د.محمد حبش

حين تقدم فهد القباع وسط جامع الصادق في #الكويت ليفجر نفسه صرخ قائلاً أريد أن أتناول الإفطار مع سيدي رسول الله!! وكأن رسول الله لا تطيب مائدته إلا برائحة الدم والموت!! لقد كان يعكس قناعة كثير من أبناء المجتمع الذي سقط ضحية التحريض وأصبح يمتلك أشد القناعات ظلامية وإقصائية وعنفاً.

لا تضيف هذه المقالة معلومات جديدة عن تفجير مسجد الصادق للشيعة في الكويت، ولا تقدم إضافة لصور القصف المتعمد لمئات مساجد السنة في #سوريا التي دمرتها كتائب النظام أو كتائب موالية له عن عمد، وكثير من هذا العمد حقد طائفي حقيقي لا يمكن تفسيره بشيء آخر.

ويبدو أي تحليل نقدمه أقل تأثيراً من سيل الأشرطة المسربة التي تغمر عالم الانترنت الأخضر وتحيله إلى عالم أحمر لا مكان فيه إلا لجثث الموتى.

ولكن هدف هذه القراءة هو متابعة أولئك المحرضين الشركاء في الإثم، وهي دعوة لمراجعة طريقة خطابنا الذي قد يكون في خدمة هذا الشر ونحن لا نعلم.

التحريض هو الجريمة الحقيقية، فالغباء الذي يمارسه الانتحاري المسكون بوهم الميثولوجيا، لا يبدو في معايير الشر شيئاً أمام المكر الذي يبدو في شفاتير المحرض الذي مارس الصياح والغضب والتكفير والتحريض في الإعلام أو في خطب الجمعة، ثم راح يتابع برامج الموت على شاشة التلفزة، ويفرك يديه بشماتة ومكر.

الانتحاري رجل سوء جاهل، وأنا لا أقلل من جريمته ولكنه لا يحمل المكر الذي يحمله المحرضون الذين يقدمون جرعات الموت للذاهبين إليه وهم في فنادقهم وعنابرهم ومساجدهم التي صارت تفوح برائحة الدم، وحين يضحي بروحه فإنه يعكس على الأقل قناعته بما يقوم به، ولكن فلاسفة الموت الذين يعيشون حياة زعماء المافيا، يتبادلون على الفيس والتويتر عبارات التهاني بمهرجان الموت الذي أدت إليه فتاويهم دون أي وخزة ضمير.

التحريض ليست كلمة عابرة، ليست أثراً جانبياً من آثار الجريمة، إنه جوهرها وسداها ولحمتها، وحين تتم  المحاسبة فهؤلاء هم من يجب أن يكونوا أمام أقفاص الاتهام.

البداية لا تكون من فعل الأمر اقتل أو فجر او انتحر… البداية تكون من دعاوى امتلاك الحقيقة الفارغة التي يقدمها خطباء غاضبون يمارسون على منابرهم كل أشكال تبرئة الذات وطهرنتها، سواء كانت فكرة أو زعيماً أو مذهباً، أو حتى شخصاً، ومن ثم الهجوم الضاري على المخالفين واستخدام كل أخلاق السوء من التحقير والسخرية والاستهزاء واللعن وأخيراً التكفير، وهو سلوك لئيم يمارسه كثير من خطباء الجمعة في الجانبين ويعدون ذلك ضرورة ومسؤولية، وأصبح من المؤكد أنهم يحصدون ثناء العامة كلما كان الغضب أشد، وكلما كانت العبارات أكثر جرحاً وإيلاماً.

يجب أن نتذكر في الجانب السني أن فتاوى تكفير الشيعة منذ عقود تملأ الكتب والفضائيات، وكثير منها مذيل بتوقيع هيئة كبار العلماء في #السعودية، وهي تأتي ملفوفة بعشرات الكتب والكتيبات والمناشير والفضائيات التي لا تتردد أبداً في وصف الشيعة بالكفر والزندقة والصفوية والمجوسية والمتعوية، وأن مذهبهم برمته قد كتبه اليهودي عبد الله بن سبا ، وأن خلاصة فقه القوم أنهم يدعون إلى ارتكاب الرذائل عبر نكاح المتعة، إلى آخر ذلك من خطاب التحريض اللئيم.

المشكلة أننا نقرأ دائماُ بعين واحدة، والواقع أن جرائم التحريض تتم ممارستها في الطرفين المتحاربين بدون توقف، وأن الناس أصيبت بالعور فلا ترى إلا بعين واحدة، ومن العسير أن تملك الجرأة للقول بأن التحريض قدر مشترك بين الفريقين وأن لدى كل من الغاضبين أسباب وجيهة وأن الحل يكون باعتراف الفريقين بأن التحريض عمل شرير وأن على الكل اجتنابه.

ويجب أن نتذكر في الجانب الشيعي أيضاً أن قنوات فضائية كاملة مخصصة للتحريض والكراهية، وعندما يقوم أشرار محترفون بعقد مؤتمر بلافتات عريضة تنقله عدة فضائيات بعنوان: عائشة في النار!!  ومؤتمر آخر بعنوان حفصة في النار!! وتقيم قناة أحرى تكريما لقاتل عمر أبا لؤلؤة وتسميه شجاع الدين، ويتم تصويره في الفضائيات والترويج له ونقله فضائياً، كيف يمكن تفسير مثل هذا الجهد الدنيء؟

الرافضة هو الاسم العدواني الذي يمارسه الخطاب السني ضد الشيعة، والناصبة هو الاسم العدواني الذي يمارسونه في تحقير السنة، فالرافضة رفضوا الخلفاء الراشدين، والناصبة ناصبوا علياً العداء، وتذهب خطابات الكراهية إلى الغاية في التحريض، في تناقض تام مع منطق القرآن الكريم: ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان.

إنني أعتب في هذه الأيام الرديئة بشكل خاص على أصحاب خطاب الوفاق والاحترام، وقد كانوا قبل سنوات يمتلكون الساحة الإعلامية وكانت الناس تلقى خطاباتهم بالقبول، وكان لهم دور في وقف مهازل التحريض، ولست أدري كيف يبررون انسحابهم من الساحة الفكرية الملتهبة اليوم، ويمضون في كثير من الأحيان إلى مجاملة الناس في خطاب الكراهية، حيث يبدو هذا أسلم من مواجهة طوفان الكراهية الذي لم يعد يحتمل أي صيغة توافق أو تسامح.

ولا أستطيع بالطبع أن أبرئ السياسة من جريمة الكراهية، فالعراق و #الشام و #اليمن تشهد حروباً ضارية لا يمكن أبداً إخفاء وجهها الطائفي القبيح الذي صار عنوان الحرب، وهو يأخذ البلاد إلى المجهول من سيل الكراهية والتكفير والحقد.

ومع خطورة جريمة القاتل والمحرض ولكن الأشد سوءاً من الفريقين هو ذلك البزنس الإعلامي الذي يطلق في قناته أو صحيفته خطاب الكراهية من الزاوية الأشد تجريحاً وتحقيراً للآخر، ويراقب أداء قناته ويفرك يديه بشماتة وهو يرى تزايد الإعلانات التجارية في قناته، مع أنه لا يؤمن بسلوك الانتحاري، ولا بالأدلة التي يسوقها المحرضون، ولكنه مبتهج بالنتائج التجارية التي تعكسها هذه النتائج في تزاحم الإعلان في البزنس الإعلامي.

هل يدرك خطباؤنا الغاضبون الذين مارسوا تكفير الآخر وتحقيره أين ذهبت فتاويهم في التحريض والتكفير؟ وهل نملك الجرأة للقول إنا كنا في ضلال مبين.

بالفعل لا أجد أي انتماء عقائدي بين هذه الفتاوى التحريضية العمياء وبين منطق القرآن الكريم الذي طرح الوفاق بين الناس بلغة لا تخرج أحداً من دائرة القبول، إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

ومن أين يمكن لهذا الخطاب الإقصائي الضيق الموتور أن يرقى إلى مستوى قول الله تعالى: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله، في خطاب بالغ الوضوح أن دين الله أوسع مما يتصورون وأن دائرة القبول عنده تعالى أكبر مما يتوهمون، وهي عبارة أجدها تتطابق مع عبارة الحكيم السوري الأوغاريتي القديم: لا تحقر إلهاً يعبده غيرك فأينما تولوا فثم وجه الله…….

ولست أدري كيف يسوغ للخطاب السلفي التكفيري الإعراض عن نصوص كهذه وهي أيضاً نصوص قرآنية معصومة، تتحدث عن سعة رحمة الله واتساع دينه لخلقه، وتأمر الأمة أن تعيش حياة  التكامل والتواصل والتراحم تحت شعار: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة