د. محمد حبش

في السياسة هي أكبر تحد تواجهه #أوروبا منذ الحرب العالمية، وهي تتطلب مؤتمرات قمة، وتدخل الناتو، ومراجعات عميقة لقوانين الأمم المتحدة، وقواعد الشينغن، وتتطلب إنفاق المليارات، وتوقع الأسوأ.

 

ولكن في الانسانية هي تحمل دروسا أخرى لم تكن مدرجة من قبل على قائمة الاهتمام، شعوب بحالها تخرج على قوانينها العتيقة، وتكسر أيقونات السيادة الوطنية، وتهدد التوازن الاقتصادي والديمغرافي، وتصرخ في سمع العالم: الانسان أولاً.!!

آلاف المؤشرات التي ترصدها وسائل التواصل الاجتماعي كل دقيقة، البابا يدعو لاستقبال اللاجئين السوريين في البيوت، والرئيس الفنلندي يتبرع بسيارته للاجئين السوريين، و #ميركل والرئيس الألماني يتناولان وجبات الطعام في مخيم اللاجئين ويلتقطان صور السيلفي مع السوريين المهجرين، وأندية كرة القدم تبدأ مبارياتها بالصلاة للسوريين في محنتهم وهجرتهم، وكريستوف لايتل رئيس غرفة الاقتصاد النمساوية مساء أمس يقول، إن اللاجئين يمثلون فرصة كبيرة للنمسا، لأن كثيراً منهم مؤهل تأهيلاً عالياً، مظاهرات حاشدة على أبواب البندستاغ والمؤسسات التشريعية تطالب القادة بإحياء ضمائرهم في نصرة اللاجئين، وآلاف من المتطوعين في #ميونيخ و #فيينا و #برلين يعدون وجبات الطعام للاجئين وينتظرونهم في محطات القطارات، ورئيسة البرازيل ديلما روسيف تعلن أن البرازيل تفتح ذراعيها للاجئين السوريين.

الصور كثيرة من الشرفة الإنسانية وهي مفاجئة وغير متوقعة، وهي ليست محض نشاطات إعلامية إنها مبادرات حقيقية يتبعها على الفور قرارات كبرى أطاحت باتفاقية #دبلن لصالح الإنسان، وهزت العرش الاوروبي المكلل بالشنغن، وطرحت الأسئلة الكبيرة عن مستقبل أوروبا هل تختار الإنسانية أم تختار الامتيازات الحضارية.

ومع أن العنصرية الأوربية لا تزال تتململ في غرائز عدد من السياسيين، وخاصة في أوروبا الشرقية التي لا تزال تعيش تداعيات العصر السوفياتي الصارم باتجاه يوتوبيا المادة، ولكنهم أجبروا أن يكون صوتهم خفيضاً في مواجهة هبة الضمير الصارخة، وصار هؤلاء هم الاستثناء من القاعدة، وقناعتي أن العنصرية ذاهبة إلى انحسار.

لا أريد أن أقدم تحليلاً في السياسة، ولكنني مصر على الأقل على السخرية من أولئك الذين يعتبرون هذا الموقف خبثاً سياسياً لامتصاص الخبرات السورية النادرة، وابتزاز اللاجئين عن طريق الشحادة عليهم في الأمم المتحدة وفق ما يطبقه نظامنا في #القنيطرة منذ أربعين سنة دون توقف.

فهل كنا على صواب يوم رسمنا العالم الناجح على هيئة مافيا تنهب ثرواتنا وخيراتنا؟ وهل كنا على حق حين زرعنا الكراهية في شعوبنا لكل ما هو متقدم ومتحضر على أساس أنهم أساطين الشر العالمي الذين تحكمهم هيئة ماسونية خفية تتحكم بهذا العالم ليغدو مجرد غرفة من غرف المافيا التي تستنزف خيرات الدنيا.

