حسام موصللي

رغم أني في مناسبات قليلة، لحسن الحظ، غير سعيدة بالتأكيد، التقيتُ مصادفة بعدد من مؤيدي النظام السوري من جنسيات أخرى، بيد أني خلال السنتين الأخيرتين لم ألتقِ سوى بشخص سوري واحد حينما كُنت في #مصر، وليس بإمكاني أن أصنّفه في خانة المؤيد التقليدي، إذ أنه طبيب ومسرحي سابق، وأقرب إلى تيار “الله يفرّج، أو يطفيها بنوره”، ناهيك أنه لم تكن لديه مشاكل مع الثورة بحدّ ذاتها إلا ما يُحسَب عليها من مُتطرّفين، كما أنّه من الأشخاص الذين يلومون طائفته مراراً وتكراراً على مساهماتها الجبارة في التخريب حتى أوصلَت البلاد إلى ما هي عليه. وبالتالي، في وسعي القول بأن هُناك أرضية منطقية مشتركة، تجعل النقاش أمراً ممكن الحدوث.

 

مع ذلك، خلال الأسبوع الفائت، شاء القدر ذاته الذي تسبب في غرق الطفل “إيلان”، وقطعِ الأوكسجين عمّن كانوا في الشاحنة المتّجهة إلى النمسا، واستمرار حملة رمي البراميل من شاهق على رؤوس من تبقى من مدنيين في البلاد، أن ألتقيَ في منزل أحد الأصدقاء في إسطنبول بفتاة مؤيدة لبشار الأسد وعينيه الحمراوين. ما حدث بالترتيب هو أني لم أقتنع خلال النصف ساعة الأولى بأنها “مؤيدة”، إذ لم أكُن لأصدّق على الإطلاق بأنه من المحتمل أن يوجد مؤيد/ة من مدينة داريا المُحاصرة منذ بداية الثورة، داريا غياث مطر ويحيى شربجي، #داريا حكاية المجازر والبراميل والقهر. أجل، لطالما اعتبرتُ أن هنُاك ظروفاً جهنمية قد تُجبر في كثير من الأحيان أناساً مازالوا في #سوريا على التظاهُر بأنهم مؤيدون لنظام بشار الأسد، بينما قلبهم مُطمئِن بالثورة، ولكن أن تجِد كائناً يحيا في بلاد تعيشُ ظروفاً أفضل بمئات المرّات، على كافة الأصعدة، عن حال سوريا ما قبل الثورة وأثناءها، فهذا ما لم أكُن أعتقد ببساطة أنه سيكون حقيقياً، إلا لدى “حيدورة” وشركاه من أبناء أسفل القاع، أقصدُ النظام نفسه.

وبرغم ندرة الكلمات المتبادلة، كان هذا اللقاء القصير على درجة عالية من الاستفزاز النفسي، حيثُ اشتعلَت النيران في رؤوس أصحاب البيت، وكادَت الجلسة أن تنتهي بفتاة جميلة تُحاول تعلُّم الطيران خلال الثواني الأربعة الأخيرة لولا أني تداركتُ النقاش المحتِدم بينها وبين زوجة صديقي بالانتقال إلى حديث مُغاير تماماً:

– “وهدول الناس اللي عم يموتوا؟ مو بسبب بشار الأسد؟”

– “لا. هدول خالص عمرون. فيه وبلاه رح يموتوا”

– “يعني مانك زعلانة عليهون؟ مو ولاد بلدك”

– “ما كان حدا جابرون…”

– “لك أنتي عنجد عم تحكي؟! شو هالبرود اللي أنتي فيه!!”

– “أول مبارح شفت دلافين على شاطئ كاباتاش (أحد الأحياء على الجانب الأوروبي في إسطنبول)”.

– “دلافين؟”

– “دلافين؟”

– “نعم، دلفينَين، قريباً من الميناء”.

ثم ما لبث الحديث أن انتقل إلى ذكاء الدلافين والحلم بامتلاك أحدها في حوض سباحة كبير، قبل أن يعود بطريقة سحرية عجيبة إلى: “هُناك رجل أعمال في سوريا يقتني عدّة دلافين في مزرعته في يعفور”، فانسحبَ الكلام على نحو طبيعي إلى مكانه القديم: “يعني إذا كان ماهر الأسد نفسه يُربّي نموراً في بيته”، وهُنا وجدتُ نفسي مُلزماً بالمغادرة مع صديقي خارج المنزل، قبل أن نَصِل إلى كارثة لن يكون من السهل تداركها في خضم النزعة العنفيّة التي تعبق في المكان.

ما فاقَ انزعاجي الشديد هو الاستغراب من هذا المستوى غير المعهود من الانحطاط الفكري والأخلاقي الذي يَحتكره مؤيدو نظام الأسد، وأقصدُ السوريين تحديداً، من بين سكان العالم بأسره؛ هذا الانعدام المُطلَق في القدرة على مُحاكمة الأمور بصورة عقلية أو إنسانية على أقل تقدير؛ تلك اللامبالاة في أرواح أقرب الناس إليهم، وأقصد الجيران والأقرباء، فما بالك بباقي السوريين؟!

تابعتُ النقاش مع صديقي بهدوء بصدد البحث عن آلية للعيش المُشترَك، وسُرعان ما كنا نَبلغُ طريقاً مَسدوداً مهما اختلفَت زاوية التعاطي مع هذه المُعادلة؛ أيُّ عدالة انتقاليّة/ انتقاميّة/ “أبو صَقّار” التي ستُقنعُ سورياً واحداً من دوما بالسير في الشارع نفسه بجانب مَن اعتادَ أن يُهلّل لبشار الأسد في كلّ مرّة يرمي فيها طيّاروه برميلاً فوق رؤوس أبنائه الذين نجوا مُصادفة من مصير أبناء عمومتهم، ضحايا مجزرة السلاح الكيميائي!

وفي النهاية، توقفنا عن البحث عن صيغة لحلّ جامِع، في الوقت الحالي على الأقل، إذ يبدو أن المشكلة لم تكُن تكمن يوماً في شخص بشار الأسد وعائلته، وإنما هي أعمق بكثير؛ في خلل الوعي والهوية السورية لدى هؤلاء الذين لم يعتقدوا يوماً بأن مصادفة كونية ما قد تأتي برأي مغاير لنظرتهم السّطحية المُشتركة التي تفرضُها عقلية رجعية تَجمَعُ مؤيدي النظام السوري في قالب وحيد، تُعبّر عنه على نحو مثالي ملامحُ العنصريّة الغبية في وجوه من تظاهروا منذ قرابة أسبوع ضد زيارة أوباما للسويد، تلك الملامح التي يشتركون بها مع المتظاهرين في مَقتل أحد ضباط الجيش على يد سليمان الأسد في اللاذقية، ومع رُكّاب الحافلات التي كانت تأتي من مزة 86 وعش الورور وضاحية الأسد باتجاه الميدان وبرزة وحرستا، ومع السائرين بلا هدى في ساحة الأمويين وساحة السبع بحرات و أوتوستراد المزّة في أيام الثورة الأولى.

– “بمناسبة الحديث عن العيش المشترك، أتعلم؟ إنّ الدلافين كائنات ذكية محبّة متعاونة، ليتهم يعيشون معنا”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.