صاخور

ترجمة موقع الحل السوري

كريستوف رويتر

تسيطر قوات الأسد على القسم الغربي من مدينة حلب، وتقصف القسم الشرقي من المدينة كل يوم بالبراميل المتفجرة، الموت دائم الحضور. قضت الـ SPIEGEL مؤخراً مدّة أسبوع للوقوف على ما حصل في مدينة الأشباح.

 

 

عندما تقود السيارة عبر المناطق الواقعة خارج المدينة، تبدأ الأراضي المقفرة والموحشة. الشوارع فارغة، كذلك المباني السكنية نصف المدمّرة، والأصوات الوحيدة التي يمكنك سماعها مصدرها اللوحات الإعلانية المعدنية الممزقة التي بقيت في مهب الريح، ودوي المدفعية البعيدة بين الحين والآخر.

ANZEIGE

 

تهتّك شرق مدينة حلب _ فعلياً_ وذلك ما حصل لمعظم المناظق السكنية الواقعة بعيداً عن جبهة القتال. أولئك الذين بقوا في المدينة يفضّلون التجمّع في منازل تفادياً لخط الجبهة التي بقيت مستمرة _ فعلياً_ في السنتين الأخيرتين.

للمفارقة، يشعر الناس بالحياة الأكثر أمناً بوجود سلاسل دبابات العدو ونيران القناصة، هذه هي قواعد حلب.

إن الأسباب عملية جداً. فبالنسبة للبعض، الطوابق السفلية من المباني الواقعة على طول الجبهة لا تزال توفر لهم بعض الحماية من قذائف المدفعية. على أية حال، الحقيقة الأكثر أهمية هنا هي عدم وجود براميل – ذات النصف طن- تسقط من الطائرات العمودية التي تحلق عالياً فوق المنطقة. حيث تمتنع القوات الجوية السورية عن استخدام البراميل المتفجّرة قريباً من مواقع قواتها الخاصة، لأنها فتّاكة جداً والأهم أنها غير دقيقة الاستخدام.

مع ذلك، ما تبقّى من شرق مدينة حلب لعبةً عادلة نوعاً ما. يمكن للبراميل المتفجّرة – المليئة بالمتفجرات والشظايا – أن تدمّر مبنىً بأكمله، وقد جرّب الجيش السوري خططاً متنوعة في المدينة. حتى أن بعض البراميل معلّق بها خزّانات بنزين لتلهب النيران عندما تتفجر، والبعض الآخر من البراميل ثقيل جداً لدرجة أنها تُنقل إلى المروحية على عربة مدفع صغيرة. تظهر المروحيات في الصباح وفي أوقات متأخرة من بعد الظهر – عادةً ما تظهر في الوقت ذاته من كل يوم – وتحوم لوقت من الزمن على ارتفاع 4000 إلى 5000 متر ( 13000 – 16000 قدم)، حيث تبدو أكبر بقليل من نقطة صغيرة في السماء قبل أن تسقط حمولتها. يمكن سماع صوت البراميل تتساقط لثواني فقط قبل اصطدامها، الوقت كافٍ لتدرك أنك على وشك الموت، لكنه غير كافٍ للهرب. حتى لو وُجِدَ مأوىً ناجع فهو بأسعار أغلى من الطبيعية. ولم يعد هناك أحد يطلق قذائف من الأرض نحو المروحيات، لأن القيام بذلك هو أمر عديم الجدوى، فالمروحيات تطير على ارتفاع شاهق بالنسبة للسلاح الروسي المضاد للطائرات والقديم الذي بحوذة الثوار.

 

البقاء والإنتظار

القواعد في حلب مجرّدة من العاطفة وغير مؤطّرة. إنها كما لو قام أحدهم بإبتكار تجربةٍ قاتلة. ماذا يمكن للناس فعله عندما تمطر السماء عليهم موتاً في أي لحظة؟ تقريباً 90% من السكان قد هربوا منذ أواخر 2013 عندما بدأ القصف الممنهج على المدينة. حصدت المتفجرات منذ ذلك الحين حياة ما يقرب من 2500 شخص. وبالرغم من هذا، مايزال هناك 200000 إلى 300000 شخص يعيشون في النصف الشرقي من المدينة.

يقول البعض أنهم لا يريدون المغادرة، بينما يقول آخرون أنهم لا يستطيعون ذلك. هناك أيضاً من يدعي أن محاولة الهرب ستكون عديمة الجدوى، فعندما يحين موعد الموت سيجدهم أينما كانوا – كما يقولون – وإذا لم يحن موعد موتهم، فلن يموتوا بالقصف، لذلك يبقون وينتظرون.

تنقسم مدينة حلب إلى قسمين بعد ثلاث سنوات ونصف من بدء الثورة ضد دكتاتورية عائلة الأسد، وسنتان من انفجار والاقتتال حول حلب. يسيطر نظام الأسد على الأحياء الأكثر ثراءاً في النصف الغربي من المدينة، والتي تتجاور مع المخابرات ومقر القيادة العسكرية الواقعة هناك. يتجمّع حوالي 2 مليون شخص في ذلك النصف من المدينة، الكثيرين منهم هربوا من القسم الشرقي إلى القسم الغربي هرباً من الموت المحتمل الذي تمطره عليهم السماء.

من الصعب القول من يسيطر – شرقي المدينة – على ما تبقى من الطبقة المتوسطة والأحياء الفقيرة هناك، بالإضافة إلى قسم كبير من مركز المدينة التاريخي. لم يكن هناك سوى عدد قليل من الكتائب الثائرة في البداية، وأصبحوا بعدها أكثر من 400 مجموعة صغيرة ثائرة. والآن، هناك ستة ألوية كبيرة. جاءت أيضاً جماعة إسلامية متشددة تعرف باسم الدولة الإسلامية، لكنها سرعان ما تحركت بعيداً. ليس هناك حكومة مركزية في القسم الشرقي من المدينة، لكن يوجد مجلس مدينة ووحدات شرطة ومتطوعين في الدفاع المدني الذين استجابوا بعد الهجوم بالمتفجرات لتخليص القتلى وإنقاذ المصابين والمحاصرين.

أوقف الثوار – هذا الشهر – مسلحي الدولة الإسلامية بحدّة قبل وصولهم إلى بلدة المعرّة التي تبعد حوالي 40 كيلومتراً (25 ميلاً) عن شمال مدينة حلب. وتقدّمت قوات الأسد من جهتها بضعة كيلو مترات فقط، لصد الثوار وإحكام سيطرتها على الطريق المحلّق في جميع أنحاء حلب. وبذلك تكون في حالة تمكّنها من محاصرة وتجويع الجزء الشرقي من المدينة.

إن الحالة مأساوية، لكنها على هذا الوضع لشهور. الأخبار المتواصلة للمعارك، السيطرة على أراض جديدة والانسحابات وصلت لمدينة الأشباح، لكنها تبدو صامتة وبعيدة. وعندما لا يكون هناك إطلاق للنار، تكون المدينة هادئة بشكل مخيف، بينما يستمر السكان بحياتهم اليومية بصمت. تتغيب الأصوات الطبيعية كلياً عن المدينة: أصوات الحياة وحركة المرور، الموسيقا والطيور.

حلب22

النساء غارقة في السواد

أنها بداية الأسبوع الأول من شهر أيلول، ومايزال الجميع على قيد الحياة: زكريا أبو عبدو، صاحب دكان، وجارته الشابّة سمرهيّاس، والكهربائي محسن، وإمرأة مسنة ترتدي السواد واثنا عشر عاملاً من الطبقة العاملة (باليومية) من حي الحيدريّة. هؤلاء مجرد 16 شخصاً من أنحاء مختلفة من مدينة حلب، والذين ليس لديهم في صباح يوم الإثنين هذا شيء مشترك سوى حقيقة أنهم مايزالون في حلب.

الإثنين بعد الظهر، بدأت القوات الثائرة والدفاع المدني بإطلاق النار. هذه المؤسسات التي تحافظ على النظام النامي وسط الجحيم. إمرأة تمشي على أحد الجسور، طريق سريع مهجور. المشي هناك يمكن أن يكون مميتاً. ” يا إلهي، ماذا تفعل تلك السيدة هناك؟” نادى أحدهم بمكبر الصوت. وأضاف: ” لابد أنها مجنونة! “.

