عدرا2

 لانا جبر

بعد واحد وعشرين يوماً من الحصار والخوف بدون كهرباء أو ماء أو اتصالات لم يكن (غ.ا) يصدق بأنه نجا بنفسه وأسرته المؤلفة من زوجة وطفلين.. فـ (غ.ا) هو أحد سكان مدينة عدرا التي كان قاطنوها يعيشون حياةً شبه طبيعية، استفاقوا ذات يوم وجبهة النصرة قد دخلت إلى مدينتهم وسيطرت عليها دون أي مؤشرات مسبقة يمكن أن توحي بإمكانية دخول جماعة إسلامية متشددة إلى المدينة.

ولعل ما عاشه (غ.ا) وغيره من العائلات التي استطاعت النجاة بنفسها كان قاسياً لصعوبة ما عانوه من ترهيب نفسي ومعنوي بالإضافة إلى ما شهدوه من قتل وذبح وتدمير في مدينتهم، فالقصة كما يرويها الناجون لا تتوقف عند دخول هذه الجماعة الإسلامية المتشددة إليهم، إنما هي قصة خيانة وتآمر على أوراح السوريين ليست في مدينة عدرا فقط إنما في كل منطقة يسهّل فيها النظام دخول الجماعات المتشددة حصراً إليها، بسبب رغبة النظام باستثمار الموضوع إعلامياً والمتاجرة به حتى ولو ضمت تلك المناطق نسبة من مؤيديه.

بدأت القصة كما يرويها (غ.ا) في الثاني عشر من كانون الأول عند الساعة السادسة صباحاً حيث استفاق بعض سكان المدينة على أصوات آليات عسكرية ثقيلة تنسحب عند الحاجز العسكري المتمركز عند مدخل عدرا، وبعد حوالي ساعة شهدت المدينة دخول جماعات إسلامية تحمل أعلاماً سوداء، كان عددهم قليلاً في البداية كما بدا، ثم ما  لبث أن بدأت عناصرهم بالازدياد شيئاً فشيئاً حيث قدرت أعدادهم بعد ذلك بالآلاف، واستطاعوا خلال فترة وجيزة إدخال أسلحتهم الثقيلة والخفيفة، ونشر قناصاتهم على أسطح الأبراج العالية، على اعتبار أن عدرا العمالية تحتوي على ثماني برجيات عالية كما يوضح (غ.ا).

“لم يكن هنالك مقاومة تذكر من قبل عناصر الجيش النظامي الذين تبخروا فجأة من المكان” حسب “غ” الذين يلفت إلى أن “حتى عناصر المخفر تبين بعد ذلك أنهم فروا مسبقاً فلم يكن في المخفر آنذاك سوى عنصرين عزّل، قامت جبهة النصرة بذبحهم فوراً”، وبذلك باتت عدرا بأقسامها العمالية والتوسع والبلد تحت سيطرتهم بالكامل.

وما سيتحدث عنه (غ.ا) وجيرانه لاحقاً إنما يروي ما جرى في مدينة عدرا العمالية حيث يقطنون في إحدى البرجيات التي جعل تنظيم النصرة من سطحها مركزاً لإحدى قناصاته.

 

النصرة والسكان

“كان دخولهم بالنسبة للسكان مرعباً وصادماً” بهذه الكلمات وصف (غ.ا) حالة سكان عدرا عندما وجدوا الجبهة أضحت في عقر دارهم خاصة أن المدينة تحتوي على نسيج متنوع من الطوائف والانتماءات السياسية الموالية والمعارضة للنظام، وبالنسبة لردة فعله وعائلته أوضح أنهم لم يجدوا أنفسهم سوى خارجين من منزلهم ولاجئين عند ( م.ن) جاره في البناء الذي نجا بأسرته مع (غ.ا) أيضاً، وتحدث هو الآخر أن كل جيران البناء اجتمعوا في منزله فيما بعد حيث أمدوا بعضهم البعض بالشجاعة، فشعور الخوف من الذبح كان يتملكهم خاصة أنهم كانوا يسمعون خارجاً أصوات استغاثة ممزوجة مع أصوات تكبير علموا فيما بعد أنها كانت إعدامات ميدانية، وهنا أوضح (م.ن) أن سكان البناء أخذوا قراراً بعدم مقاومة الجبهة عند دخولها لبنائهم على اعتبار أنهم علموا أن عناصرها كانت تقوم بتمشيط كامل للأبراج وتفتيش منازلها.

500 شخص أعدموا في يوم واحد

حوالي عشرة عناصر بلباس عسكري كما يصف (م،ن) ومدججين بالأسلحة بالإضافة إلى عنصر واحد كان يلبس (جلابية) ويحمل ساطوراً، دخلوا إلى بنائهم الذي يسكنه نحو 250 بين أطفال ونساء رجال طلبوا منهم تسليم هويات الرجال حيث كانوا يحملون معهم قائمة بأسماء المطلوبين، وبعد الإطلاع على الأسماء تبينوا أنه لا وجود للمطلوبين بين سكان البناء، فدخلوا المنازل لتفتيشها وأخذوا مفتاح السطح وجعلوه مركزاً لأحد قناصيهم، وهنا تحول البناء كما يوضح (م،ن) إلى مركز للجبهة، وهدف لطيران النظام حيث بقي السكان الضحية الوحيدة في هذه المعركة.

وهنا يردف (غ.ا) أن اليوم الأول لدخول جبهة النصرة كان هو الأصعب على اعتبار أن معظم الإعدامات الميدانية تمت في ذلك اليوم فهناك مايقارب الـ 500 شخص قتلوا وقتها، لعدة اعتبارات أولها التعامل مع النظام والانتماء لإحدى الطائفتين العلوية أو الشيعية، “ذبح الكثيرون منهم وعلقت رؤوسهم على أبواب البنايات”.

الملثم وجه آخر لعملاء النظام

بعد مرور الأيام الأولى من حصار المدينة واطمئنان النصرة أنها أحكمت السيطرة بدأت مرحلة إخافة السكان وترويعهم، حيث كانوا يومياً  يخرجون الرجال ويوجهون البنادق  إلى صدورهم كنوع من التخويف، أما ما يزيد الطين بلة هو ما يدعى بـ “الملثم” الذين تحدث عنه شاهد العيان (مازن)، والملثم شخص يأتي مع عناصر النصرة عند قيامهم بالجولات اليومية يخفي، ويمتنع الملثم عن الحديث كي لا يسمع صوته، ويكتفي بتوجيه يده إلى أحد السكان لكي يقوم عناصر النصرة بذبحه فوراً تحت تهمة التعامل مع النظام، والملثمون كما يشرح (مازن) هم من سكان المدينة ويعرفون قاطنيها جيداً حيث هناك الكثير من الأشخاص ذبحوا باطلاً بسبب ثأر قديم بينهم وبين أحد الملثمين كمختار المدينة على سبيل المثال، ولعل (مازن) لم يخف أن طريقة النصرة هذه لم تذكره إلا بطريقة النظام عندما كان يقوم بالمداهمات حيث كانت عناصر الأمن تصطحب معها “العوايني” أيضاً لتسليم المطلوبين، حيث يجد (مازن) أن النصرة والنظام وجهان لعملة واحدة، ولعل هذه النتيجة وصل إليها الكثيرون من أبناء عدرا الناجين خاصة بعد أن علموا ولمسوا بأن النظام باعهم بيعاً، حيث كان أمير الجماعة لاريتردد بالقول وعلى المكبرات أنهم دفعوا مليارات الأموال واشتروا المدينة من النظام.

استماتة في الدفاع عن الأقليات

على الرغم من ما أفرزته الأحداث الدائرة في سوريا على مدار ثلاث سنوات ماضية من نزعة طائفية لا يمكن إنكارها إلا أن ماحدث في عدرا من تعاضد بين السكان بمختلف طوائفهم ومرجعياتهم الدينية والفكرية يثبت أن الشعب السوري هو “موزاييك” بحسب ناجين من عدرا،  ولعل الحديث عن الطوائف في قصة عدرا هذه أمر لابد منه، ففي برج آخر يقطن (أبو رضوان) وهو من سكان المدينة الفارين أيضاً من الحصار، ويقول أن سكان برجيته ينتمون جميعاً للطائفة السنية ماعدا عائلتين إحداها من الطائفة المسيحية والأخرى من الطائفة الإسماعيلية، حيث كانت هناك استماتة من قبل كل أسر في هذا البناء لمساعدة العائلتين خوفاً من تصفيتهما على أساس طائفي، وقام سكان البناء بداية بمساعدة العائلة المسيحية بإخفاء كل مظاهر الانتماء الديني في منزلها من تماثيل وأيقونات قبل وصول رجال النصرة،  ثم استضافتهما إحدى العائلات عندها طيلة فترة الحصار، في حين أنه تم إخفاء هوية الرجل الذي يعود للطائفة الإسماعيلية لأن تلك الطائفة مغضوب عليها من الجماعة كما أشار أبو رضوان، وأقنع  سكان البناء عناصر النصرة أن ذلك الرجل وأسرته نازح من دوما وخرج بدون هوية، وبالتالي ساهم الجيران بحماية جارهم من ذبح محتم، ولعل هذه القصة هي واحدة من قصص عديدة عاشها أهالي عدرا حيث ساهموا أيضاً بحماية شاب في الخدمة الإلزامية كان يقضي إجازة عند ذويه حيث استطاع جيرانه إخفاؤه وتهريبه بأعجوبة.

متاجرة النظام بالأهالي

وبالعودة إلى حياة العائلات خلال أيام الحصار فبالإضافة الخوف الذي عاشوه، قطعت الاتصالات عنهم وبقوا دون كهرباء، أما المياه فلم تكن تصل إلى منازلهم إلا نادراً، بالإضافة إلى أنهم قضوا كل تلك الفترة في الأقبية غير المجهزة في غالبيتها، أما بالنسبة للطعام كما حدثنا بعضهم فأن العائلات كانت تتشارك في الوجبات حيث اقتصروا على تناول وجبة واحدة في اليوم بالنسبة للكبار ووجبتين للأطفال، على اعتبار أن عناصر الجبهة كانت تدخل إلى المنازل وتأخذ الاطعمة والخبز أمام أعين السكان..

كل ذلك والنظام يقف متفرجاً لا ينبت ببنت شفة سوى استعراض انتصارات وهمية ويقصف المدنيين بالبراميل والغازات السامة، ووسائل إعلامه تقوم بالمتاجرة بدماء من يقتلون بسلاح جماعة متطرفة ما لكسب التعاطف الدولي، وهنا عاد (م.ن) وحدثنا أنه خلال الأيام الأولى كان الأهالي لايتحركون من أمام المذياع  علّهم يسمعون خبر يطمئنهم عن مصيرهم ومدينتهم “هدنة أو اتفاق”، ولكن ما كان يصدمهم ويجعلهم يشعرون بالتآمر عليهم عندما كان تستعرض أقنية النظام أن الجيش سيقتحم أو حتى اقتحم المدينة وحررسكانها، في حين أن الجيش وحتى هذه اللحظة مايزال يبعد عنها حوالي 7 كم، وذلك بشهادة السكان أنفسهم، حيث اقتصرت عمليات الجيش على قصف مدفعي وعملية واحدة نفذت بواسطة بطائرة ميغ  استهدفت أحد الأبراج التي قطنها مدنيون.

خروج مأساوي

الناجون لم يخرجوا من المدينة بسهولة إنما كان الوضع مأساوياً حتى إن الكثير من العائلات استهدفت خلال الهرب برصاص القناصة، فضحايا القناص كانت تملأ الطرقات “وفق ناجين”، الإضافة إلى جثث الذين أعدموا ميدانياً والتي تركت مرمية بأوصالها المقطعة في الشوارع، إلا أن الهرب كان أمراً لابد منه خاصة عندما سمع الأهالي في 30 كانون الأول عناصر من الجبهة تطلب منهم الخروج من المدينة… خرج سكان عدرا بأعداد هائلة في ذلك اليوم منهم من اتجه إلى طريق معمل الإسمنت وهم من استطاعوا النجاة بحياتهم، في حين أن هناك مجموعات سلكت الطريق المعاكس حيث كان تنظيم النصرة قد جهز بولمانات لهم وأوقعهم بالفخ، حيث خطفهم كرهائن للمبادلة عليهم ولا يعرف شيء عن مصيرهم حتى الآن.

في اليوم الثاني للسماح بالخروج “الأول من كانون الثاني” كانت ما تزال الفرصة متاحة للخروج من المدينة “وهي الفرصة الأخيرة”، ويروي ناجون أنهم خرجوا في ذلك اليوم عند الساعة السادسة صباحاً يحمل معظمهم أغراضاً بسيطة وأوراقهم الثبوتية، أما من كال يحمل حقائب كبيرة فقد تركها على الطريق نظراً لمشاق الرحلة للوصول إلى حاجز جيش النظام حيث اضطروا للسير مايقارب 7 كم سالكين طريق معمل الإسمنت وهو طريق وعر وصعب، “حتى إن هناك عجائز لم يستطيعوا إكمال الطريق فتوقفوا في وسطه” وفق ناجين.

أما الوصول إلى حاجز الجيش كما يتابع الناجين لم يكن بأفضل حال حيث تلقفهم العناصر هناك وبدلاً من مساعدتهم في تأمين وسائط نقل تنقلهم إلى قلب العاصمة،  احتفظوا بهم وبهوياتهم بحجة التحقيق معهم وتقصي معلومات حول الجبهة وأماكن تمركز عناصرها، حتى إن أحد الشبان تحدث أنهم احتفظوا بهويته على الحاجز ورفضوا إعادتها له، مبيناً في ذات السياق أن هناك عائلات احتفظ بها عناصر الجيش أياماً ضاربين عرض الحائط بما عاشته تلك العائلات من تجربة نفسية وجسدية مؤلمة، فاستطاع الجيش إكمال مسلسل الترهيب النفسي الذي بدأته النصرة فكانت الحلقة مكتملة بالنسبة للمواطنين.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.