د. محمد حبش

يطرح اليوم هذا السؤال على لقاء #استانبول القادم الذي سيحشد مفكرين وكتاباً سوريين يتصدون للإجابة على هذا التساؤل، عبر ركام من الريب التي راحت تعصف بالخيارات الديمقراطية العاجزة في مواجهة الاستبداد والتوحش الذي يطبع الصراع القائم في #سوريا حتى النخاع.

 

فالنظام الذي لا يؤمن بحرف في كتاب الديمقراطية وإن كان يرتلها في مزاميره ليل ونهار، و #داعش التي تعلن جهاراً أن الديمقراطية هي صنائع المشركين وأفعالهم القبيحة، ويجب القتال حتى تطهير الدنيا من آخر ديمقراطي، وإلزام الناس العودة إلى ما كان عليه السلف الصالح قبل عصر الابتداع والاجتهاد والضلال.

وفي غمار هذا التناقض الهائل يطرح السؤال من جديد: هل يستطيع التيار الديمقراطي الإسلامي المأمول أن يقدم إجابات لأسئلة الحيرة والشتات التي تطبع الحراك السياسي في الداخل والخارج، أو هل يستطع أن يدلف إلى الحياة بين آباء يصرون على دحره والانتقام منه حتى من قبل أن يولد.

وفي حواراتنا الأخيرة في #استوكهولم مع الفصائل السورية العاملة في الداخل كانت كلمة الديمقراطية تثير التوتر والغضب، حيث يشعر السوري القادم من المدن المدمرة  تحت البراميل أن الديمقراطية الغربية رفضت الاعتراف بحقه وأعاقت أمر إنقاذه، وأن الناس ليست مستعدة للاقتطاع من رواتبها للدفاع عن مثل أخلاقية، وان الديمقراطية بدون قلب ولا ضمير.

ومن جانب آخر فإن الصعود الديمقراطي في البلاد العربية مني بنكستين كبيرتين في الأعوام الأخيرة الأولى في قيام العسكر في #مصر بالانقلاب على كل المنتج الديمقراطي وزجه في السجون، ووقف العالم الديمقراطي متفرجاً على ما جرى دون أن يكون له موقف واضح في مواجهة شيء من ذلك.

والأمر الثاني هو نجاح شركات الإباحة الجنسية في استصدار قرار من المكمة العليا في #أمريكا بالاعتراف بالأسرة الشاذة ما يعني دمار الأسرة وفرض أنماط من العلاقات الحرام بديلاً عن الأسرة المستقرة، وأصبح طرح الخيار الديمقراطي يتبعه على الفور طرح السؤال: هل تريدون ديمقراطية تسمح بالشذوذ؟

وهكذا فلا النظام ولا نظيره الإيديولوجي داعش وأخواتها يفكرون أو يرضون بأي تطور حقيقي نحو الديمقراطية وسيغدو التفكير في تيار ديمقراطي إسلامي حلماً أبله يستعدي الطرفين ولن يعود إلا بالخيبة وسواد الوجه.

وقد ظهر ذلك في ما كتبه كثير من الكتاب الإسلاميين في الخمسينات والستينات من قراءة نقدية للديمقراطية على أساس أنها معارض حتمي لمنطق حاكمية الله، وأنه لا يمكن القبول بحكم النص الديني والاحتكام إلى إرادة الشعب في آن، ذلك أن إرادة الناس منبثقة في الغالب من الهوى وهو ما يتعارض بشكل حاد مع الشريعة الإلهية المنبثقة عن مصدر مختلف تماماً هو الوحي!

وهكذا فإن بعضهم ذهب إلى حد القول إن العدالة والمساواة وغير ذلك من القيم الإنسانية النبيلة ما هي إلا انحرافات عن هدي الوحي الذي يدل ظاهره على عدم المساواة بين الرجل والمرأة وبين الحر والعبد وبين المؤمن والكافر، وأن البحث عن إرادة الأغلبية هو جحود لمنطق القرآن الكريم: ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وقوله: وإن تطع أكثر من في الأرض جميعاً يضلوك عن سبيل الله.

وصرح النبهاني تقي الدين بالقول: إن الديمقراطية هي وثنية القرن العشرين، وأن البرلمانات هي الأصنام الجديدة! وكتب سيد إمام في العمدة ما نصه: الديمقراطية شرك بالله وكفر أكبر صريح، إذ تسلب حق التشريع من الله وتعطيه للبشر، وقال تعالى: {إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}، ويكفي في كفر الديمقراطية أن قرارات البرلمان تخرج مُصَدَّرَة (باسم الشعب) وليس (باسم الله) فهم قد وضعوا الشعب موضع الله سبحانه، ولهذا فإن الديمقراطية هي من صور تأليه البشر من دون الله، وقد حرمها الله في قوله تعالى: {وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}. وهذا النظام الشركي قد لجأت إليه الأمم الكافرة كاليهود والنصارى بعد ما بَدَّلوا دينهم ولم يبق لهم شرع صحيح.

وبالمقابل فقد أطلق منكرو الوحي خطابهم في الحكم على الإسلام بأنه معاد للقيم الإنسانية وأنه غير معني بالمساواة في الأرض، وراحوا يستحضرون الدليل تلو الدليل على الاستبداد الذي وقع في التاريخ الإسلامي، للتدليل على أنه كان نتيجة اعتماد خيار الوحي وتنكب الخيار الديمقراطي!

تصر هذه المقالة على أن الديمقراطية هي صعود إيماني وأنها غير متعارضة مع قيم لاإسلام في الشورى والعدالة، وأن الإسلام لا يسعى في جوهره ومقاصده لفرض نمط ثيوقراطي ميتافيزيقي يحكم الناس بقواعد الغيب ويقاسمهم ما يجمعونه في عالم الشهادة.

إن الثيوقراطية الدينية مرفوضة في الإسلام، وإن إقامة حكم ديني في الإسلام بالمعنى القروسطي الذي عرفته أوروبا هو منطق مرفوض إسلامياً، وأن ما يتوجه الإسلام لبنائه في الأرض هو نظام مدني، بشروط ديمقراطية تتفاوت اتساعاً وضيقاً بين علماء السياسة الشرعية في الإٍسلام.
إن المشكلة تتمثل في أننا نعمد إلى منهج انتقائي في قراءتنا للتاريخ الإسلامي بحيث نعمد إلى أشد الآراء تطرفاً وظلامية فنحمل الأمة بأسرها وزر ذلك، وكأن ليس في التاريخ الإسلامي غير هذا الخيار، وفي مسألة الديمقراطية فإن ما يستحضره العلمانيون من مخاوف على الحريات والديمقراطيات إنما يتبدى من شعار مثل  لا حكم إلا لله، وهو بالضبط الشعار الذي تقاتل اليوم تحت لوائه اليوم الحركات الراديكالية في العالم الإسلامي، وهو ما أسس مباشرة لثقافة الإلغاء والإقصاء ولموجات متلاحقة من العنف والعنف المضاد الذي اصطلى به العالم الإسلامي في العقود الأخيرة وهي ذكريات مرة دامية لا يريد أحد أن يتذكرها في الخيال فضلاً عن استدعائها في الواقع.

ولكن شعار لا حكم إلا لله على طهارته ومصداقيته هو شعار حاربه الوعي الإسلامي إبان الرشد وخاض الإمام علي حرباً ضروساً في مواجهة الخوارج دفاعاً عن حقوق الناس في الحريات والإرادة الشعبية، مع عدم الاعتراض على الشعار من جهة المبدأ، وهو ما قال عنه الإمام علي: كلمة حق أريد بها باطل .

إن التنوير الإسلامي عاش مصاحباً لحركة الفكر في الإسلام ومضت حركة ترجمة العلوم والمعارف الإنسانية وهي في قماطها اليوناني والسرياني على يد أبرز الخلفاء الأمويين والعباسيين، إلى حد زنة الكتاب المترجم بالذهب، على الرغم من أنه بداهة قد يكون طافحاً بمعارضات حادة مع أساسيات العقائد الإسلامية، والأمر نفسه كان في مكتبات الأديرة والمعابد التي كانت طافحة بثقافات الشرق المسيحي السرياني والآرامي واللاتيني ولم تمتد إليها يد إساءة على الرغم من اشتمال كتب كثيرة منها على عقائد التثليث والأقانيم وقدم العالم، وذلك كله مخالف للشريعة، ومع ذلك لم يمسسه المسلمون بسوء، وبقاؤها إلى اليوم حاضرة شاهدة خير دليل على ذلك الانفتاح الذي عاشه المجتمع الإسلامي أيام الرشد وهو أولى بكل تأكيد في الاعتبار من الأساطير التي راجت عن إحراق المسلمين لمكتبة الإسكندرية وهي الأساطير التي تورط في روايتها للأسف مؤرخ محترم كديورانت، ومضى ذلك إلى حد تقبل العقل الإسلامي وجود فلاسفة إسلاميين كبار كانوا لا يكتمون ميولهم المشائية، كالكندي والفارابي وابن سينا، بل إن هذا الأخير منح لقباً هاماً ذا مغزى حين سمي بالمعلم الثاني، وأصبح الحديث عن المعلم الأول واضحاً في الإشارة إلى أرسطو، على الرغم من التفاوت الهائل من الجانب الفكري بين كل من الاتجاهين الإسلامي واليوناني .

لقد ظلت العلوم الكونية لعدة قرون علوماً مسيحية أو صابئية، وسجل لهم في هذا السبيل إبداع كبير، وبسبيل من ذلك ترد أسماء كبيرة مثل حنين بن إسحاق، وحنين بن ماسويه، ويوحنا بن بختيشوع، وجبرائيل بن بختيشوع، ويوحنا بن ماسويه، وإسرائيل بن زكريا الطيفوري، وغيرهم، ويرجع ذلك إلى معرفة هؤلاء باللغات السريانية واللاتينية واليونانية التي كانت تحتوي على معارف الطب القديم.

بالطبع فإن هذه الإنجازات الديمقراطية الهائلة ينظر إليها المتشددون على أنها تفريط من الحكام بإقامة حدود الله، وأن هؤلاء الحكام اختاروا مرجعية العقل بدل مرجعية النص وكان عليهم أن يقاتلوا الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وليس أن يجاملوهم وفق الشروط الديمقراطية، على الرغم من أن الشريعة طافحة بنصوص الرحمة والإحسان إلى الخلق بدون تمييز، قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

إن حالة الانفتاح و(الديمقراطية) التي قدمت شواهدها هنا كانت دائماً تواجه مداً ظاهرياً يشتد آناً، ويهن آناً آخر، ولكن يجب التأكيد في الواقع أن هذا التيار التجديدي الانفتاحي هو الذي كتب له النصر أيام مجد الحضارة الإسلامية وأن الاتجاه الظاهري الماضي إلى إلغاء الآخر وتطبيق ظاهر النص بدون اعتبار المصالح هو تيار منهزم عبر تاريخ المجد الإسلامي؟

وباختصار فإن القيم الديمقراطية ليست في الحقيقة إلا خلاصة ما أنجزه الإنسان في كفاحه من أجل العدالة والمساواة، وهي ليست احتكاماً إلى الشعب ضد إرادة الله، وإنما هي اكتشاف إرادة الله من خلال خيار الجماعة، أو البحث عن حكم الشريعة من خلال الإجماع، أو قراءة الفطرة التي فطرها الله في ضمائر الناس.

ومن الجانب التشريعي فالفقه الإسلامي يقر الإجماع، وهو فقهياً لا يبعد كثيراً عن نظام الأغلبية الديمقراطي، إذ الإجماع لا يشترط فيه عدم وجود مخالف، ولا شك أنها بهذا المعنى تتلاقى مع ما بشر به الإسلام، ولا يصح أبداً طرح السؤال على صيغة: الإسلام أم الديمقراطية، بل يتعين القول: الديمقراطية من أجل إقرار القيم الإسلامية، أو الإسلام من أجل ترشيد الديمقراطية

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.