د. محمد حبش

أقرت المحكمة الأمريكية العليا  SCOTUS  الشهر الماضي مطلب #المثليين في تكوين أسرة قانونية، وجاء هذا القرار بموافقة خمسة نواب من أصل تسعة هم أعضاء المحكمة الدستورية العليا في #الولايات_المتحدة، وأعقب ذلك هياج إعلامي طوفاني بين مؤيد ومعارض، وتبارى رؤساء دول على التهنئة بهذا الحدث الاستثنائي، وأصبح قوس قزح رمز الفطرة والطهارة والعالم النظيف رمزاً لواحد من أبعد أشكال الشذوذ عن الفطرة التي خلقها الله.

 

كان بالإمكان أن نتجاوز هذا الحدث فلدينا في الهم السوري ما يكفينا، والكارثة لا تزال كل يوم تفرز الأهوال، ولكن الحدث صار بسرعة جزءاً من الجدل السوري، وقد أصبح للأسف دليلاً جديداً بيد التطرف على أن الديمقراطية محادة لشرع الله، وأنها إحدى أكاذيب #أمريكا على العرب والمسلمين، وأن عنوانها الشذوذ، وأن #القاعدة و #داعش على حق حين يعتبرون الديمقراطية كفراً.

ومن جانب آخر فقد كتب سوريون كثير يفاخرون بالمنجز الجديد انتصاراً للحرية ضد القمع، وتولى الإعلام اللبناني بشكل خاص الترويج لاثنين من السوريين الصايعين تبرعاً أن يعلنا زواجاً شاذاً أمام شاشات الإعلام، ولست أدري إن لم يكن هذا الكومبارس لبنانياً مثلاً، فلبنان يسبقنا بمسافات طويلة في إطار الحريات المنفلشة، ولديه ما يكفي من الأمثلة لكل ما يبهرجه الغرب.

ويجب أن نسميهم الشواذ وليس المثليين، فالشذوذ هو التسمية العقلانية الشارحة لهذا الانحراف، أما المثلية فهي كلمة ترضية ملطفة، من شانها أن تهون الخطايا، وتبيئ الجو لقبول هكذا انحراف على أساس قاعدته الهرمونية والجينية.

قبل سنوات تابعت تقريراً تلفزيونياً لجدل في البرلمان الألماني، ترافع فيه عضو في البوندستاغ مطالباً بالحرية للشواذ، وقال: إننا في #ألمانيا نباهي بالحرية ولكننا نمارس اضطهاد الحريات، ونرفض أن نمنح الشواذ حقوقهم وفق ما الزمتهم الطبيعة، حيث لا يزال البرلمان الألماني إلى اليوم يرفض الاعتراف بالشذوذ، ويعتبره سلوكاً على خلاف الطبيعة.

بدأ النائب بالإشارة إلى زواجه من صديقه النائب أيضاً منذ خمس سنوات وبدأ يشرح معاناته في ذلك، وقال: لقد تزوجنا منذ خمس سنين، أنا وزوجي فلان، ويشير إليه، ولكن القانون لا زال يظلمنا، وسأشرح معاناتنا في أمرين اثنين، الأول: لقد تزوجنا رجاء النسل الصالح، ولكننا لم نستطع أن نحصل على طفل نتبناه لأننا لا نملك دفتر عائلة!! وهكذا فقد ضاعت فرصتنا في الإنجاب، وضاعت فرصة طفل يتيم أن يعيش في هذه العائلة (المثالية) !!

وقال: لقد تزوجنا ونحن نعلم أن الدنيا متاع الغرور وأنا عن قليل راحلون، ولكن القانون يظلمنا حين لا يعترف بحق كل منا في ميراث الآخر، فنحن زوجان سعيدان ونريد ضمان مستقبلنا وآخرتنا، وعلى القانون أن يعترف بذلك، ولا نريد أن نلقى ربنا ونحن خارجون عن القانون!!

كل ذلك والكاميرا تدور بين النائب الأول والنائب الثاني الذي كان يهز برأسه كعنزة الزمخشري مؤيداً زوجه في دعواه!!

بالتأكيد لم تقنع هذه المرافعات النيابية زملاءهما في البرلمان الالماني، ومع أن هناك نوادي للمثليين وعقوداً يتم تصديقها، ولكن لا يزال القانون الألماني يرفض الاعتراف الكامل بالشذوذ، ويعتبره لقاء على خلاف الطبيعة لا يستحق شرف الاعتراف القانوني.

عادة ما يتم رسم تصوراتنا للعالم الغربي عبر أخبار كهذه فنتصوره عالماً عديم الأخلاق غارقاً في الانحراف والخطيئة، وهي صورة تواطأ على رسمها الخطاب السياسي والديني في مجتمعاتنا، فالسياسي يريد أن يحذرك من الاستعمار والامبريالية، والديني يريد أن يحذرك من الليبرالية والتحرر، وفي النهاية فتشويه الغرب مصلحة لكل من الطرفين ولكنه ليس بكل تأكيد مصلحة للإنسان السوري الذي يعيش في هذا العالم ويتعين عليه أن يرى في هذه الشعوب إخوة له في الانسانية، خاصة بعد أن دفعتهم الكارثة للشراد في الأرض وأجبرتهم على البحث عن عيش كريم على موائد الأمم.

المجتمع الغربي ليس منحلاً، والصورة التي تمارسها شركات الإباحية تحت عباءة الحريات ليست صورة صحيحة للمجتمعات الغربية، وعلى الرغم من حجم الحملات الرهيبة التي قامت بها هذه الشركات للترويج تحت عباءة الحرية للزواح على خلاف الطبيعة فإن البرلمانات التي أقرت ذلك لا تبلغ في الغرب عشرة بالمائة حتى اليوم، فمن أصل 48 دولة أوروبية سمحت ثمانية منها فقط بتسجيل الزواح الشاذ، ومن أصل 197 دولة في العالم فإن عدد الدول التي أقرت هذا الأمر لا تزيد عن 18 دولة.

ويجب القول إنهم يقومون بذلك ليس على سبيل الترويج والرضا بل على سبيل تنظيم الممارسات الشاذة وضبطها بالقانون تماماً كما يتم تنظيم الدعارة أو تعاطي المخدرات، شر لا بد منه، وفق منطق أن وجود تشريع ينظم ذلك هو أفضل من عدم وجود تشريع لذلك.

ومع ذلك فإن الدول التي أقرت هذا النوع من الشذوذ لا ترضاه أبداً في الواقع الاجتماعي في العائلات النبيلة والأصيلة، وعلى الرغم مما يروجه الإعلام من وقوع المشاهير في هذا فإن الصورة الغالبة للأسرة النبيلة في الغرب هي رفض الانحلال، ورفض أشكال الزواج على خلاف الطبيعة.

ويجب القول إن هذه الدول لم تقر الزواج الشاذ بوصفه زواجاً تاماً، فلا تزال معظم هذه الدول لا تسمح للشواذ بتبني طفل، حتى ولو سجل الزواج في المحاكم، ولا تزال جمعيات الأسرة ترفض التعاطي مع هذا الشكل من الأسر، وترى فيه تهديداً لنظام الأسرة، ولا زالت تعمل لإلغاء هذه القوانين الشاذة التي مرت خلال غفلة من الدهر، حيث لم يكن قانون في الدنيا يبيح ذلك قبل أن يقره المشرع الهولندي عام 2001 ومن المناسب أن نذكر أن الحريات في هولندا منفلشة إلى درجة غير مقبولة ولعلها البلد الوحيد في العالم التي تعتبر المخدرات والأفيون حرية شخصية وتنظمها أيضاً في نوادي خاصة.

ومن الواقعي أن نتذكر غضب الأمريكيين من سلوك كلينتون وغضب البريطانيين من سلوك تشارلز، فهذه الممارسات وإن كانت شائعة في الغرب فإنها غير مقبولة على مستوى النخب والعائلات النبيلة التي لا تزال قيم العفاف والأسرة فيها تحظى باحترام عميق.

ولعل ما ينتظره القارئ مني هو الموقف الديني إزاء هذه الممارسة، فمن المؤكد أن النصوص الشرعية حرمت هذا اللون من الزواج، واعتبرته خروجاً على تعاليم الدين، وحين شرح القرآن الكريم حكم الزواج الفطري قال بوضوح: فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون، وبالمناسبة فإن وصف هذه العمل باللواط أمر سيء، ولوط نبي كريم حارب الفحشاء فلا يليق أن تنسب إذن إليه، وقد ورد في السنن من يعمل عمل قوم لوط، وقد ورد الوعيد الشديد على ذلك، ولكن من اللافت أنه لم يرد حد صريح في هذا الأمر، ولأجل ذلك فقد اختلف الفقهاء في حده، فقاسه بعضهم على الزنا وآخرون حدوه تعزيراً، وذهب آخرون إلى القتل استناداً لأحاديث ضعيفة لا يجوز تشريع الأحكام بها، وهي للأسف ما اختاره تنظيم داعش ضد الشاذ وقاموا بإلقائه من شاهق استناداً لرأي بعض التابعين وهو رأي لا دليل له من كتاب ولا سنة ثابتة.

وقد جاء موقف الشريعة من ترك تحديد الحد حكمة مناسبة، وتعاطفاً مع كثير من المنكوبين بآفة الشذوذ، نتيجة الاختلاط الهرموني والجيني، وهي حقائق علمية لا يمكن القفز فوقها، وبناء على ذلك فإن الشاذ هنا ضحية وليس جانياً، وعلى المجتمع أن يساعده في الخلاص وليس أن يبتكر له آلة الخطيئة.

إنني ضد ابتكار أي نوع من العقوبة ضد الشواذ، ولم يثبت عقاب بعينه ضد الشواذ في كتاب ولا سنة، ما لم يؤد ذلك الشذوذ إلى هوس إباحي وتهويش واعتداء على المجتمع، وهذا بالضبط ما أصاب قوم لوط الذين احترفوا الفاحشة على خلاف الطبيعة، ومارسوا اغتصاب المردان في سدوم، وهموا باغتصاب ضيوف النبي لوط نفسه، وحين رضي المجتمع هذا اللون من الاعتداء والفاحشة غضب الله عليهم، وجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك وما هي من الظالمين ببعيد.

ولكن التعاطف مع المرضى من المصابين بآفة الشذوذ لا ينبغي أبداً أن يدفعنا لإقرار مرضهم والرضا بما فيه، فنحن نتعاطف مع المدخنين ونوفر لهم حقهم في الحصول على التدخين ولكن علينا أن نكتب على كل علبة سجائر إن التدخين قاتل، وأن نعتبره شذوذاً وخطأ وأن نضيق عليهم كثيراً من الحريات، وأن نجبرهم في مواطن كثيرة على رفض التدخين، وأن نعمل بجد للوصول إلى عالم خال من التدخين رغم قناعتنا بأن الإدمان أكبر من أن تتحكم به طاقة الإنسان، والأمر نفسه في الإدمان على السكر والمخدرات، فقد تعامل المجتمع المتحضر مع ذلك كله بواقعية، ولكنه لم يقبل ابداً أن يستسلم للواقع رغم الحجج القوية التي يمتلكها المدمنون.

المدخن والحشاش والسكران نظراء لنا في الخلق، وشركاء في الإنسانية، ولكنهم في خطاياهم شاذون، وليسوا مثليين، ويجب أن لا يبئسهم وصفنا خطاياهم بالشذوذ، فنحن نتعاطف معهم ونقدر محنتهم ونشاركهم السعي للخلاص منها ولكن إرادة الخلاص ستكون معدومة إذا تم تكريس هذه الخطايا على أنها محض سلوك طبيعي ناشئ عن تموضع جيني.

إنني على ثقة كبيرة بالعلم، فالعلم الذي تمكن من القضاء على الجدري والسل وهو في طريقه للقضاء على شلل الأطفال والسرطان قادر أيضاً أن يقضي على سبب هذا الانحراف، ويبشرنا العلم بأن التحكم في الجينات سيكون في متناول اليد عام 2040 ويمكن أن يتدخل العلم لاختيار الجينات المناسبة لمهندس أو طبيب أو إعلامي أو رياضي حيث يتم إعداد خريطة جينية مناسبة وفق طلب الأهل ليكون الولد أكثر كفاءة في الاختصاص الذي يسعى إليه، وإنه لعار ما بعده عار أن يمتلك العلم هذه القدرات الرهيبة في الحقل الجيني ثم نطالبه بالقعود عن معالجة الشذوذ والاستسلام للواقع على أساس أنها مسألة هرمونية.

العلم قادم لا محالة لمعالجة هذا الوضع الشاذ، وخلالئذ فإنه ينبغي أن يدرك الشواذ أنها محنة كتبها عليهم القدر، وأن عليهم أن يصابروا ويكافحوا ويخالفوا النفس والهوى، وفق العلاح الممكن والمتاح للتحول نحو الطبيعة والفطرة كما خلقها الله تعالى، ولا أشك أن هؤلاء سيكونون من أعظم الناس أجراً حين يمتنعون عما حرم الله على الرغم من ميولهم العنيفة طاعة لله واحتراماً للمجتمع وثقة بالعلم.

ستكون كارثة إذا ظن الناس أن تشريع بعض الدول لبعض مطالب الشواذ هو هزيمة للفضيلة وانتصار للرذيلة أو هو هزيمة للدين وانتصار للهوى….

لا أشك أن مؤسسات الأسرة والدين في المجتمع الغربي ستنجح في وقف هذا الانهيار، وأن الديمقراطية التي شرعنت بعض سلوكيات الشذوذ هي نفسها التي ستسقط ذلك كله، وتعيد الثقة بالعلم وبقوة الإنسان وجبروته في مخالفة الهوى، والعودة إلى الفطرة السلمية.

إنها في الحقيقة امتحان إلهي واجتماعي ليقوم لناس بالقسط، وإنها فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة