عرس

رامز أنطاكي

“كنا نمضي أغلب العطلة الصيفية في حضور الأعراس والاحتفال بالعرسان، كنا نتذمر أحياناً من أن سهرة العرس تبدأ قرب منتصف الليل لتنتهي مع ساعات الفجر الأولى… أين كنا وأين صرنا؟”. هذا ما قالته غادة عند سؤالها عن أوضاع الشباب العازمين على الزواج في مدينتها حلب بعد مضي أكثر من ثلاث سنوات على بدء الثورة في سورية، تتحسر على الأيام التي ولّت وعلى عزوف الكثيرين عن الزواج بسبب الأوضاع.

من جهة أخرى يقول سامي أن الأعراس التي انحسرت في حلب بعض الشيء مع بداية اضطراب الأوضاع في المدينة، في توجه يعبّر عن ترقب أهل المدينة لهدوء مقبل لم يأت، عادت شيئاً فشيئاً إلى وتيرتها المعتادة تقريباً بعد أن أيقن المهتمون بعقد قرانهم أن انتظارهم ليس ذا فائدة على المدى القريب.

قيس الناشط في القسم الواقع تحت سيطرة المعارضة من المدينة يقول أن الأعراس صارت تبدأ قرابة الواحدة ظهراً في الكثير من الحالات، “فتوفر الكهرباء والحد الأدنى من الأمان بات ضرورياً، لينتهي الاحتفال قبيل غروب الشمس”، وحتى المهور انخفضت قيمتها على حد تعبيره رغبة من العروسين وأهلهما بتسهيل الأمور والمساعدة على إتمام الزواج في ظل الظروف الصعبة التي تشهدها البلاد، وبقي المقدم غير مقبوض عادة، بينما شهدت الاتفاقات السابقة للزواج تغيراً واضحاً، فلم يعد تملك العريس لشقة الزوجية شرطاً أساسياً كما في السابق، وتحول الزواج الذي يصطحب فيه العريس زوجته إلى خارج البلاد للسكن والاستقرار مرغوباً ومطلوباً على عكس ما مضى حيث كان أمراً غير محبّذ، “كانوا كأهل يتمنون لابنتهم أن تبقى بقربهم، فباتوا يتمنّون لها السفر برفقة زوجها طمعاً بالأمان الذي بات مفقوداً وفي الحياة الأفضل”، ويضيف قيس بسخرية: “أمسى من الكافي أن يجلب العريس مولدة كهربائية أو اشتراك في الأمبيرات كي تكون العروس وأهلها في قمة السعادة”.

في الإطار عينه عادت ممارسة كانت قد اندثرت أو كادت قبل عشرات السنين، فانقطاع الطرق وسبل المواصلات، وتضرر حركة الطيران، دفع البعض إلى عقد قران العريس والعروس بالوكالة بواسطة والديهما، في غياب العريس المغترب، لتسافر بعدها العروس التي أصبحت على ذمة العريس الغائب في رحلة خطرة إلى تركيا فالدولة التي يستقر فيها العريس حيث سيعيشان معاً.

حفلة العرس بحسب أحمد أحد العازفين المحليين الذي يكثر الطلب عليهم لإحياء حفلات مشابهة لا تتغير كثيراً إلا بتغير التوجه السياسي لأصحاب العرس، ففي الأعراس التي تقام في المنطقة التي تسيطر عليها المعارضة يتحول الاحتفال إلى ما يشبه المظاهرة التي تنادي بسقوط بشار الأسد ونظامه، في انعكاس طبيعي متوقع لرأي سكان تلك المنطقة الذين يعانون يومياً من قصف قوات نظام الأسد لمنطقتهم، أما في الأعراس التي تقام في المنطقة المقابلة الواقعة تحت سيطرة النظام فغالباً ما يمرر مغنّي حفلة العرس أغان “تشبيحية” على حد تعبير أحمد كأغنية “ارفعوا ايديكم بالعالي” التي يغنيها المغني السوري سامر كابرو مادحاً الأسد خلالها، ويضيف أحمد: “بينما إن كان أهل العرس من جماعة (الله يطفيا بنورو) أي ممن يتجنبون المواقف المعلنة، يندر غناء أغانٍ واضحة التوجه السياسي”.

في السياق نفسه بقي المصاغ الذهبي المقدم في العرس على حاله لجهة الكم والنوع مع تغيير طفيف حسب كل حالة، رغم أن سعر هذه المصوغات قد صار بعيداً عن متناول فئات واسعة من السوريين، وذلك لارتفاع سعره عالمياً بالإضافة إلى انخفاض قيمة الليرة السورية حتى باتت اليوم تقارب حد المئتي ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد، وتعتبر ثناء ربة المنزل المقيمة في حي سيف الدولة أنه كما في السابق يعد المصاغ الذهبي ضمانة للعروس يقيها شر تقلّب الأحوال في المستقبل وهو أمر لا يمكن التنازل عنه بسهولة.

وتشتكي ربا التي تقيم في شطر من المدينة مختلف عن ذاك الذي بقي أهلها فيه من ندرة الشبان الراغبين في الزواج: “هم قلائل على أي حال، فالسفر والخدمة العسكرية أو الانضمام إلى إحدى فصائل الجيش الحر، بالإضافة إلى موت الكثيرين جراء الحرب أفرغ البلد من شبابها”، وتعتبر ربا أن الحرب لا تميّز بين رجل وامرأة لكن الذكور يغلبون على ضحايا المعارك والقصف والأعمال العسكرية بطبيعة الحال.

أما معدلات أعمار المقبلين على الزواج فانخفضت قليلاً وهذا ما يفسره البعض برغبة المعنيين في عيش حياتهم التي باتت مهددة طيلة الوقت، أو دفع الأبناء للزواج في رغبة مشابهة وربما أيضاً طمعاً في أن يتحملوا مسؤولية أنفسهم ويخففوا عن كاهل أهاليهم، وربما هذا ما يفسر تلك الظاهرة التي يلاحظها رافل الذي وصفها بحديثه: “ترى زوجين في عمر الشباب، يحملان طفلاً ويمسكان بيد الآخر بينما بطن المرأة منتفخ دلالةً على طفل قادم في المستقبل القريب”، هذه الظاهرة المتمثلة في ارتفاع معدلات الانجاب فسرها طبيب نفسي يعمل في أوساط المتضررين من الحرب رفض الكشف عن هويته، بالرغبة في تعويض القتلى الذين سقطوا، والرغبة في تحدي الموت وقساوة الحياة، كما يشير إلى “ثقافة مجتمعية ودينية متجذرة لا يمكن تجاهل دورها في تصاعد معدلات الإنجاب رغم صعوبة الظروف”، ولكن الطبيب يشير أيضاً إلى عدم توفر احصائيات ودراسات علمية يمكن لها أن تقدم أرقاماً موثوق بها حول هذه الظاهرة ومدى واقعيتها.

“الحياة ستستمر، والحي أبقى من الميت” يقول شعبان الذي فرح بزواج ابنته الوحيدة مؤخراً، لا يخفي خوفه من المستقبل، لكنه يصر على التحلي بالأمل وانتظار غد أفضل يتمناه لأحفاد ينتظرهم في بلد “لا ظلم فيه ولا حرب، ولا قوي يأكل حق الضعيف”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.