د.محمد حبش

صدر أخيراً كتابي النقدي: العقوبات الجسدية وكرامة الإنسان – نحو فقه إسلامي مناهض للتعذيب، وقد تولى إصداره أصدقاؤنا السوريون في #المعهد_الاسكندنافي لحقوق الإنسان في #جنيف.

 

وعلى الرغم مما أتوقعه من نقد شديد لدى المحافظين ولكنني على ثقة أن الكتاب سيغير كثيراً من التصورات التي أساءت للإسلام من حيث ظنت أنها تحسن إليه، ومارست تطبيق أنكى أشكال التعذيب تحت عنوان عريض: إقامة حدود الله.

لقد صدم العالم بالتطبيق البيوريتاني لداعش والجبهات الإسلامية الأخرى للحدود، حيث أقام الجلادون القساة مهرجانات سوداء لتعذيب الناس بالجلد والرجم والسحل والحرق تحت رايات التوحيد، مع أن تطبيق هذه العقوبات أياً كان لا يحتاج إلى هذه المهرجانيات، أو على الأقل كان بالإمكان تجنيب شعار التوحيد المحبب إلى القلوب من هذه التطبيقات القاسية.

وكانت الصدمة أكبر عندما تولى بعض الفقهاء الرد على هذه الممارسات من زاوية واحدة وهي أن من يقوم بها غير مؤهل شرعاً لذلك، ولكنهم لم يقولوا شيئاً بشأن إمكانية إلغاء هذه الأشكال من العقوبات والتحول إلى عقاب إصلاحي كريم يحترم كرامة الإنسان ويسعى إلى إصلاحه.

وهكذا فإن هؤلاء لم يروا أي خطأ في الرجم والقطع والحرق ولكنهم قالوا يجب الاحتياط في ذلك وانتظار قيام #الدولة_الإسلامية الحقيقية حتى تقوم بتطبيق هذه العقوبات من جديد، وظل هؤلاء يرددون أن إقامة حد في الأرض خير من صلاة أربعين عاماً.

تستعرض الدراسة بتفصيل تاريخ إقامة الحدود في الإسلام، وتؤكد أن نسق العقاب في الحدود هو نسق عالمي كانت تمارسه آنذاك كل الثقافات والشعوب، ولم يكن الاسلام في جانبه التشريعي يتناقض مع العرف، وكانت أحكامه التشريعية تتشابه مع الانظمة السائدة في العالم، التي كانت تتقبل العقوبة الجسدية، ولم يكن هناك انتقاد محدد للاسلام في قضايا الحدود، حيث كان هذا اللون من العقاب معروفاً وسائداً في العالم كله.

وكانت عقوبات الرجم والجلد والصلب معروفة تماماً في الحضارات السائدة وكانت تطبق في الامبراطورية اليونانية الفارسية والرومية، وهو أمر لا يحتاج إلى دليل ويمكن القول إن #أوروبا ظلت تطبق هذه الأحكام إلى عهد قريب، ولا زالت المقصلة بنوعيها لقطع الرؤوس وقطع الأيدي وقطع الأرجل موجودة في المتاحف وبجوارها إحصاءات لا تنتهي من تطبيقات هذه الحدود.

ومن أدوات التعذيب التي اشتهرت في العصور الوسطى مقلاع الثدي وشوكة الهراطقة والمرشة الحديدية وكاسر الأصابع والمخلعة والتابوت الحديدي وعجلة كاثرين ومهشم الرأس والإجاصة وكرسي المسامير والحمار الأسباني والنشر بالمنشار والخازوق والربط بالأحصنة والتعذيب بالجرذان…[1]. وهي أدوات تغني أسماؤها عن رؤية أشكالها الرهيبة التي قام فيها الإنسان بسحق أخيه الإنسان تحت عناوين حقوقية وقانونية ودينية.

وكانت #الجزيرة_العربية تعرف هذا اللون من العقاب الجسدي، وقد مارست القبائل العربية هذا اللون من العقاب، وفي مجتمع #مكة و #المدينة كان هناك رجم وقطع وصلب، وهو ما أقره الإسلام في نصوص قرآنية معروفة، ومع أن هذه الحدود قد أعلنت في #القرآن_الكريم ولكن تطبيقها ظل محدوداً وفي نطاق ضيق.

ولكن عصر عمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد تطوراً حقيقياً في قيام الدولة، ويمكن اعتبار الفاروق منعطفاً مؤسساً للانتقال من عهد شبه الدولة إلى عهد الدولة، حيث كتبت في عهده الدواوين وفرض الخراج وصكت العملة واستحدثت السجون الاصلاحية، وقامت علاقات دبلوماسية جيدة مع دول الجوار ونصب اثنا عشر ألف منبر للإسلام وتم فتح المشرق العربي وخرح الاحتلال الفارسي من #العراق والرومي من #الشام، وتم بالفعل تجاوز عصر الجماعة إلى عصر المجتمع، ونجح في تحديد ملامح الحكم الإسلامي على معيار الدول واستحقاقاتها.

وفي عهد عمر توقف العمل بعدد من الاحكام التي كانت سائدة، وخاصة الصلب والرجم وقطع اليد.

وقد وردت أخبار متناقصة عن عمر بن الخطاب أنه أقر الرجم وأنه نهى عنه، وأنه أمر بقطع اليد وأنه نهى عنها، ولكن من المؤكد الذي لا خلاف فيه بين المحدثين أن أياً من هذه العقوبات لم تستخدم خلال حكمه الذي امتد عشر سنوات.

ونحتاج في الواقع إلى مراجعة جريئة لاجتهادات عمر بن الخطاب التي كانت تؤسس لفهم مختلف يتصل بمقاصد الإسلام العليا في العدالة ويؤمن بتطور الأحكام بتطور الأزمان.

وخلال التاريخ الاسلامي فإن التطبيق العملي لحدود الرجم والقطع والصلب كان ينحسر إلى حد بعيد عندما تستقر الدولة وتتعزز الحياة المدنية، واعتبر موقف عمر بن الخطاب بمثابة سنة متبعة في وقف العمل بهذه الحدود، وفرض عقوبات تعزيرية إصلاحية بشكل مستمر، دون المساس بثبوت النص القرآني في القطع والصلب، أو ثبوت نص الحديث في مسالة الرجم.

والتأمل في جوهر التطبيق الحقوقي لهذه الأحكام سيكشف لنا عن مفاجأة صادمة، وهي أن الفقه الإسلامي العملي، وبالتحديد القضاء الشرعي قد توقف عن تنفيذ عقوبتي الرجم والقطع منذ أكثر من ألف عام، وأن الفقه الإسلامي تمكن بالفعل من مجاراة التطور الحقوقي العالمي عبر تقرير العقوبات التعزيرية الإصلاحية المختلفة في حين أوقف وبشكل شبه كامل عقوبة قطع اليد وعقوبة الرجم، ولكن من دون أن تظهر صكوك تشريعية واضحة في ذلك.

ويمكن القول إن تطبيق هذه الأحكام قد توقف منذ اتخذ الحكم الإسلامي شكل الدولة، وهو شكل يفترض أنه لا يملك نزعة الثأر والانتقام، ويقوم مقام الراعي من الرعية، واستمر الأمر كذلك إلى ظهور حركات السلفية الجهادية وأهمها الحركة الوهابية الاولى في القرن الثامن عشر التي رفضت هذا الواقع واعتبرته تخلياً من الأمة عن الشريعة وعموم ردة، وفرضت تطبيق حدود الرجم والصلب والقطع والجلد وفق ما كان قد توقف قبل ألف عام.

وهكذا فإن ما مارسه القضاء الشرعي الإسلامي نحو عشرة قرون كان يقضي بتجنب قطع اليد ورجم الزناة، ولم نسجل حوادث تذكر قام فيها الخلفاء بقطع أيدي لصوص أو رجم زناة، بل كانت العقوبة دوماً تذهب إلى التعزير حيث يقرر ولي الأمر العقوبة المناسبة بعيداً عن القطع أو الرجم أو الصلب.

فما الذي جعل الأمة الإسلامية تعرض عن إقامة القطع والرجم والصلب أكثر من ألف عام حتى قامت الحركات الثورية الإسلامية بإعادة إحياءه من جديد؟

والجواب التقليدي الذي تقدمه السلفية الجهادية أن الأمة أعرضت عن شريعة الله قرونا طويلة، وتركت الحاكمية واختارت الكفر والشرك، (ويشمل هذا سائر الدول الإسلامية القائمة كما يشمل الدول الاسلامية التي قامت تاريخياً كالأموية والعباسيية والحمدانيين والفاطميين والأخشيديين والطولونيين والسلاجقة والخوارزمية والنورية والزنكية والأيوبية والعثمانية)  وعطلت الجهاد والحدود ولا بد من ثورة إسلامية جديدة لإعادة تطبيق شرع الله.

وهذه المقولة هي التي دفعت المتشددين من أطراف الأرض للبحث عن مكان تطبق فيه هذه الحدود من جديد بعد أن أعرضت عنها سائر الدول الإسلامية، وأصبحت الديكتاتوريات المتهاوية أنسب مكان لتطبيق هذه الحدود حيث لا وجود للدولة وحيث تتفاقم مشاعر القسوة والثار، حيث اعتادت الناس هذه الأشكال من العقاب.

ولكن الدراسة تمضي إلى تأكيد حقيقة أخرى، وهي أن الأمة الإسلامية لم تختر تطبيق الحدود بالآلة القديمة لأنها كفرت بدين الله أو أعرضت عن سبيله، ولكن لأنها آمنت بقدرة الفقه الإسلامي على التطور والاستجابة لتطورات الحياة، وتقديم بدائل حضارية مناهضة للتعذيب في كل أشكال العقاب الحقوقي.

تقدم الدراسة مفاجآت صادمة في إطار تقبل الفقه الإسلامي العميق لمبدأ تطوير آلة الحد من الجلد والقطع والرجم إلى العقاب الإصلاحي، وتقدم الدراسة عشرات الأدلة أن الآلة التي اختارها النص لتطبيق الحد ما هي إلا آلة العصر السائدة، تماما كما كان النص يشيد بالخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة، وكما أشاد بالأنعام التي خلقها لكم فيها دفء ومنها تأكلون ولكم فيها جمال حين تريحمون وحين تسرحون.

وتقدم الدراسة مقاربات أصولية دقيقة لإمكانية تطوير آلة الحد وفق منطق حضاري تماماً كما تطورت الدواب إلى السيارات والطائرات بدون نكير، وكما تطور السلاح من السيف إلى البندقية وكما تطور النور من السراج إلى المصباح، ويخلق ما لا تعلمون.

إن إصرار العقل السائد على تحديد جوانب التطوير في حياة المسلمين بالسنن الكونية والفيزيائية ورفضه لتطوير ذلك وفق السنن الاجتماعية يعتبر تناقضا غير مفهوم، وتؤكد الدراسة الدعوة بوضوح على وجوب اعتبار السنن الاجتماعية في مكانها التاريخي إلى جانب السنن الفيزيائية، حيث يتأكد بوضوح المعنى الجليل الذي طرحه الإمام ابن القيم بعبارته السهيرة: حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله.

هل تستطيع هذه الدراسة أن تقدم الأدلة الكافية على أن الفقه الإسلامي قابل للتحضر وأن التطبيقات البدائية للحدود هي شكل من أشكال الفهم الظاهري الذي قاومه الفقه الإسلامي العميق خلال قرون طويلة من البحث والاجتهاد؟

هذا ما تجيب عنه الدراسات اللاحقة والنقد العلمي الذي سيغني لا شك هذه الدراسات ويثريها.

[1]الصور المريعة لهذه الأدوات في موقع مملكة الخوف.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة