د. محمد حبش

لا يعرف في تاريخ #الإسلام العمل الانتحاري بهذه الصورة المروعة التي أصبحنا نشاهدها كل يوم، وهي تضرب في كل الاتجاهات مسلمين ومسيحيين وصوفية وسلفية وسنية وشيعية وعربية وكردية.

 

فما هي المؤيدات الشرعية التي تقنع هؤلاء بالذهاب إلى الموت بهذه الطريقة الوحشية الدامية، والتي رأينا آخر فصولها القريبة في #سروج الكردية الحزينة، حيث عصفت بثلاثين روح بريئة وأحالت حياة مئات الأسر إلى جحيم.

والتوصيف الفقهي السريع للعمل الانتحاري بالإجماع هو أنه بدعة منكرة كسائر البدع، ولست أدري لماذا قعد الفقهاء المعاصرون عن مواجهة هذه البدعة المنكرة بما ينبغي، رغم أنهم يغضبون بشدة لبدع في الدين مثل بناء قبة على قبر أو الصلاة على النبي بعد الأذان أو إقامة الموالد، وغير ذلك من البدع التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

لا يمكن تبرير ذلك بأي من مؤامرات لعبة الأمم، ولا يمكن إقناع أحد بأن الانتحاري تلقى أمراً من #أمريكا أو #روسيا أو مجلس الأمن، ولا يمكن القول بأنه عميل للسي اي إيه أو لكي جي بي أو للسافاك أو الموساد، فمن البديهي أن من يختار الموت لا بد أن يكون هازئاً بكل هذه الهياكل التي قدها الشيطان على قدر خيباتنا، ولا يمكن القول إنه تيسر له من يدفع أكثر، أو يمنحه مناصب كبيرة، فالموت هو لعبة الحياة الوحيدة التي لا يؤثر فيها بريق الذهب والفضة ولا يغري فيها الوعد بالمناصب والرتب، ولا تنفع معها كل نوازع الإغراء.

ومع أنني أنكر وجود العمل الانتحاري في التاريخ الإسلامي ولكنني لا أنكر وجود هذه الرغائب، فهناك بالفعل من يشتاق للموت، وقد درسنا طلابنا عدداً من العمليات المشابهة التي قام بها باسلون ومغامرون في التاريخ الإسلامي أقدموا على أعمال انتحارية واستطاعوا إحداث فارق في المشهد العسكري، ولعل أشهر هؤلاء القعقاع بن عمرو الذي بايع على الموت لجماعة من المقاتلين واقتحموا صفوف الروم ولم يرجع منهم أحد.

ومع أنني درست ذلك واستمعت إليه ولكنني اليوم أعتقد أننا بحاجة لمراجعة جذرية لهذا النوع من التمجيد في بسالة الانتحاريين، خاصة تلك التي وقعت في غمار الغزو والفتوح، مع التقدير البالغ للبسالة والفداء التي يجب تتم باستمرار في رد الظلم والدفاع عن الأرض والعرض.

وربما كان الخوارج أشهر الناس في ممارسات كهذه ، وحين قتل عبد الرحمن ملجم الإمام علي بن أبي طالب لم يفر ولم يهرب وإنما خر في المحراب ساجداً أن تقبل الله منه جهاده واستسلم للقصاص ضاحكاً دون خوف.

وكان أشهر مستشفى عقلي لإعداد الانتحاريين في التاريخ هي تلك التي مارسها الحشاشون، في القرن السادس والسابع الهجري حيث كانوا يرسلون فدائييهم من قلعة ألموت لينفذوا اغتيالات بالغة الخطورة ضد أعدائهم حيث تمكنوا من اغتيال عدد من الشخصيات المهمة جداً في ذلك الوقت؛ مثل الوزير السلجوقي نظام الملك والخليفة العباسي المسترشد، وكذلك حاكم بيت المقدس الصليبي كونراد.

وفي كتابه أسطورة الفردوس وصف ماركو بولو مستشفى العقل الانتحاري في قلعة #ألموت بقوله: كانت فيها حديقة كبيرة ملأى بأشجار الفاكهة، وفيها قصور وجداول تفيض بالخمر واللبن والعسل والماء، وبنات جميلات يغنين ويرقصن ويعزفن الموسيقى، حتى يوهم شيخ الجبل لأتباعه أن تلك الحديقة هي الجنة، وقد كان ممنوعاً على أيّ فرد أن يدخلها، وكان دخولها مقصوراً فقط على من تقرّر أنهم سينضمون لجماعة الحشاشين. كان شيخ الجبل يُدخِلهم القلعة في مجموعات، ثم يُشرِبهم مخدّر الحشيش، ثم يتركهم نياماً، ثم بعد ذلك كان يأمر بأن يُحملوا ويوضعوا في الحديقة، وعندما يستيقظون فإنهم سوف يعتقدون بأنهم قد ذهبوا إلى الجنة، وبعدما يُشبعون شهواتهم من المباهج كان يتم تخديرهم مرة أخرى، ثم يخرجون من الحدائق ويتم إرسالهم عند شيخ الجبل، فيركعون أمامه، ثم يسألهم من أين أتوا؟، فيردون: “من الجنة”، بعدها يرسلهم الشيخ ليغتالوا الأشخاص المطلوبين؛ ويعدهم أنهم إذا نجحوا في مهماتهم فإنه سوف يُعيدهم إلى الجنة مرة أخرى، وإذا قُتلوا أثناء تأدية مهماتهم فسوف تأتي إليهم ملائكة تأخذهم إلى الجنة!!!

وفي سائر الكتابات التي تتناول نشاط الحشاشين كانت العبارة المستخدمة تلقائياً هي (Assassins) وهي تعني فرق الاغتيال كما أنه ليست بعيدة عن تحريف لفظي للحشاشين.

وبالطبع فليس وصف ماركو بولو لهم وصف مشاهدة وعيان لأسباب كثيرة أهمها أنه لم يزر قلعة ألموت أصلاً، حيث دمرها المغول 1256 وكان عمر ماركو بولو سنتين، ولكنها الرواية المشهورة عن سلوك فدائيي ألموت، وهي تفسير واقعي للسلوك الانتحاري المؤكد بالعيان والرواية، وهي الروايات التي جعلت شيخ الجبل مرعباً لخصومه مرهوب الجانب رغم أن جيوشهم الجرارة كانت تفوق كتائبه الصغيرة عدداً وعدة وقوة.

ولكن كل هؤلاء الانتحاريين كانوا يقصدون أهدافاً محددة يضربون فيها المقصود بعينه، وربما أصابت بعض من يلوذ به، وليتها إذ فدت عمراً بخارجة … فدت علياً بمن شاءت من البشر.

ولكن الانتحاري اليوم وهو يمارس لعبة الموت في سوق أو مدرسة أو مسجد لا يحمل أي تبرير أخلاقي لقتل الأبرياء، وحين قام الانتحاري بتفجير مسجد الصادق في #الكويت صرخ بأعلى صوته أريد أن أحضر الفطور مع رسول الله في الجنة!!! وكأن الرسول الكريم ينتظر ضيفه على أشلاء الأبرياء وجثث الموتى!!!! ونحن نبرئ الرسول الكريم من هذا الوهم الإجرامي، ولكننا نطرح السؤال الأكثر رهبة ومسؤولية ودهشاً أن القادم على الله يفترض فيه أن يقدم ظاهر اليد والكف واللسان، وإلا فأي معنى لذهابه إلى الموت وهو ملطخ بدماء الأبرياء، وكيف أمكن إقناع هؤلاء الانتحاريين بممارسة الموت مع مئات الناس الذين لا ذنب لهم إلا أنهم وجدوا في المكان الخطأ.

ولعل أكثر صورة واضحة هي العمل الانتحاري الرهيب في الحادي عشر من أيلول، فقد ضمت مجموعة الانتحاريين التسعة عشر مهندسين وخريجين من جامعة #هامبورغ وطياراً مدنياً، ومن غير المعقول أن يكون هؤلاء الناس غير مدركين لبؤس ما يفعلون، وهم يعلمون أن الطائرات التي يدمرون والأبراج التي يستهدفون تضم مئات ممن لا ذنب لهم، وحتى في فهمهم الفقهي فإن كثيراً من الضحايا سيكونون من المسلمين يقيناً، فكيف أمكن إقناع هؤلاء بأنهم ذاهبون إلى الجنة وأنهم يفعلون ما يرضى عنه الله ورسوله؟

إن الفكرة يتم توليدها عبر خطاب انفعالي يمارسه الوعاظ بانتظام، ويتولى تحقير الدنيا كلها في عين الراغب بالجنة، وتشمل الدنيا الحقيرة الملعونة هنا كل إنجازات البشر في العلوم والاقتصاد والصحة والسلام، وكل المشهد الحضاري بين طوكيو ولوس انجلوس بما فيها من أبراج ومصانع وجامعات، ويمضي الواعظ التقليدي المنتشر في آلاف المساجد إلى الإصرار على التعبير عن الدنيا بأنها ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله، وأنها دار الفناء وأنها سجن المؤمن وأنها دار البلاء والشقاء والزور، وأنها متاع الغرور، ويمضي الفقه في تفسير متاع الغرور بأنه خرقة الحيض!!!

ولكن أشد قواعد الاستهتار بالحياة وتبرير القتل العابث يتم استيرادها من رواية بالغة الخطورة وردت في حديث متفق عليه رواه البخاري ومسلم وهو حديث طويل مروي عن عائشة وفي خاتمته: يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم قالت قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ فقال: يبعثون على نياتهم.

وهذه العبارة (يبعثون على نياتهم) يتم الترويج لها بأكبر قدر من الهيبة والرهبة، وهي ذائعة الصيت في المجموعات الانتحارية، والمقصود أن أولئك الذين تأخذهم عصا الموت العابث وهم بدون ذنب، سرعان ما يقدمون على الله فيبعثهم على نياتهم، فإن كان محسناً فخير تقدمونه إليه وإن كان مسيئاً فشر ترفعونه عن الأرض.

وهكذا فإن غاية ما قام به الانتحاري هو أنه عجل المصائر المرحومة والملعونة، وأنه أهلك الظالمين ويسر للصالحين سبيل الخلاص من الدنيا المذمومة الملعونة المحتقرة إلى دار العدل والإحسان والحور والنور.

وهكذا يقدم الانتحاري على الموت بلا وخزة ضمير، فهو قد أشرك الناس في مصيره، وهو يخلص الأرض من الأشرار الذين يستحقون عقوبة الموت، كما أنه يساعد الأخيار منهم على الوصول إلى العالم الحقيقي.

ومع أن العبارة الواردة في الحديث يمكن تبريرها بألف سبيل وهي جواب المؤمن في الأقدار القاسية حيث لا عزاء إلا في التماس العدالة في الدار الآخرة، ولكن سائر فرق الجهاديين تعتبرها مدخلاً لصناعة الموت، وتبريراً لقتل الأبرياء، ومساعدة لهم في الوصول السريع إلى الجنة!!

لا تقنع هذه السذاجة أحداً بالطبع، ولكنها كافية تماماً لتفريغ أي وخزة ضمير من الدماغ الانتحاري الهائج، وكذلك فريق الموت الذي يعد له الطريق الدامية من الجثث.

قد يكون في هذا المقال بعض وصف راهن الموت الدموي، ولكنه لا يقدم حلولاً لهذه الكارثة التي صارت وللأسف أكثر ما يطبع حياتنا البائسة في هذا الشرق التعيس.

قناعتي أن ثقافة الموت التي غمرت خطابنا الديني الانفعالي خلال عقود تحتاج إلى مراجعة جذرية، وأن نقاوم ثقافة الموت بثقافة الحياة، وصناعة اليأس بصناعة الأمل، وأن نفرق بين تكريم الشهيد البريء المدافع عن أهله وعرضه، وبين القتيل الغازي، الهالك في طموحه العاثر، والذي لم يعد بالإمكان تبرير مغامراته الدامية المجنونة بأنها جهاد أو تضحية.

علينا أن نتوقف عن تقديم الإغواء بالموت في سبيل الله، وأن نعود إلى منطق القرآن الذي يحترم الدارين: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة….. وأن نؤسس لخطاب إسلامي عقلاني طافح بالأمل يروج العيش في سبيل الله، والحياة في سبيل الله، والعمل في سبيل الله.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.