حسام موصللي

“هذا الفيلم* مريض، وفناءُ البشرية رحمة”، ليس بالمُستبعَد أن يكون ما سبق هو تعليقك الوحيد قبل أن تنامَ مُنهَكاً بعد مُشاهدة فيلم مُدّته تُقارب الثلاث ساعات، بصمت مُطبق وتركيز عال. خصوصاً وأن هذا الفيلم “المريض” يتناول القتل والتعذيب بطريقة غير مسبوقة، إذ أن أبطاله هُم القتلة ذاتهم. لك عزيزي أن تتخيّل مستوى العنف النفسي الذي ستعيشهُ طوال هذا الفيلم، فأنتَ مُشاهِد استثنائي يُدرك تماماً مَعنى أن يكون الإنسان ضحية للسجن والتعذيب، ووصل بك الأمر أن تتعايش مع الموت كرفيق لأنفاسك لمدّة تُقدّر بالسنين وليس بالساعات.

 

يَعترفُ القاتل أمام الكاميرا، وبكلّ رحابة صدر، أنّه أنهى لوحده فقط حياة ألف ضحية، وبأساليب مُتعدّدة- اقتبسَ معظمها من أفلام رعاة البقر التي تسحُره- ولو أنّه كان يُفضِّل في الغالب خنق ضحاياه باستخدام سلك من الحديد ولوح من الخشب، لأنّ ذلك على حدّ تعبيره: “لا يؤدي إلى نزف الكثير من الدماء، وبالتالي لا يؤثر على رائحة الغرفة”.

نعود إليك يا صديقي، وأنت بالتأكيد أكثر واقعية وتصالحاً مع الطبيعة الشريرة للإنسانية، ولستَ مواطناً أوروبياً يعيش أحلامه المثالية (وما قد تَعتبرُهُ مشاعر هزيلة و”مياعة”) لدرجة أنه قد يلازم فراشه أسبوعاً بلا حراك فقط لأنّ سائقاً أرعن دهس قطة في الشارع، ثم أماطها عن الطريق دون أن يدفنها بطريقة لائقة! ألم تعتقِد طيلة الفيلم أنّك تعرف هذا القاتل بصورة شخصية؟ مُحقّق، سجّان، مُرتزَق يقف على نقطة تفتيش “حاجز”؟ لن أتّهمك بأنّك تعاطفَت في لحظات قليلة مع القاتل في الفيلم، فذلك مَردُّه موروثات تقليدية تَتعلّق بشَعرِه الأبيض، والشبه بينه وبين الممثل الأميركي “#مورغان_فريمان”، وطقم أسنانه الذي يفكّه ثم يعيد تركيبه طيلة الوقت.

ولكن، فيما عدا ما سبق، فالحالة العامة هي أنك ما كُنت لتتردّد في تسليم هذا القاتل إلى أبناء ضحاياه الألف، أقصد الألف وواحد- فأنت أصحبت في عداد الضحايا أيضاً بمجرّد أنك شاهدتَهُ- ثم النظر إليه مُتشفّياً بينما يقتلونه آلاف المرّات. مع ذلك، تبقى العقوبة التي أوقعها المخرج بالقاتل هي الأشدّ فتكاً و”مرضاً” من أسلوب الانتقام التقليدي، حيث لجأ مخرج الفيلم الذي يطلبُ من القاتل أن يُعيدَ تَمثيل جرائمه إلى الطلب من الأخير تمثيلَ دور أحد ضحاياه، وعندما وصل المخرج إلى مَشهد الخنق بسلك من الحديد، انهارَ القاتل ولم يعُد قادراً على متابعة الدور، علماً أنّه كان يؤدي دور الضحية بطريقة مثالية وكأنه ممثل عالمي ومخضرم، وعن هذا الأداء يقول القاتل في نهاية الفيلم: “أعلمُ أنّي أدّيتُ دور الضحية جيداً، لقد شعرتُ بهم جميعاً دفعة واحدة، وشعرتُ بكلّ ما كانوا يشعرون به”، ومنذ تلك اللحظة، نلاحظ الكم الهائل من العنف النفسي الذي أصاب القاتل دفعة واحدة، وأن آلام ألف ضحية تتملكه كيفما تحرّك، لدرجة أنّه عندما عاد إلى غرفة القتل، لم يعُد قادراً على الحديث إلى الكاميرا، وقضى الوقت كله بين رعشة وتقيؤ؛ مع العلم أنّهُ كان في بداية الفيلم، وفي الغرفة ذاتها، يرقص ويضحك بينما كان يشرحُ بإسهاب كيف كان اعتاد أن يسحلَ ضحاياه من الشيوعيين والصينيين ثم يقتلهُم باستخدام السلك ذاته.

في السياق نفسه، سأتحدّث عن القتلة الخاصين بنا، فما هذا الفيلم إلّا تجسيد لواقع نعانيه أيضاً بصورة شخصية. لقد سَعت مُبادرات عديدة، محلية ودولية، عفوية وممنهجة، منذ بداية الثورة في #سوريا للعمل على ضبط حالة البلاد على الأرض خلال مرحلة ما بعد سقوط نظام #الأسد. واشتغل عدد من ناشطي حقوق الإنسان على نشر مفهوم العدالة الانتقالية وسُبل تطبيقها على النموذج السوري، بالاستفادة من استحضار تجارب دوليّة تندرج تحت تصنيفات مختلفة، على غرار الثورات والانقلابات العسكرية والحروب الأهلية والحروب بالوكالة… إلخ بيد أن تلك المُبادرات- ناهيك عن التطمينات التي مازال السياسيون والعسكريون يسوقونها على حد سواء، ابتداءً من #بان_كي_مون وانتهاء بأبو محمد #الجولاني- تظلُّ عاجزة عن إيجاد بديل مَنطقي لأعمال الثأر والانتقام المتوقعة لغاية اللحظة، حيث من الوارد أن يتجاوز مُستوى العنف خلال سنة واحدة ما بلغه خلال خمس سنوات من العنف غير المسبوق. ويبدو أن الطرح الذي ينتهجه المثقفون من خلال شعارات أفلاطونية مكرورة، لن يكون كافياً بالتأكيد لضبط البراكين الثائرة داخل الصدور.

لذا، ومن باب حقن ما يُمكن حقنه من دماء، مع التشديد على عدم التفريط بالعدالة والحقوق، يجبُ العمل على إيجاد حلّ غير تقليدي، على شاكلة المأزق نفسه، وإلا سيكون من الأفضل العمل على إبادة ذاكرة جيلين كاملين بأفرادها ووثائقها، ونقل المُشكلة إلى عالَم آخر!

* يتناول الفيلم التسجيلي “فعل القتل” Act of Killing، 2012 للمُخرج جوشوا أوبنهايمر المجازرَ التي ارتُكِبَت في أندونيسيا أواسط الستينيات، وراح ضحيتها ما يُقارب مليون شيوعي وصيني. حاز الفيلم على العديد من الجوائز العالمية، كما ترشّح إلى جائزة الأوسكار في العام  2014.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.