حسام موصللي

شيءٌ ما يبدو خاطئاً للغاية على سطح هذا العالم. لم يحظَ الحدث السوري بهكذا تغطية إعلامية مَهولة، حتّى في أشدّ وقائعهِ إيلاماً- وأقصدُ بالتحديد مجزرة السلاح الكيميائي في #الغوطة_الشرقية 21 آب 2013- كتلكَ التي تُغطّي منذ شهر تقريباً أخبار حَركة اللجوء إلى القارة العجوز.

 

الفارّون من سوريا هم حديثُ العالم اليوم وحدثه الأبرز، بيد أن هذا لا يعني على الإطلاق أن ما هو أشدّ قسوة من أحداث أخرى قد توقفت عن التواجد اليومي في حياة السوريين داخل البلاد، فالحقيقة أنّه لم يطرأ أي تغيُّر على المشهد العام، إلا في ازدياد نِسب العنف والجريمة المُنظّمة؛ سواء من قِبل النظام السوري أو تنظيم الدولة الإسلامية.. وصل الأمر، بمبالغة إنسانية في غاية الابتذال، إلى مرحلة نكادُ نشعر فيها أن حادثة غرق الطفل “إيلان كردي” إنما هي أول حالة غرق على كوكب الأرض، كما لو أن أحد الجن قد سرّب شريط فيديو بكاميرا موبايل لحادثة قتل قابيل لهابيل. ولا أقصد بأيّ طريقة أن أقّلّل من شدّة مصابنا جميعاً بهذه النهاية الوحشية لطفلين شقيقين بعُمر الملائكة، وإنما أدلُّ بصورة مُحدّدة على التغطية الهستيرية للحدث، وما تزامن معها من ردود أفعال تجاه اللاجئين السوريين في #مقدونيا و #المجر و #اليونان وغيرها، أولئك الذين كانوا بالمناسبة يُعانون منذ ثلاثة سنوات المعاناة نفسها، ويتعرضون للقمع ذاته على الحدود الأوروبية، وعلى مرأى العالم أجمع، دون أن يهتمّ  أحد بويلاتهم.

ولأنني أعيش منذ سنتين في #إسطنبول، فقد بات من المعتاد أن أشاهد على نحو يومي الهاربين من بلادي إلى #أوروبا وهم يفترشون ساحة #تقسيم، مُتوسّدين حقائبهم الصغيرة. مع ذلك، شَهِدت الساحة مؤخراً، منذ شهر تقريباً، ومازالت، كثافة غير مألوفة في أعداد قاصدي البلاد سقف العالم هرباً من الحرب على الأراضي السورية، لدرجة تُشعِركُ بأنه لم يبقَ أحدٌ في البلاد، وأنه لن يكون من المستبعَد أن ترى شخصيات سورية سياسية أو ثقافية بارزة تغفو بعُمق على كراسي الحديقة، وتحلُم بحياة هادئة ومُستقرّة، وبلاد ملوّنة بشوارع نظيفة، وبمُخصّصات الإغاثة الشهرية (أو الراتب؛ كما يُحب السوريون أن يسمّوها) في الجمهورية الألمانية.

وانعكس الأمر بالطبع على من تبقّى داخل البلاد، لظروف قاهرة وليس رغبة بالبقاء فيها، شغفاً وحُزناً على مآلهم وحيدين في وجه البلاد التي تسير بثبات على درب الخراب الكبير. بل صاروا من بيوتهم في #سوريا أكثر خبرة ودراية من المقيمين خارجها بالطرق القانونية وغير القانونية لتهريب “النفرات” إلى بلاد العجائب، حتّى أن الكثير من شباب #سوريا باتوا قادرين الآن على تعداد الميزات الفنية والتعبوية للجوء إلى كل بلد أوروبي على حدة، وذلك فيما يتعلق بالمخصصات الشهرية والمدة المتوقعة للحصول على الإقامة، وبالطبع إمكانية تحصيل الجنسية والاستقرار النهائي على المدى الطويل.

أفكّر بما يسوقه السوريون من روايات إلى مُحققي دوائر الهجرة في بلاد اللجوء، وخاصة أولئك الذين جاؤوا من دول الخليج أو شرق آسيا أو الولايات المتحدة الأميركية: “نتعرّض لانتهاكات على صعيد الحقوق الأساسية؟ نخشى على أنفسنا من إرهابيي داعش والنصرة؟ بيوتنا مدمّرة وأطفالنا جوعى، ولا عمل أو مال حيثُ نقيم؟” هل نعتقد أنهم حمقى وأغبياء ليصدقوا كل ما يُقال لهم، وخاصة أنهم (الألمان مثلاً) خاضوا حروباً أعتى وأشد خلفت كوارث أفظع على مستوى الإنسانية؟ ستُطرَح في مكاتب اللجوء كميات مهولة من الكذب بكل تأكيد، بيد أنها لن تتجاوز حتماً، مهما بلغَت، كذبة الحكومات الأوروبية في تملُّق الإنسانية وهي تُشاهد مجرم حرب يدعى #بشار_الأسد يمارس عمله بكل أريحية في تفريغ بلاد كاملة من سكّانها طيلة خمسة أعوام، ودون أن يرف لأولئك جفن أو يُحرّكوا ساكناً.

كمبدأ عام، لطالما شكّل الخلاص الفردي واحداً من أهم أسباب المصائب الجمعية، ذلك أننا لا نستطيع لوم أي فرد يبحث عن حياة أفضل ونطالبه بالبقاء تحت نير الحرب للحفاظ على المعادلة الديمغرافية في البلاد، وهُنا يتوضّحُ عجزنا بارزاً، وأن العالم كلّه قد تغوّل في وجه ثورتنا، لدرجة أنّه فضّل إزاحة سكان بلد بأكمله، على أن يسقط فرداً عاقاً واحداً.

وختاماً، أفكّرُ في الحركة التي احتشدَ لها لاجئون سوريون مؤخراً تحت اسم (عابرون لا أكثر) مطالبين بالسماح لهم بالسير براً إلى اليونان عبر الحدود التركية، لئلا يقعوا فريسة الغرق وتجار البشر. تقتضي المثالية أن تكون هذه الحركة باتّجاه عكسي؛ أي إلى سوريا عبر الحدود التركية؟ مع ذلك، ولأننا نعيش في عالم أبعد ما يكون عن المثالية، أتصوّرُ أن فكرة الرحلة العكسية قد خطرَت بالطبع في أذهان مُنظّمي هذه الحملة، ثم ما لبثوا أن ضَحِكوا عالياً على هذه الفكرة من (عالم المظلات). ففي النهاية، يثق السوريون جميعاً بأنهم لو شكّلوا بملايينهم خارج البلاد جداراً بشرياً، واتخذوا قرار العودة إلى بيوتهم، لأباده بشار الأسد العائدين عن بكرة أبيهم دون أن يُبالي بهم هذا العالم ، مثلما يفعل مع الخارجين.

ما الحلّ إذاً؟ فلنُشاهِد الخراب بصَمت، ولننتظِر كارثة كُبرى تجبرُ العالم على العودة إلى رُشدِه.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة