طعام

رامز أنطاكي

لا يشغل بال الشاب السوري الذي اضطر للانتقال إلى خارج بلده موضوع الأكل والشرب بتفاصيله، خاصة في الفترة الأولى لانتقاله، حيث ينصب تركيزه على البحث عن مسكن ملائم، ومصدر رزق يعتاش منه. لكن بمرور الوقت، خاصة في حالة الشاب الذي يعيش منفرداً أو دون عائلته، يبدأ همّ القوت اليومي بالتحول إلى ثقل دوري، سواء على الصعيد المادي أو على صعيد نوعية الطعام، فضغط الحياة، وضيق المساحة بالإضافة إلى الوحدة، كلها أمور تجعل الأكل الجاهز والوجبات السريعة هي الحل الأسهل للوهلة الأولى.

أمير مشارقة القادم من مدينة دمشق، يدرس في جامعة بيروت العربية ويعمل في مطبعة قريبة من منطقة الجامعة، كما يسكن حياً قريباً مع مجموعة من الشبان الذي يتقاسمون السكن من أجل توفير أموالهم القليلة وتخفيف ضغط نفقاتهم، يقول إن وقته الذي يوزعه بين الدراسة والعمل لا يبقى منه ما يكفي كي يقضي وقتاً في تسوق مكونات الطعام والتوجه بها إلى المطبخ ليعد طعاماً بيتياً لنفسه، مؤكداً أن “الأكل المنزلي وطبخ أمه هو من أكثر الأمور التي يفتقدها في عزلته عن الأهل هنا”، لكن واقع الحال يجبره على تناول الصندويشات الجاهزة والوجبات السريعة من المحال المتوافرة قرب جامعته في الفترة ما بين نهاية محاضراته الجامعية وبداية دوام عمله في المطبعة، وهو الأمر الذي أحبه في الأشهر الأولى، لكنه اكتشف مؤخراً أن مستوى لياقته البدنية قد تراجع، وأن نوعية طعامه لا توفر له التنوع المفروض بين اللحوم والحبوب والخضار والفواكه… بدأ مشارقة بالبحث عن حلول للمشكلة التي لمسها لكنه لم يوفق بعد بحل يناسب وضعه كطالب وعامل سواء لجهة الوقت أم لجهة الكلفة.

في المقلب الآخر من مدينة بيروت نجد شذى صوان الموظفة السورية في إحدى المنظمات الإنسانية الدولية، تسكن شقة صغيرة في الجميزة، وتعاني من المشكلة ذاتها مع الطعام يومياً، فانشغالها الدائم ومهاراتها السيئة في الطبخ جعلاها تتوجه إلى تناول الأكل الجاهز الذي يباع في المحلات القريبة من منطقة سكنها، لكن مع بدء ازدياد وزنها وتراجع قوة مناعتها ضد الأمراض، علمت أنها لا بد أن تغير من نمط سلوكها الغذائي. وتخبر صوان عن تجربتها: “بدأت بإعداد السلطات المنزلية التي لا تتطلب مهارة أو خبرة، كما شرعت في تجنب الوجبات السريعة لحساب تناول الطعام في محل مجاور يقدم وجبات طبخ تشابه ما كنت أتناوله عادة في منزلي أهلي في حمص”.

في السياق نفسه صفحة Yam-Yam على موقع فيسبوك للتواصل الاجتماعي تقول: “خشبت معدتك من أكل السوق؟! مشتاق لأكل البيت؟ شو عبالك تاكل اليوم؟”. مقدمة وجبات مطبوخة منزلياً مرفقة بخدمة التوصيل إلى من يطلب هذه الوجبات، بسعر مقبول يقابل نوعية ممتازة من الطعام.

أماني وصديقها حسام السوريان المقيمان في بيروت أسسا مشروع Yam-Yam انطلاقاً من الحاجة التي لمساها لدى الشباب السوري المقيم لبنان، وأيضاً من محبة أماني للطبخ المنزلي الذي تجيده، فهي تعلمت مبادئه من والدتها في دمشق ثم من والدة صديقتها الحلبية، كما تعرفت إلى المطبخ الحموي والفلسطيني مع إضافة لمستها الخاصة في مطبخ منزلها في بيروت، محولةً الهواية إلى عمل بهدف جني الربح تحت وطأة ضغط ظروف الحياة. يحرص الصديقان على توفير المواد الطازجة والنظيفة لمكونات الطبخات، كما في المنزل تماماً، فالمشروع رغم غايته الربحية إلا أنه يعمل وفق العقلية المنزلية التقليدية التي تركز على النظافة والنكهة والسخاء، وما زال الشريكان يستدلان إلى الأماكن التي يجلبان منها المواد الأولية الجيدة بأسعار مقبولة شيئاً فشيئاً.

تحدد أماني الوجبات الخمس التي ستعدها كل أسبوع سلفاً وتعلنها على صفحة المشروع على فيسبوك، كما تتلقى رغبات الزبائن عبر الصفحة وتحاول أن تلبيها، وتطبخ أحياناً على مرحلتين كي تلبي كل الطلبات التي تتوزع بين الموعد الاعتيادي للغداء عند الساعة الواحدة والنصف، وموعد يناسب موعد انتهاء أوقات دوام الموظفين قرابة الخامسة من بعد الظهر.

يقوم الزبائن بطلب وجباتهم في اليوم السابق، أو في اليوم نفسه حتى الساعة الحادية عشر، كما يوجد خيار الاشتراك الشهري الذي يوفر وجبات يومية عدا السبت والأحد بكلفة أوفر من الطلب اليومي على مدى شهر، كما يسهل هذا الخيار العمل والتخطيط على القائمين بالمطبخ. توصيل الوجبات إلى طالبيها كان يتم سيراً على الأقدام خلال الفترة التجريبية الأولى، بينما يتم الآن عبر خدمة “دغري” وهي خدمة توصيل على الدراجات الهوائية ضمن مدينة بيروت وضواحيها، يقوم بها مجموعة من الشبان بينهم لبنانيون وفلسطينيون وسوريون، تشجع استعمال الدراجات وتشجع الحفاظ على البيئة.

تتمنى أماني أن يستمر المشروع ويتوسع، وحتى في حال سفرهما إلى خارج لبنان تقول إنه يمكن أن يطلق المشروع من جديد في البلد الذي سيحلان فيه، معولة على جودة الطعام الذي تقدمه.

قد لا تعني هذه المشكلة نسبة لا بأس بها من السوريين في لبنان، لكنها تشكل أمراً مهماً لشريحة واسعة منهم وبالذات من هم في عمر الشباب، خاصة أن بعضهم قد اضطروا للانسلاخ عن منزلهم الوالدي فجأة دون سابق تحضير جراء الوضع الذي يشهده بلدهم، وبين الطعام الجاهز والوجبات السريعة المضرة بالصحة على المدى الطويل، وبديلاتها من وجبات الطبخ المنزلي يحاول السوريون المعنيون بالأمر إيجاد معادلة توفق بين وقتهم وجيبهم ومعدتهم.

 

 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.