تحت الجسر، وبفضل خرسانته السميكة، مايزال هناك مكان آمن لإحدى سيارات الأجرة المتبقية في المدينة، بالإضافة إلى باعة الفاكهة. مع ذلك، يرى القناصة أن الجانب العلوي من الجسر هو مكان محكم لإطلالتهم. وقد وضعت حواجز منشأة من الحافلات المحترقة والحطام، لردع الناس من المرور عبر الطريق. لكن المرأة المرتدية السواد تتجنب الحواجز وتبدأ بالمشي عبر الجسر.

استغرق أزيز الرصاصة الأولى التي اطلقت في الهواء بضعة ثواني، تصاعدت الأصوات من المكبّر بينما تستمر الطلقات. ” ماذا ينبغي أن نفعل؟ نرد على إطلاق النار بالنار؟ لا، فذلك يزيد الطين بلّه. يا إلهي…” المرأة تتمايل وتستمر أيضاً بالمشي. إنها الرصاصة السابعة، فالثامنة. تسقط المرأة على الأرض.

لا أحد يعرف ماذا كانت تفعل على الجسر، هل كانت تجمع الأكياس المستعملة لتبيعها؟ أو ربما كانت تبحث عن فرصة مقتلها؟ أو ربما ببساطة تكون قد فقدت عقلها؟ يهز الناس أكتافهم متسائلين. فلا أحد يعرف اسمها، استرد الناس جثمانها في الظلام، ولم يعد لها أثر بعد ذلك.

“مازلنا أحياءً، لكن إلى متى؟ يوم؟ أسبوع؟ نحن موتى على قيد الحياة، نشبه مخلوقات الزومبي تلك التي في الأفلام! ” يقول أحد المتطوعين في الدفاع المدني خلال نوبة حراسته. ويضيف: “نعم، زومبي! هل تشرب القهوة بسكر أو بدون سكر؟ ”

شرق مدينة حلب هو مدينة الزومبي من المستوى الرفيع، مكانٌ موحش حيث يبدو مرهقاً جداً لليأس ذاته.

كان زكريا، يوم الإثنين، يشرب قهوته في الحديقة كما يفعل كل صباح. فالخيّاط ذو الستين عاماً يعيش لوحده في منزله القديم والذي يعود عمره لقرونٍ ماضية. اعتاد على إدارة محلّه الذي كان قد استأجره، لكن لسوء الحظ المُستأجر الآن ميت. يهتم زكريا بالنباتات المحيطة بالبئر في الفناء الداخلي. كان يذهب عادةً لزيارة صديقه يوهانز كل صباح ويعطيه زجاجة ماء بارد من الثلاجة.

 

طريقة غير معتادة للموت

في الساعة التاسعة من صباح يوم الثلاثاء، كان زكريا مجدداً يشرب قهوته في الفناء. عندما سمع فجأةً صوت صفير القنبلة، ركض إلى غرفته أملاً أنها المكان الآمن، لكنه كان الإتجاه الخاطئ. القنبلة ليست كبيرة، لكنها ضربت الرجل ذو الستين عاماً، ودمّرت نصف منزله ومنزل جارته سمر هيّاس ذات الـ 38 عاماً، أرملة موظف في سوق الأسهم، يقول الجيران إنه قد مات منذ خمس سنوات لأسباب طبيعية. ويضيفون: كما لو كان هناك طرق غير طبيعية للموت.

ربما يكون زكريا قد نجا بالقفز إلى القبو الواقع في القسم الآخر من الفناء، كما فعل جاره. وصل متطوّعو الدفاع المدني ومعهم مولّدة كهربايئة وآلات قص الصخور وأسلاك وقواطع. عثروا على زكريا بسرعة، لكن الأمر استغرق منهم ساعتين من نشر للحجارة عبر جبل الحطام ليصلوا إلى جثمان هيّاس. كرتان فولاذيّتان إحداهما بحجم حبة الكرز، والأخرى بحجم حبة جوز، كانوا ضمن ما تبقى من جمجمتها. لقد حشوا القنبلة بالكرات الفولاذية لزيادة قوتها التدميرية.

ظهر يوهانس، صديق زكريا القديم، بينما كان الرجال يواصلون البحث. أخبره أحدهم بما حصل، يهز رأسه بصمت، لا صراخ منه ولا أعين شاخصة من الرعب، لا دهشة ولا شيء آخر، فقط يهز برأسه. كان يشتري بعض الخبز وعائداً إلى منزله – الدير – الكاثوليكي القديم في شرق حلب. والذي يعود للقديسة Elie.

ينصرف يوهانس قائلاً: “يجب أن أجرف الفناء،” ويضيف بصوت رقيق كصوت أغنية يخمّن فعلياً ما حصل. أولاً حصل إنفجار، وبعدها لم يظهر زكريا بالماء لسقي النباتات. “الآن قد مات أيضاً” هكذا يعتقد.

مايزال هناك سبعة قاطنين في منزل القديسة Elie. من تبقى قد غادروا أو ماتوا، والآن يوهانس ذو الـ 75 عاماً هو الأصغر من بين اثنين. ماجي آناستوس ذو الـ 80، جالساً في الظل المنقّط للأشجار في الفناء أمام تمثال أزرق سماوي للسيد المسيح. بعض السكان الذين عاشوا هنا لمدة 20 عاماً أو أكثر، اعتقدوا أنهم كانوا سيقضون السنوات القليلة الأخيرة من حياتهم بشكلٍ هادئ.

أنهم يبذلون قصارى جهدهم للتمسك بذلك الأمل، لكن الأمر ليس سهلاً. فبنائهم ذو الفناء الداخلي الشاعري، حيث يلتقط يوهانس كل ورقة تسقطها الرياح، يقع على الخط الأمامي للجبهة. فالأرض المحايدة تقع تماماً خلف البناء. “لا أحد يملك أي شيء حقاً ضدّنا”، يقول جوزيف شدياق ذو الـ 75 أيضاً، والذي درس علم اللاهوت لمدة عامين، ويرتجل الآن الخدمات الدينية كل يوم أحد، ويهتم بالساكنين طريحي الفراش. ويضيف: “ولكن عندما صعدت إلى السطح في الشتاء لإصلاح خزان الماء، بدأ قناص تابع للجيش بإطلاق الرصاص بشكل مباشر، صحت إليه للتوقف. وبعد ذلك تحسّنت العلاقة فيما بيننا وبعد فترة عرفنا اسمه أيضاً، أبو جعفر”. لكن السكان قلقون الآن، “لأن أبو جعفر أطلق عليه النار، ونحن لا نعرف القناص الجديد حتى الآن”.

جهّز يوهانس وجوزيف أول الموتى ودفعاه عبر خطوط المعركة إلى حيث تعيش عائلته في القسم الآخر من مدينة حلب، “لكن هذا لم يعد ممكناً”. فالآن أي من السكان الذين يموتون سوف يدفنون في الحديقة في الفناء الداخلي.

“هناك مساحةً كافية لنا جميعاً في الحديقة، لكن نتمنى من رحمة الله أنه سوف يمنحنا وقتاً أكثر، “يقول جوزيف. أبناؤه – ومثل معظم المسيحيين – يعيشون في الغرب، قرب الجبهة أيضاً. قُتل فادي _ابنه الأصغر_ قبل شهرين بقذيفة هاون أطلقت من قبل نفس الثوار الذين يجلبون الخبز والشاي بين الحين والآخر لسكان الـ قديسة Elie. “ماذا يمكنني القول؟” يقول جوزيف ناظراً إلى السماء.

ينهض جوزيف ليجمع الشظايا المتساقطة على البلاط اللّماع. “هناك إنفجارٌ في مكانٍ قريب”. ولا أحد يبتهج. يفتح جوزيف غرفة الجلوس ويشير إلى السقف حيث أصابته قذيفة هاون في الشتاء. “كنا نجلس هناك قبل نصف ساعة من الضربة، نحن ندفّئ غرفة الجلوس فقط في الشتاء. هناك حيث نشرب قهوة العصر”.

يقول: إنها إشارة من الله أن القذيفة لم تصبنا. ويرى _ مثل معظم أهالي هذه المدينة الذين نجوا بالكاد من الهجوم_ أن الله يعمل على الفروق الدقيقة، ويقيس بالدقائق والأمتار، هذا ما أنقذ حياته.

الآن، في الصيف، يجلس كلٌّ من جوزيف ويوهانس وماجي والساكنان الآخران اللذان مايزالان قادرين على المشي، يجلسون جميعهم في الفناء كل يوم، ويستمعون إلى الهتافات التي تتعالى فوق رؤوسهم من كلا الجانبين، “الله أكبر” يهتف الثوار، فتردّ قوات الجيش “بشار أكبر”. على ما يبدو الأمر نزاع _لن ينتهي _ على من هو الأقوى بينهم، الله أم الرئيس بشار الأسد.

 

الشرفة المائلة

أصبح الخمسة المسنّون جيدون في تمييز لهجات المقاتلين من الجانب الآخر. “حتى شهرٍ ماضٍ، كان بإمكانك سماع العراقيين بشكل مستمر من هناك،” يقول جوهانز. ” نعم، لكن الآن قد ذهبوا،”يقول ماجي. ويضيف جوزيف: “اللبنانيون أيضاً”.

من التضليل القول أن القتال قد هدأ حول حلب بعد استمراره سنتين. وما يزال عدد المقاتلين في الخطوط الأمامية يتناقص. كان لدى النظام أكثر من 1000 مقاتل عراقي يقاتلون لجانبه حتى بضعة أشهر، سويةً مع مقاتلين من حزب الله من لبنان ومرتزقة من أفغانستان، التحالف الشيعي الذي اختفى بالكامل تقريباً. عاد العراقيون لوطنهم، فالدولة الإسلامية الآن تهدد بغداد، بينما حوّل حزب الله جنوده إلى دمشق. وأرسل الثّوار في شهر آب، من جهةً أخرى، آلاف المقاتلين من حلب إلى الشمال للحد من تقدّم مقاتلي الدولة الإسلامية. لقد جُمّدت الخطوط الأمامية، ولا أحد من الجانبين يتحرك. ويشير السكان المحليين إليها على أنها “الجبهة الباردة”.

الأربعاء، التاسعة صباحاً، بعدها بقليل أصبح هناك أصوات محرّكات تبعها صوت انفجار تسبب باهتزاز الجدران الواقعة على بعد مئات الأمتار. رياحٌ خفيفة تحمل سحابة غبار عملاقة عبر السماء. تحمل إمرأة بيدها كيسين من البلاستيك، وتمشي بهدوء في شارعٍ خالٍ بإتجاه التفجير، إنها حتى لم تباطئ خطواتها.

ليس بعيداً عن ذاك الموقع، في نهاية شارع عريض، وبعدها باتجاه اليسار. معظم المباني هناك مثقّبة بالرصاص، وترفرف الستائر من النوافذ المكسورة. ماتزال الأبنية شامخة، لكن معظمها خالية. وعلى شرفةٍ واحدة مائلة، كان رجلٌ يسقي نباتاته، وينظر للأسفل دون أن ينطق بكلمة.

طبقة خفيفة من الغبار غطّت المنطقة. بعد دقائق قليلة من التفجير، ذهب رجلٌ مغطى بالغبار الأبيض للحصول على بعض الماء، يغني بهدوء، ويغسل دراجته البخارية التي بقيت سليمة بأعجوبة. “سمعتهُ ” يقول محسن، الكهربائي الذي انضمّ إلى الثوار، يقولها مشيراً إلى صوت الصفير قبل التفجير. وقفز في الدقيقة الأخيرة إلى مدخل بناء مدعّم بالإسمنت المسلح. كان محظوظاً، لأن البرميل هبط في حفرةٍ صنعها برميل آخر سابقاً، مما حرمه من بعض قوته التفجيرية. يمشي محسن على الحطام، ويتجه نحو اليمين، يحصي عدد القتلى في الفناء المجاور ويقول بأسف: “ثلاثة موتى”.

 

إدارة مزودات الطاقة

إنه يشير إلى الدجاجات هنا، هي الأخرى نجت من الانفجار. بعد دقائق، وبعد تنظيف دراجته من الغبار، يجلس محسن مع رجال آخرين في القبو يتقاسمون مهماتهم. يتخذ البعض مواقعهم في المباني التي قُصفت على طول الجبهة. والآخرون يرتدون سترات بأكمام طويلة بالرغم من الحرارة، ويذهبون لحفر الأنفاق باستخدام المزاميل والمطارق والملاعق، والقضبان الفولاذية لإزالة الصخور الكبيرة، يحفرون ببطئ وبهدوء للسبب الأكثر أهمية وهو تفادي الكشف. إنهم يحفرون الأنفاق للإلتفاف حول مواقع الجيش، أو لتفجيرهم. أيضاً يحفرون الأنفاق لمنع الجانب الآخر من حفرها.

لا يتعامل الثوار مع الإرث التاريخي الحلبي بشكل مختلف عما يفعله جنود الأسد، لكنهم يستغرقون وقتاً طويلاً للقيام بما يمكن للجيش السوري فعله خلال دقائق. “في الأشهر الأربعة الأخيرة، تقدّمنا واستولينا على بناية، ولم نخسر أي شيء. تسيطر مروحيات الأسد على المجال الجوي، أما نحن نسيطر على الأرض”. قالها القائد أبو عرب، صاحب محل ألبسة سابقاً، والذي يدعوه رجاله بالشهيد الحي منذ أن استقرت رصاصة في رقبته، وشظية فوق عينيه.

الميليشيات والقوات التي تواصل الكفاح إلى جانب النظام تثير العصبية بينما تستمع للأصوات القادمة من الأسفل. كلا الجانبين لديهما آلات تصوير ثبّتت على الخط الأمامي للجبهة”، لكن مؤيدي الأسد لديهم كهرباء مدة ساعتين أو ثلاث ساعات فقط في اليوم”، قال أبو عرب. “نحن لدينا كهرباء 24 ساعة”. ولا تعمل الكاميرا بدون كهرباء. يجب عليهم أن يشغّلوا مولداتهم لهذه الحاجة، ولكن حينها لن يستطيعوا سماع ما كان يجري أكثر”.

يمكن للثوار الإنتقام – ولو جزئياً – للهجرة المستمرة من النصف الشرقي للمدينة عن طريق الطاقة الكهربائية، حيث أن أهم خطٍّ مغذٍّّ للتيار الكهربائي لكامل المدينة يأتي من حماه في الجنوب ويمر عبر شرق مدينة حلب في طريقه نحو القسم الغربي. ذلك يعني أن الثوار يمكن أن يقطعوا التيار الكهربائي كلياً عن القسم الغربي. كانوا سيفعلون ذلك أيضاً، رغم عدم وجود سبب لقطع الكهرباء عن المدينة بالكامل.

بإمكان كل جانب أن يبتز الطرف الآخر، لذلك عمل الوسطاء للوصول إلى حلٍ وسط: يتلقّى كلا الجانبين الكمية نفسها من الكهرباء. يوجد 2.2 مليون شخص يعيشون في القسم الغربي من مدينة حلب، أي عددهم 10 أضعاف الأشخاص الذين يعيشون في القسم الآخر، ما يعني أن حالة التغذية في التيار مختلفة بشكل جذري. في الحقيقة، بعض الأحياء في المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار كان لديهم كهرباء على مدار الساعة منذ أن أصلح مهندسون، عاملون لصالح مجلس المدينة، محطة توزيع الكهرباء في أوائل شهر أيلول.

 

” ليس وقتي “

 

عندما مشينا عائدين، كان مايزال الرجل المسن، الذي سقى نباتاته، ينظر من شرفته للأسفل، رحمو حسين عبدالله، 77 عاماً، هو آخر شخص بقي في شارع بيته. وبقدر ما هو مهتم، يمكن أن يبقى على هذه الحالة. فهو يقول: “اتركوني وحدي مع كتبي”. تملأ مكتبته غرفةً بأكملها، ويقول أنه يقضي أيامه بالقراءة والإعتناء بالبناء. ولكن، أليس من الصواب بالنسبة له رعاية نفسه والهرب قبل أن ينفجر برميلٌ متفجراً هنا؟

يقول عبدالله:” لا، ولماذا؟ لقد سقط هنا برميل من قبل، منذ ثلاثة أشهر، سقط أمام البناية تماماً”، هناك، حيث كان المخبز. كان العشرات ينتظرون دورهم في الطابور عندما ظهرت المروحية فوقهم. ربما لم يرغبوا فقدان مكانهم في الصف، أو ربما لم يتمتعوا بفرصة الهرب، على أية حال، عبدالله لم يكن في الطابور ذلك اليوم. كان منهمكاً بقراءة كتاب، ولم يكن جائعاً. طرق البرميل شرفته، ومزّق جدار غرفة الجلوس أيضاً محدثاً فجوة في الحائط، تلك الفجوة اللتي ملئت بالصخور الآن. لكنه يصر أنه لم يكن حظّاً. “الأمر فقط أنه لم يحن وقتي بعد “.

بعد موت جيرانه الأخير، اشترى عبدالله طائر حسّون لتفادي الوحدة، ويعلّم الطير التغريد حيث يشغّل شريط كاسيت قديم به تغريدات الطير. أحد الأمور الغريبة في القسم الشرقي من حلب هو وجود محلات لبيع الحيوانات الأليفة حتى الآن، رغم أن بعض المحلات الأخرى أُغلقت أو نُسفت بالكامل مع الأبنية الموجودة فوقهم.

يمكن سماع الطلقات في مكان قريب، ولكن عبدالله لا يجفل حتى. يقوم، بدلاً من ذلك، بروي قصص من كتبه حول النبي سليمان والملك نمرود، إسحاق ويوسف. يتحدّث عن عجرفة الأشخاص الذين يهدفون لأن يصبحوا صنّاع الحياة والموت، يتحدّث عن عقاب الله وعن البعوضة التي أرسلها الله لتقتل الملك نمرود رداً على غطرسته. “لا مفرّ من الموت”، يقول عبدالله.

مع ذلك، لم يرسل الله بعوضاً إلى حلب، لكن جيش الأسد يسقط – بدلاً من ذلك- براميل متفجرة ثقيلة. “لكن هذا لا يهم” يقول عبدالله. “ليست القنابل هي المشكلة، إنما وقت موتي، وقد حُدد مسبقاً”. هل من الجنون التفكير بهذه الطريقة؟ أم هي محاولةً لجعل الجنون الدائر حوله يبدو طبيعياً ، فحسب.

 

قوّة موحدة

تجد شرق حلب مجموعتين متباينتين مرميتين سويةً هما: حفّارو النفق والمتقاعدون الضّاجرون، أولئك الذين يؤمنون أن التكاليف ليست هَماً، فما زال لديهم رأي بخصوص قضائهم وقدرهم، والذين يؤمنون أن لا أحد يتخذ قراراً لنفسه على الإطلاق. لقد أصبحوا رفاقاً في الجحيم. ربما لكلٍ منهم إجابة مختلفة على السؤال عن السبب الذي يبقيهم هناك، لكنهم مازالوا هناك، وهذا ما يوحّد القوّة.

نادراً ما يبدي أحدهم العداوة تجاه النصف الآخر من المدينة. هو ورجاله يحاربون النظام، قالها قائد الثوّار أبو عرب. “ليس الناس هناك”. هذا لا يوقف الثوار عن إطلاق القذائف وعلب الغاز المليء بالمواد المتفجرة تجاه الجزء الآخر من المدينة. مداها قصير، ولكنها تقتل عشوائياً.

كل شخص تقريباً لديه أقارب أو معارف في القسم الآخر. حتى أنه هناك وكالات سفر في صلاح الدين مباشرة على الجبهة، والتي توفر رحلات بالحافلات “من حلب إلى حلب “. الرحلة عبارة عن 600 متر، كما يطير الغراب، وتستغرق 12 ساعة حيث تلف الحافلة طريقها عبر قسم كبير من شمال سوريا. الأشخاص الذين لا تتواجد اسمائهم على قائمة المطلوبين لدى مخابرات الأسد هم فقط لديهم الجرأة على القيام بالرحلة. وعلى ما يبدو لا يزال هناك طلب كبير على المقاعد في هذه الرحلات.

أحصى أحد الأشخاص الذين قاموا بالرحلة عدد نقاط التفتيش: “46 نقطة تفتيش” . “لم يهتم الثوار بمكان جلوسنا في الحافلة، ولكن جاءت خلافة داعش من بعدهم. كان على جميع النساء التحجّب بالكامل والجلوس في المقاعد الخلفية، بينما طُلب من الرجال الجلوس في المقاعد الأمامية. وكان على جميع النساء أن يكونوا برفقة أزواجهن، أو آبائهن أو أخوانهن في الحافلة وإلا لم يُسمح لهن بالسفر على الإطلاق!!” ولحل هذه المشكلة خلق سائق الحافلة أزواج وزوجات وهميين، ” أنتَ وأنتِ زوجان، وأنتَ وأنتِ زوجان” وهكذا..

ثم جاءت المنطقة الواقعة تحت سيطرة النظام. “على كل شخص أن يتحرك مجدداً، الرجال والنساء يجلسون مع بعضهم، لا غطاء على الرأس، ومن الأفضل وجود قنينة الفودكا في اليد”. من الصعب أن نتصور أن شخص يعيش في جزء من المدينة يقوم برحلة إلى الجزء الآخر والذي يحاول من فيه تدمير الجزء الأول، ويعود من بعدها إلى الجحيم، لكن هذا يحصل.

يتجمع يوم الجمعة عمال المياومة (العاملون باليومية) في الدوّار الوحيد الواقع في حي الحيدرية المهجور إلى حدٍ كبير، كما يفعلون كل صباح. يأتي أي شخص في حلب يحتاج إلى حرفيين أو عمال لبضعة ساعات إلى الدوّار. إنه المكان الوحيد في حي الحيدرية الذي مايزال الناس يجتمعون فيه. ما عدا ذلك، فالشوارع فارغة وهُجر المسجد حتى يوم الجمعة. في الساعة الثامنة من صباح الجمعة هذا، يوجد حوالي 15 شخص ينتظرون في الدوّار، بينما يجلس بضعة سائقين في شاحناتهم ذات المحركات المعطّلة على جانب الطريق. سيقول أحد الناجين – لاحقاً- أنهم لم يسمعوا مجيء شيء. وسيغمغم أحد المقاتلين من الحي بأسى أنه كان دائماً يحذّر الرجال من التجمّع في نفس الوقت من كل يوم. وسيقول أحد الناجين – بالطبع – أنه كان دائماً خائفاً ولكن، “مازال يتوجب عليّ إطعام عائلتي “.

في الثامنة وثلاث دقائق، مزّق برميلٌ متفجر ثلاثة مبانٍ والشاحنات الصغيرة و11 من العمال إرباً إرباً، وعند وصول المسعفين إلى موقع الحادث، وجدوا أشلاءً على أسطح المباني المحطمة، توفى الضحية الـ 12 في المستشفى. طلب الأطبّاء منا عدم ذكر اسم المستشفى ولا مكان تواجدها، “وإلا فذلك يزيد من فرصة قصفنا ببرميل، غالباً “.

الناجي الوحيد من أصل 18 شخص في نهاية الأسبوع كان محسن، الكهربائي الذي غنّى بينما كان يغسل دراجته.

يوجد في المستشفى ثلاثة من المصابين في تفجير الحيدرية، بتر الأطباء ساق أحدهم، والثاني يئنّ بصمت، والثالث، وبوجود كتلة من الضماد في المكان الذي اعتاد على وجود يده فيه، يقول باستمرار: “أين أنا؟” يقول ذلك مراراً وتكراراً، عبثاً وبلا أمل: “أين أنا؟”

 

ترجمها عن الألمانية: كريستوف سلطان.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.