سوريا

كشفت الثورة السورية إلى حد كبير التفاوت العميق في أدوار شركاء الوطن فيها، فبينما أظهرت غالبية الجماعة السنية تعاطفها مع الثورة وشاركت في فعالياتها، وقفت غالبية العلويين حذرة ومتشككة في الثورة ومقاصدها، وتضاءلت مشاركتها المتواضعة مع تقدم الصراع واتساعه. هذا التفاوت في المواقف والمشاركة لا تعود أسبابه إلى الفهم المختلف للدين أو للاختلاف في معايير الإيمان، فالإيمان يتعلق بالعلاقة الفردية مع الله، بينما النزعة الطائفية تنتسب إلى المجال السياسي حين يتعامل صاحبها مع الطائفة كجسم سياسي صلب، وليس كشعيرة وإيمان، تصيب المؤمن والمتحلل من الدين، وتزداد خطورتها بمقدار ارتكازها الى تمييزات جلية في السلطة والمجتمع، وتحيزات تقوم بها السلطة تحابي بها جماعة طائفية على حساب أخرى، ويمكن أن يتجلى ذلك التحيُّز والتمييز في تمفصلات اجتماعية واقتصادية سلطوية واضحة للعيان، كما جرى في علاقة النظام/السلطة بالمجتمع السوري بتنوعاته المختلفة. وعكس نفسه على تباين مواقف الجماعات الدينية من الثورة في اللاذقية والساحل وفي سورية عموماً.

فما بدأته مراحل تكوُّن الدولة السورية الحديثة من إعلاء شأن الوطنية السورية على حساب الروابط ما قبل القومية عملت العائلة الأسدية على تقويضه وتدميره. وكما هو معروف جرى بين السوريين، في خضم معركة الاستقلال، نقاش صريح حول الخصوصيات والمخاوف، والخيار بين الاستقلال الذاتي أو الانضمام إلى الوحدة السورية. رفض السوريون أن تكون الهويات المحلية قاعدة للاجتماع السياسي، وإن كانوا حافظوا عليها كجزء من الهوية السورية أو العربية التي تحتوي التعدد. وعندما جاءت حركة 8 آذار (مارس) 1963، قوّضت الفرص التي نشأت عن الاستقلال. وضيّقت الباب على إمكانيات الوفاق بين السوريين على حل هذه المسألة بشفافية ووضوح، فتوسع بين هذا النظام والشعب شرخ كبير، كان أحد عوامله تفاقم المسألة الطائفية المسكوت عنها، والتي لم تبرز بتأثير الدعاية، أو بسبب التنوع المذهبي فحسب، فالطائفية، أساساً، هي وليد غير شرعي للدهرية. هي خضوع الدين للسياسة لتحقيق أهداف دنيوية. فلا تحمل التمايزات بين الطوائف أية شحنة سياسية خطيرة في أثناء الازدهار وتطوير حركة استيعاب واندماج قوميين بما يخلقانه من فرص الاقتراب من نموذج حياة واحدة لمختلف الجماعات، لكنها تنفجر في مجتمع عصبوي. فالطائفية هي التعبير المباشر عن انحطاط الدولة بقدر ما أن الأصولية هي التعبير عن مأزق الهوية.

ترجع بذور صعود الطائفية إلى الانتداب الفرنسي الذي كان يُجند علوييِّن في كتائبه في المشرق. فأحيت سلطة آل الأسد هذا النهج، فقوت مواقعهم في سلك الجيش والمراكز الأمنية والوظائف الحكومية وشركات الدولة وحديثاً في القطاع الخاص على حساب بقية السكان. فتشكلت في القوات المسلحة والأمن الداخلي عصبية علوية سلطوية واضحة للعيان اعتاد السوريون رياءً أو خوفاً أو تواطؤاً السكوت عنها وتحويلها إلى مجال الثقافة الشفوية، ولقد ذكر علي ديوب: أنه «مع صعود سلطة البعث تصدّر الجيش ضباط من الطائفة العلوية… وخلقت الحركة التصحيحية وضعاً استثنائياً في بروز (ظواهر طائفية) لدى السلطة… وحالما بدأت الانتفاضة ظهر للطائفة أنّ ما يحدث موجه ضدها، وليس ضد النظام فقط»، ولاحظ منذر خدام أن نظام الأسد «أوهم كثيراً من العلويين بأنه أتاح لهم أن يتسلموا السلطة وأن يستفيدوا من مزاياها ومن الفرص التي تتيحها، وأن يتحولوا إلى قوة حقيقية في المجتمع والدولة، وإذا ذهب ذهبوا معه. ومنذ ذلك التاريخ عمل بصورة ممنهجة على تكثيف حضور العلويين في المؤسسات العسكرية والأمنية … فجعل منهم أدوات لتثبيت حكمه فقط». هذا الاقتناع أو التوهم تحوَّل بالممارسة إلى قوة مادية فعلية داعمة للنظام. ولقد أصبح للتمييز الطائفي ركائزه الاجتماعية /السلطوية، وذلك باحتلال العلويين مواقع اجتماعية سلطوية. وتجلى هذا في توزيع المواقع الاجتماعية والإدارية والسلطوية في ما بين الطوائف بإعطاء العلويين الموقع الأول في السلطة والمجتمع، فأخذت الطوائف والمذاهب مواقعها الاجتماعية والسلطوية المتمايزة، وأصبح بين الهويات المذهبية تخوم وتراتبية اجتماعية بفعل تدخل السلطة نالت من مبدأ المواطنة المتساوية. ولاحظ ميشال كيلو من خلال قراءته أوراق النعي في اللاذقية، أن أبناء الريف (العلويين) يكونون في غالبية الأحيان من العسكريين، «فبينما يندر أن تلمس وجود عسكري ما في أوراق النعي الخاصة بابن المدينة (السنية)، وهذا عكس افتراقهما، افتراق واقع وحياة أبناء الريف، الذين يعيش معظمهم على ريع السلطة وبخاصة العسكري منه، وواقع أبناء المدينة، الذين هم غالباً أصحاب حرف أو أعمال حرة أو موظفون متوسطون وصغار». فضلاً عن ذلك فقد استغل الأسد التاريخ الطويل للقمع الذي عاشه العلويون وكثيراً ما لوح باحتمال حدوث حمام دم جديد.

هكذا انطوت السلطة الأسدية على تشكيل عصبية علوية سلطوية، عملت على اللعب على التنوع الطائفي، وتحويله إلى أسوار عازلة بين الطوائف، وذلك بأن يحظى أبناء الطائفة العلوية بموقع متميز وقيادي في المؤسسة العسكرية وفي الأجهزة الأمنية، فشكلوا في القوات المسلحة والأمن الداخلي قلب عصبية السلطة. كتب الشاعر محمد ديبو «بدأ النظام العمل على محاور عدّة، ففي الجانب الدينيّ حاول إحداث مؤسسة دينية مرتبطة بسلطته… وأظهروا الأسدَ الأب وكأنّه «وليٌّ من أولياء الله». وتجلّى ذلك لحظة وفاته، إذ انتشرتْ شائعةٌ في مناطق العلويين تقولُ إنّ وجهَه على القمر. وفي الجانب السياسيُّ، قضى على التنوّع الذي تميزت به الطائفة. وفي الجانب الاقتصادي/ الأمنيّ: أخذت السلطة تبني كلّ سياساتها على أن يكونَ للعلويّين النسبةُ الكبرى في الجيش والأمن. وقد مسَّ التمييز الطائفي أهالي اللاذقية وبانياس وجبلة وطرطوس ودمشق وحمص، حيث أتت الهجرة الريفية العلوية لكلا المدينتين مع استحواذهم على الوظيفة الحكومية لا سيما في المخابرات والمؤسسة العسكرية، ثم بقية الوظائف الإدارية للدولة، فسيطر العلويون على الدوائر الرسمية وعلى التوظيف والعمالة في دوائر الدولة وشركاتها ومؤسساتها، وذلك بدعم من الأجهزة المخابراتية والجيش، بالإضافة إلى الدور التدخلي الملموس لعائلة الأسد ومخلوف وشاليش وديب والشبيحة الدائرين في فلكهم. فظاهرة سيطرة جميل الأسد وأبنائه وأعوانه على اقتصاد واجتماع اللاذقية بدءاً من المرفأ وانتهاء بمكاتب السفر لا تحتاج إلى شهادة أحد. وبالتالي فالمخرج الحقيقي للخروج من هذه الطائفية المدمرة هو بناء نظام المواطنة الديموقراطي الذي يقوّض التمييز ويعامل أفراد المجتمع بالتساوي أمام القانون والفرص، ويقفل الطريق على احتكار جماعة ما وحدها مؤسسة الجيش والأمن ومؤسسات الدولة الأخرى التي يصبح هدفها حماية القانون وتطبيقه بالتساوي على الجميع.

 

شمس الدين الكيلاني ـ الحياة

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.