وهل أدت هذه الثقافة المسمومة إلى تحصين شعوبنا من التحلل الأخلاقي ومنحه عقارات الوطنية المأمولة؟ أم أنها أدت إلى جيل يعيش رعاب الآخر، ويمارس تسفيهه وتحقيره في كل شيء، ثم يكتشف عاجلاً أو آجلاً أنه يعيش عالة على إنجازه الحضاري؟

وفي سبيل محاربة طواحين الهواء الاستعماري قامت أنظمة الاستبداد بحشر الشعب للتمترس خلف خنادق الوهم ضد الآخر الحضاري أو الآخر الديني، وهو ما سمح لأنظمتنا المقاومة والممانعة أن تجبرنا نصف قرن على شد الأحزمة والصبر على التخلف بدعوى أننا أمة مقاومة وأننا نقف على الرصيف الآخر في مواجهة المشروع الصهيوني الشيطاني، وربيبته أمريكا بلد الشيطان الأكبر، وبالمناسبة أصبح الشيطان الأكبر اليوم الحليف الأكبر للجار الإيراني، وعلى الشعارات السلام.

إن الحقيقة التي ترسمها الصور المتتابعة لتضامن أوروبا الغربية المتحضرة شعوباً وحكومات هي أخوة الإنسان للإنسان، ووحدة الفطرة في العالم، وضرورة نفض الأفكار العتيقة التي رسمت في أذهاننا العالم المتحضر كتلة متآمرين أشرار، وراح القوميون العرب يقسمون العالم سياسياً الى مستعمرين ومستعمرات، وراح رجال الدين يقسمونه دينياً الى مسلمين ومشركين، ومع أن الخطاب الديني والسياسي يختلفان في الأدوات والغايات، ولكنهما هنا قدما تناوباً مدهشاً في شطب العالم من الخريطة السياسية والدينية، وزج الشعب في أتون الكراهية الماحقة لكل ما هو إنساني ونبيل، فيصر السياسي على أنها مؤامرة عميقة تحكمها الصهيونية العالمية ويصر رجل الدين على أنهم مشركون فاسدو الاعتقاد والأخلاق، وأنهم مهما قاموا بعمل الخير والإحسان إلى الحياة فإن مأواهم جهنم وبئس المصير.
لقد كشفت هذه الوسائل عوار تفكيرنا بوضوح، وحين أكتب عن مانديلا مثلاً أو عن الدالاي لاما أو ابراهام لنكولن أو غيرهم من أبطال الإنسانية فإنني أتوقع دوما عبارة: طالما أنت تراهم مؤمنين الله يحشرك معهم!!… وهذا هو مبلغ أكثرهم من العلم، ومع أنه لا يسوؤني هذا الدعاء في شيء لو جاء من قلب سليم، فأنا أعتقد أن هذا النوع من الرجال النبلاء الأخيار هم صدر أهل الجنة، وأنا أطمع جوارهم في الدنيا والآخرة، وأخشى في أعماق نفسي أن أحشر إلى جوار مغرور فارغ يقد الدنيا على مقاس فهمه السقيم، ويعتقد كما قال ابن سينا: بلينا بقوم يعتقدون أن الله لم يهد أحداً سواهم!!!

من وجهة نظري فإن ما شاهدناه في الأسابيع الأخيرة من يقظة للإنسانية في العالم هو طبيعة الحضارة الناجحة، والدول الاسكندنافية الخمس وألمانيا والنمسا التي تصنف عالمياً كأفضل بلاد للعيش لم تبلغ ذلك المستوى إلا بسبب تفوق أحلاقي حقيقي مارسه المجتمع في رقابته على زعمائه، ومارسه الزعماء في تماهيهم مع شعوبهم.

إن التفسير الواقعي الذي تحترم به عقلك ونفسك هو أن الفائض الحضاري ينتج فائضاً أخلاقياً، وهذه هي الأواني المستطرقة للحضارة الإنسانية الناجحة في مشوارها الظافر.

دينياً .. فإنني حين أتغزل بالإنسان أتغزل بالله أيضاً، وأفرح إذ أبشر الناس بنجاح المشروع الإلهي على الأرض، وقدرة الإنسان على بناء عالم جميل، إنه الفطرة التي زرعها الله في قلب كل إنسان وهي الروح التي مسحها بيمينه، وهو ما عبر عنه إقبال بقوله: عطرك اللهم في الإنسان ما زال ولونك……..
حقائق عميقة شرحها فيلسوف الإنسان ابن عربي في كلمة واحدة: لن تبلغ من الدين شيئاً حتى توقر جميع الخلائق..

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة