د. محمد حبش

كان لا بد أن يرحل أو يرحلوه، يترجل أو يرجّلوه، #البلعوس الإنسان الذي تحدى غرائز القطيع الذاهب في تمجيد الموت والقتال والثأر إلى النهاية، والثائر الذي لا يريد مزيداً من الدماء ويصرح بوضوح وهو في قلب الوطن وتحت سقفه أن كرامة الإنسان أولى من كرامة المناصب، ولم يتردد أبداً في مطالبة الرئيس بالرحيل لأنه السبيل الأسرع والأقرب لإنهاء هذه الحرب المجنونة.

 

لم يكن البلعوس وجهاً تلفزيونياً يطل علينا كل يوم لتقديم حديث الثورة، ولم يكن عضواً في الائتلاف، ولم يذهب إلى موائد #جنيف و #موسكو، ولم يسجل له انتصارات فيسبوكية، لقد ظل في أرض #السويداء مرابطاً على ثغور السلم، يغلق بيديه نافذة الحرب والموت، ويصر على أن السوري أخو السوري أحب أم كره….

ومع أنه لم يكن غاندي ولا دالاي لاما، لقد كان رجلاً مسلحاً، ويعرف تماماً شروط التمرد وثمنه، ولديه خطاب طافح بالتحدي والثورة، ولكنه كان حارس السلام في أرض تتفجر بالحرب، بجنون الاستبداد وبطشه ومظالمه ومآثمه.

كان من المؤكد أن الطواغيت لن يتركوا هذا الصوت الصارخ في برية القهر والموت بأحلام السلام والعيش المشترك، لم يستطع أبداً أن يقبل مشروع الكراهية بين السهل والجبل وظل يقول لأهله: إن جيراننا في #حوران هم مستقبلنا الباقي، وإن الاستبداد سيرحل ويتركنا لمصائرنا، ولن تكون السويداء عدواً لحوران، ولن يكون هناك قطيعة ودم بين السهل والجبل.

في خطابه وكتابه لم يكن يهدر بالمعلقات من كلام العرب، ولم يكن يتقن الخطاب الدبلوماسي، ولا المهارت السياسية في الخطابة والمراوغة، لقد كان يتحدث كسوري يريد كرامة أهله وبلده، ولم يرض لأهله أن يكونوا وقود حرب مجنونة ستطبع المستقبل بنار الكراهية بين السهل والجبل كما يخطط لها دهاقين الشر العاملين في خدمة الاستبداد.

أعلن الرجل عن حق إنساني طبيعي تقرره الفطرة السليمة وتجارب أهل العلم والعمل، وهو حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، وحقه أن يقول لا للحرب التي لا يؤمن بها ولا يفهمها، وعلى الرغم من وعيه الشعبي الريفي، ولكنه كان في الواقع يكتب السطر الذي عجز عن كتابته زعماء العالم الحر حين أطلقوا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حين نصوا على حق الإنسان في الحياة والتعليم والسفر والصحة، وعجزوا عن ذكر الحق الأكثر فاعلية في وقف الحروب، وهو حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة.
لقد فشل المجتمع الدولي أن ينجز هذا الحق، ووقع زعماء العالم على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بكل ما فيه من حرية وكرامة، ولكنهم عجزوا أن يمنحوا الناس حق رفض الحروب، ولا أشك أن ضمائرهم كانت تصفع وجوههم وهم يجبنون عن منح هذا الحق للإنسان، فقد كانوا حديثي عهد بالحرب العالمية وكانوا يرون أن هذه الحقوق ستضعف قدرتنا على مواجهة النازية لو قدر لها أن تقوم من ركامها.

تم إصدار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وظل حق الإنسان في التمرد على الحرب ممنوعاً، وفي خدمتك الإلزامية أو التطوعية في بلدك فإنك ستبقى رهين إرادة السياسيين الذين يحددون اتجاه البندقية، وحين تتطوع في جيشك الوطني تحت راية حماة الديار عليكم سلام، من أجل تحرير أرضك من العدو الصهيوني، فإنك ستفاجأ بأنك مدعو للحرب ضد أهلك في #حلب و #دير_الزور و #إدلب و #درعا و #حمص، وستكون في بوز المدفع في حرب لا تؤمن بها، وحين تقرر الانشقاق فأنت تحكم على نفسك بالإعدام كخائن للجيش والأمة والدولة، وحين يصدر بحقك حكم الإعدام فلن تجد بلداً يستضيفك فانت تمارس ما يعاقب عليه كل قانون، فالعالم كله ما زال أسيراً لأوهام الحرب  وليس مستعداً بالتفريط بأمنه القومي من أجل مثل أخلاقية.

قناعتي أن هذا الحق النبيل هو أشرف الحقوق التي يستحقها الإنسان، وسيكون السؤال دوماً من الذي يقرر أن هذه الحرب عادلة أو ظالمة، والجواب بدون تردد إنه العسكري نفسه يا من تتاجرون بروحه وحياته، إنه الجندي الإنسان، هو من يقرر أين تكون التضحية وأين يكون الاستحمار.

ويجب أن أسجل هنا خجلي من عجزنا عن إنتاج موقف كهذا في الفقه الإسلامي على الرغم من روح السلام التي تحملها نصوص كثيرة في القرآن الكريم، “يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين”، وعلى الرغم من منهج الرسول الكريم الذي كان يرفض الحرب إلى حد أنه حفر الخنادق حول مدينته واختبأ خلفها في حين ملأ أعداؤه المدينة زعيقاً وصراخأ وعويلاً، واستطاع أن يتجنب الحرب في واحد وعشرين من أصل سبعة وعشرين غزوة شارك فيها، وظل يقول عن القتال إنه كره لكم، وإن الله كان بكم رحيماً، وقد أثنى على عثمان صهره زوج ابنتيه مع أنه لم يؤمن بالحروب كلها ولم يشهد بدراً ولا أحداً ولا الخندق.

والأكثر دهشاً أن النبي الكريم سبق إلى الاعتراف بهذا الحق بوضوح، ولم يكن يخوض حرباً حتى يسال أصحابه عن قناعتهم بهذه الحرب، هكذا فعل في بدر وأحد والخندق وظل يقول قبل كل حرب: أشيروا علي أيها الناس..

على الرغم من ذلك كله… فإن الفقه الإسلامي ظل يقول كما يقول العالم اليوم بأن المتمرد في القتال فار من الزحف، مدموغ بالخيانة، يستحق الموت لما فرط به من الواجب الجهادي، واعتبروا في باب الكبائر الفرار من الزحف.

لا أشك أنه سيأتي يوم يضاف فيه إلى إعلان حقوق الإنسان العالمي هذا الحق بصراحة ووضوح، ومن حقي أن أذكر هنا مساهمتي في هذا الشرف الأخلاقي والإنساني، وذلك في ربيع العام الماضي في #فيينا حين عهد إلي مجلس التفاعل العالمي الذي يضم رؤساء العالم السابقين أن أكتب ميثاق الأخلاق العالمي الذي يفترض أن يحكم السياسات، وكانت فرصة نادرة أتيحت لي لأسهم في هذا العمل النبيل، وحين وصلنا إلى فيينا أعلن الرئيس الأسترالي فريزر والرئيس الياباني فاكودا في كلمتيهما كرئيسين للمجلس أننا نجتمع هنا لنناقش مقترح السيد حبش في إعلان ميثاق الأخلاق العالمي.

كانت أياماً عصيبة ودقيقة، ولم يكن لدي من هدف إلا أن أمرر هذه الفقرة حول حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة، وأوشكت الفكرة أن ترى النور حين تعهد رئيس النمسا هانز فيشر وهو على رأس عمله بعرض الاقتراح باسم بلاده على الهيئة العامة في الأمم المتحدة للتصويت عليه كميثاق للأخلاق العالمي.

لم يكتب للمحاولة النجاح وقال يومها فاليري جيسكار ديستان إننا سنكون أشخاصاً سيئين إذا طالبنا الحكام الحاليين بأن يفعلوا ما لم نفعله ولم ندع إليه خلال حكمنا، وسنبدو أمام شعوبنا منافقين، والأمر نفسه تبناه الرئيس الكندي، وسقط المشروع ولم يكتب لي النجاح في هذه المحاولة، وقلت لرفاقي يومها ما قاله عمر أبو ريشة: شرف الوثبة أن ترضي العلا .. غلب الواثب أم لم يغلب.

لا أشك أن العالم سيدرك يوماً ما أن غياب حق الإنسان في التمرد على الحرب الظالمة يعني استمرار الاستبداد في صناعة الحروب، وربما تفعل أيقونة البلعوس اليوم ما عجز الآخرون عن تحقيقه في الماضي، فالكارثة السورية تغير في العمق من سلوك الأمم، وما حصل في أوربا خلال الأسابيع الأخيرة مذهل ومثير، وصورة الطفل الغريق أبكت العالم وفرضت على الضمير العالمي سلوكيات لم كن واردة من قبل، وتغيرت مواقف برلمانات وحكومات وصفعت البيروقراطية وانتصر الإنسان، وفرضت تقاليد جديدة وصارت اتفاقية دبلن القاسية الصماء في مهب الريح، وتتالت تصريحات زعماء العالم بالحاجة إلى التغيير نحو الكرامة والإنسانية بدلاً من البيروقراطية والنرجسية الوطنية، حتى ملاعب الألمان ذهبت إلى صلاة جديدة لا تعرفها تقاليدها من قبل، وبدا أن الصورة فعلت ما لم تفعله دبلوماسية العرب والمسلمين مجتمعة منذ عقود.

البلعوس رسالة سلام وعقل، كان يصرخ إما الكرامة فوق التراب أو الكرامة تحت التراب، وربما لم يكن في جوانجه غاندي المزاج ولكنه بكل تأكيد كان صانع سلام، استطاع أن يجنب بلاده وأهله إراقة دم كثير، ولكنه في النهاية دفع دمه ثمناً لمغامرة الحياة في عالم الموت المجنون.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.