داعش5

هكذا يستفيد الأشرار من انشغال العالم بالمستجدات اليومية.

 

موقع السياسات الخارجية (FP)

بقلم: دانيال آلتمان، 5 أيلول 2014.

ترجمة موقع الحل السوري.

 

 

كم من الأحداث بإمكانك متابعتها في الوقت ذاته؟ الحرب في أوكرانيا؟ الدولة الإسلامية في العراق؟ صور جينيفر لورانس العارية؟ إذا كُنت ممن يُجدولون المقاطع للأخبار التلفزيونية أو ممن يضعون المقالات على الصفحة الرئيسية للصحف، ربما لن يكون ذلك كثيراً عليك. ولكن حتى لو كنت مجرّد مشاهد عادي، فلن يكون في رأسك مجال متسع لأكثر من اثنين أو ثلاثة من الأحداث الرئيسية في اليوم. فـبعد كل ذلك، لديك ما يشغل بالك، عملك وعائلتك وكل شيء آخر على حد سواء. حيث أن الأمور مثيرة للاهتمام.

كان يا ما كان في قديم الزمان، صاغ علماء الاقتصاد قرارات إنسانية وعقلانية جداً، على افتراض أن الناس يستفيدون من كل المعلومات المتاحة التي تجعل خياراتهم مُثلى في جميع الأوقات. على أية حال، أدرك علماء الاقتصاد بعد ذلك – وبمساعدة صغيرة من علماء النفس – أن هناك حدود لمدى الأشخاص الذّين يفكرون بشأن الخيارات التي يتخذونها.

هذه الحدود اليوم، والتي تسمى “العقلانية المحدودة”، هي أكثر ترابطاً من أي وقت مضى. لدينا في الواقع خيارات لا نهاية لها متوفرة عبر الإنترنت لأشياء مثل الاستثمارات واللباس والموسيقى والكتب والألعاب، لكننا لا نقيس كل خيار لوحده قبل شراءه، نسلك هنا سبل مختصرة. هذا يعني أننا لا نقوم بأفضل الاختيارات دائماً، لكننا نختار ما نراه جيد بما فيه الكفاية.

كيف لهذه الأمور أن تكون ذات علاقة مع الأخبار؟ حسناً، سيكون من المستحيل تتبع كل حدث يحصل بمفرده حول العالم. حتى أفضل المؤسسات الإخبارية لا يمكنها ذلك، لأن لديهم مصادر محدودة. كما أن البقية منا لا يمكنها فعل ذلك، لأن لدينا أشياء أخرى نفعلها بدلاً من الجلوس أمام شاشاتنا المختلفة. فبدلاً من ذلك، نفوّض وسائل الإعلام قرار ما يستحق إعطاءه الأهمية وجزءاً من أيامنا.

لا يوجد سوى عدد قليل من المنظمات العالمية التي تميل لإعطاء الأولوية لبعض الأحداث كل يوم، والأحداث التي تجذب مشاهدين وقرّاء أكثر تستغرق وقتاً أطول لأنها تُجلب بدولارات الإعلانات. عندما يفقد الجمهور الاهتمام، تتلاشى الأنظار لصالح شيء أكثر أهمية، أو على الأقل لصالح شيء مع الفرصة بأن يصبح أكثر شعبية.

هذا يعني أنه من غير المرجّح أن تحتل قصّة بمفردها الأخبار لفترة طويلة، بغضّ النظر عن مدى أهميتها.

تخطّى عدد الوفيات من المدنيين في سوريا الـ 100000 منذ وقت طويل، مع سقوط المئات كل يوم، ولكن في الغالب لم يعد هناك تغطية يوميّة للقتال ولمحن المدنيين يوماً بعد يوم.

لقد تبددت المستجدّات، وخطفت الأحداث الجديدة انتباه وسائل الإعلام كما المتابعين. ونتيجةً لذلك، أصبح لدى كلٍّ من بشار الأسد ومؤيديه ومعارضيه الرّخصة في الاستمرار بعمليات القتل دون القلق من الاحتجاج أو التدخّل العالمي. يبدو أن لحظة القلق تلك قد فاتت.

وبنظرة سريعة على مجريات العام الماضي نلاحظ تماماً كم كان الرأي العام متقلّباً. العديد من الأحداث بلغت ذروتها في الأخبار، ولكن ليس هناك حَدَثَين اثنين قد بلغا نفس الذروة من اهتمام الناس في نفس الوقت.

بالعودة للرسوم البيانية التابعة لمحرك البحث Google والتي تقيس عدد المرات التي يبحث الناس فيهاعن كلمات رئيسية بما في ذلك تلك المتعلّقة بالأحداث الكُبرى في جميع أنحاء العالم، نجد أنه في شهر آذار مثلا استرعى النزاع في أوكرانيا انتباه العالم، لكنّه نُسي بشكل كبير عندما اختفت الطائرة الماليزيّة 370 . لم يكن حدوث الاختفاء في أوكرانيا، ما قلّل من أهمية الحدث في وقت لاحق من العام كما رأينا. حوّل المشاهدون ووكالات الأنباء ببساطة اهتمامهم نحو حدث آخر، فلا يمكن لحدثين أن يسترعيا نفس المستوى من الاهتمام في الوقت نفسه.

ثم صعّد القتال في غزّة في تموز، كما ارتفع مستوى المتابعين له. ولكن، وبينما كان الحدث يتصاعد نحو القمة، وكما حصل لأحداث أوكرانيا و MH370 ، حصل شيء آخر استرعى الانتباه أكثر، إسقاط الـ MH17 في أوكرانيا. بوجود حدثين مهمين يتطوران في الوقت ذاته – وهما الطائرة التي أُسقطت في اليوم ذاته الذّي شنّت فيه إسرائيل هجومها على غزّة – لا يعود هناك إدارة لارتفاع مستوى البيانات المتعلقة بمتابعة أحداث أوكرانيا والـ MH370 الواقعة في وقت سابق من السنة.

 

على أية حال، تحوّل الاهتمام مجدداً في غضون أسابيع لأمرٍ آخر. تفشّي فيروس الإيبولا في غرب إفريقيا محا كل شيء تقريباً من الخريطة.

في شهر آب حصل تغيير آخر، هبطت الإيبولا من قمتها، حيث بدأت الأزمة في فيرغسن، ميسوري، بلفت الأنظار من كل أنحاء العالم. ومن بعدها تقدّمت الدولة الإسلامية بشكل أبعد عبر سوريا والعراق مرتكبةً جرائم شنيعة، حيث سحبت القرّاء والمشاهدين بعيداً عن الإيبولا والأحداث الأخرى الجارية.

بالتأكيد لا شيء من هذا له الأثر فيما لو كان عدد الوفيات الناجم عن فيروس الإيبولا متزايد (وهو كذلك) أو تزايد الاهتمام من مسئولي الصحة العالمية (وهو كذلك أيضاً.

بطبيعة الحال، المستجدات تعطي فائدة للأحداث في كلٍّ من التغطية الإعلامية ومساحة الرأس لدى المتابعين. حتى أكثر الجرائم بشاعةً مثل المجازر المرتكبة بحق المدنيين في سوريا، تناقص الاهتمام بها بسرعة. الشرير الناجح بإمكانه الصمود أمام العاصفة الأولية من الاهتمام، وينتقل من ثم للقتل دون وجود عائق يمنعه نسبياً، أو ببساطة ينتظر حتى ينصرف اهتمام الإعلام والعالم نحو حدثٍ كبير في العالم ليقوم بما يشاء.

قد يكون الأسد حكيماً في هذه اللعبة. فالفترة الأكثر دمويةً من الحرب الأهلية السورية كانت في الأشهر الأكثر انشغالاً بالحملة الانتخابية الرئاسية في الولايات المتحدة في الـ 2012، وامتدت من موسم المؤتمرات حتى الانتخابات ذاتها. وتناقص عدد الوفيات لعدة أسابيع مباشرةً بعد الانتخابات. قد يكون ذلك محض صدفة، أو ربما شيءً أكثر خبثاً من ذلك.

المؤشر التابع لسوريا تناقص بعد أسبوع من 15 تموز 2012، بالرغم من تزايد عدد القتلى.

منذ ذلك الحين كان النزاع في سوريا بالكاد مثل ومضة بالنسبة لوسائل الإعلام. وكانت جولة أخرى في العبارة الشهيرة لعالمة النظرية هانّا آرندت واصفةً جريمة “الهولوكوست” ومجرميها بقولها: “ابتذال الشّر”، وبقدر ما كانت وسائل الإعلام والمتابعين لها مهتمين، بقدر ما كان حقاً الشر المستمر والمتكرر مبتذلاً. فلم تكن تلك أخباراً لو لم تكن أحداثاً جديدة.

عادت الأضواء لتُسلّط على سورياً في صيف الـ 2013 بالطبع باستخدام الأسلحة الكيميائية ضدّ المدنيين، الأمر الذي كان من المحتمل نتيجةً لسلسلة من الأمور.

ولكن تلك السلسلة – من الجريمة الموثقة والمدهشة ضدّ الإنسانية – لم تدم طولاً. ربما كان هناك مآسٍ أخرى تتنافس على شدّ الانتباه، أو ربما كان الجميع يلعبون لعبة سرقة السيارات الكبرى Grand Theft Auto V.

في كلتا الحالتين، لم تستطع الأحداث الفظيعة مثل الوفيات من الأطفال بسبب الكيماوي أن تشد انتباه الرأي العام لأكثر من بضعة أيام.

ومن بإمكانه إلقاء اللوم عليهم؟ لقد حصر الإنترنت اهتمام الناس حيث أنهم مثل الطائر الطنّان يندفعون من زهرة لزهرة بحثاً عن دغدغة. في هذه الأثناء، تسببت عولمة وسائل الإعلام من خلال تقنية المعلومات برمي الناس بين أحداث من جميع أنحاء العالم أكثر من أي وقت مضى. ببساطة ليس هناك وقت كافٍ لمتابعة كل شيء، فبالإمكان التركيز على واحد أو اثنان من الأحداث، علاوة على الأحداث الأخرى.

كانت هذه الحالة فريدة بالنسبة لأشخاص مثل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، حيث يتلقى توصيات يومية بشأن النقاط الساخنة حول العالم. على أية حال جميعنا الآن منشدّون لهذا التدفّق الهائل للأحداث والمتغيرة باستمرار. هل هي أعجوبة أننا لا نستطيع التركيز (مثله) فترة كافية على أي من الأحداث لنفعل شيء حيالها؟

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة