأقل، والسبب كما يقول أحدهم (فضل عدم ذكر اسمه)، أنها ستكون معركة استنزافٍ حقيقية، فالنظام سيضع كل طاقته للإبقاء على المدينة إلى جانبه، فسقوطها سيعني نقطة تحول كبيرة في المعركة بحيث ستصبح دمشق هي المحاصرة، فمع إمكانية قطع اوتستراد دمشق –حمص ستصبح العاصمة محاصرة من كافة مداخلها وطرقها التي تربطها ببقية المحافظات، ومحرومة حتى من إمكانية الاستفادة من مطار دمشق الدولي، وستكون خطوة متقدمة في الطريق لدخول دمشق، وهذا لن يحدث في ظل موازين القوى الحالية، وسيزاد احتماله كلما تغيير ميزان القوى لصالح قوى المعارضة في الغوطتين وأصبح التفكير بدخول دمشق أقرب إلى الواقع وليس إلى المغامرة غير محسوبة العواقب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.