د. محمد حبش

مع أن الهم السوري يغلب كل هم، ومشهد اللجوء والهجرة والبحر والتعذيب والقصف والنار يغني عن كل وصف، ولكن مسؤولية القلم أن يستشرف الوجع العميق للعقل العربي، وأن نبادر بتصحيح علاقة الإنسان السوري بالآخر بعد أن صار الآخر اليوم هو جاره وشريكه ووطنه (الذي نأمل أن يكون مؤقتاً ومرحلياً) وبعد أن أصبحت السيادة الوطنية والقرار المستقل محض أوهام وذكريات ليس لها نصيب في عالم الحقيقة.

 

كلمات بسيطة كتبتها عن حق أتباع الأديان في بناء معابدهم وممارسة شعائرهم، وما يمكن أن تحمله هذه الشعائر من قيم أخلاقية واجتماعية أثارت بشكل عنيف غضب تيارات بحالها من الجماعات الإسلامية، التي رأت أن هذا الموقف يعكس خللاً في العقيدة وتهتكاً في الولاء والبراء، وأن أتباع الأديان وخاصة الكهنة منهم والرؤساء هم أهل النار، وأن وجود معابد للأديان سيؤدي لا محالة لصدام مباشر مع المشروع الإسلامي القائم على نسخ الديانات ووجوب تحطيم أصنامها ورموزها.

لا أريد أن أدخل في الجدل اللاهوتي في مسائل كهذه فهو جدل لا ينتهي، ولكنني أشعر بالمرارة من القيم المشوهة التي عصفت بالعقل المتدين، ودفعته أن يسكن في جزيرة من الكراهية يحيط به عالم من الكفار لا مكان له في ذهن المؤمن إلا نار جهنم وبئس المصير.

ومع أن كثيراً منهم يقولون إن الحكم على الناس بالجحيم الأبدي لا يعني انتقاص حقوقهم، بل يمكن التعايش مع المختلف في الدين والاعتقاد، أياً كان اعتقاده، ونضرب الأمثلة المستمرة على ذلك بالمعابد القائمة في بلاد #المسلمين وأنها لم تتعرض للاستئصال خلال التاريخ الطويل.

ولكن ذلك الاحترام والعيش المشترك يسقط عند أول اختبار، إذ يتعين عليك دينياً أن تبغضه في الله لأنه فاسد العقيدة منكر للتوحيد معارض للنبوة، وأنه مهما كان صالحاً وطيباً ومتواضعاً وكريماً فإنه سيدخل لا محالة نار جهنم خالداً فيها كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب..

من العسير أن تحمل تصورات كهذه ثم تزعم أنك تعيش حياة إنصاف مع شريكك في الإنسانية الذي هو محض مشروع لحطب النار.

حيت توقن أن الله سيأخذ الناس إلى جهنم بحسب أديانهم وطوائفهم وأنه لا يقيم أدنى اعتبار للقيم والمبادئ والإحسان، فإنك تمارس الإساءة أولاً إلى الله تعالى الذي يبخل على عباده بالهداية والرحمة، ومن جانب آخر فأنت تدفع في رهاب الكراهية، فإذا كان الله الرحيم العادل سينتقم ببطشه وجبروته من أهل الأديان، فهل سنكون أحسن من الله رحمة وعفواً، وهو الذي كتب في لوح القدر أن مصيرهم إلى النار.

وتلقيت على بريدي عشرات الرسائل لأشخاص أعرفهم لا يترددون أبداً في أن العالم الشرقي خاصة كله عالم وثني، وليس لهم حرمة النصارى من أهل الكتاب الذين ينتسبون لدين سماوي، فهذا خاص بأهل الكتاب أما الوثنيون فإن رسالتنا الدينية تتلخص في تدمير معابدهم وإبادتهم بالكامل، ولا ينجو إلا من اعتنق الإسلام، لأنه لا بقاء للوثنية مع الإسلام.

ومع أن القارئ ستصدمه بلا ريب هذه الطريقة من التفكير، ولكنها لا تصدمني أبداً، لأنني تلقيت هذه المعرفة على مقعد الدرس يوم قيل لنا أن القتال مع المشركين قائم إلى يوم الساعة ولا ينبغي أن يتوقف حتى تعلو راية الله على كل كور ودور، وأن الجزية استثناء خاص باليهود والنصارى (أهل الكتاب) أما الأديان الأخرى فلا يقبل منهم إلا #الإسلام أو السيف.

لقد تعودنا أن #العرب مصابون بفوبيا الاستعمار وأنهم يكرهون الدول التي استعمرتنا وهي تحديداً حكومات #فرنسا و #بريطانيا و #إيطاليا و #إسبانيا في النصف الأول من القرن العشرين، مع أن الحكومات الاستعمارية رحلت منذ  سبعين عاماً، ولكنني صدمت بأن رياح الكراهية لا تقف عند حدود العالم الاستعماري، بل إنها تتعداه إلى أركان العالم الأربعة، ويختلط السياسي بالديني في فوبيا الكراهية، فهم كفار يحادون الله ورسوله، واستعماريون ينهبون خيراتنا، ووفق المنطق نفسه يتم الربط بين السويدي والسويسري والبرازيلي والصيني والهندي وأنهم جميعاً شركاء في إذلالنا وإفقارنا بحكم كونهم من الكفرة المشركين.

لا توجد أدنى مبالغة في إسقاط هذه الحقائق المرعبة على الواقع وفق الثقافة التقليدية التي لا نزال نتلقاها في المدارس الدينية حول الآخر، وهو ما يغذيه الاستبداد المشاق لشعبه الثائر، عبر منطق الارتهان للمؤامرة الكونية التي تشترك فيها الشعوب والحكومات والكواكب والمجرات!!

فهل يتعين مواجهة العقائد الدينية التي تحكم بهلاك الآخرين لخلافهم في الاعتقاد؟ أم أن الأصول الدينية تحتمل أيضاً خطاب الإنصاف والعدالة وبناء ثقافة الرحمة للعالمين؟

قبل سنوات طرح الشيخ يوسف #القرضاوي فكرة جيدة عن المصطلح، فمصطلح كافر ذو حمولة سلبية قميئة، وهو عند الحنابلة يساوي مهدور الدم، مع أن الفقه الإسلامي طافح بآراء أئمة كبار لا يؤيدون هذا، وانتهى الشيخ القرضاوي إلى وجوب الانتقال من مصطلح (كافر) إلى مصطلح (غير مسلم) وأن مصطلح (غير مسلم) كاف لشرح عقائد الآخرين، وكان منطق الشيخ أن مصطلح الكافر لا ينبغي إن ينصرف إلا لمن اطلع على حقائق الدين وعرفها جديداً وقامت عليه الحجة البلاغة فيها وأقر بذلك ثم أصر على الاستكبار ومضى في محاربة الإسلام بالقول والعمل، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا.

أما الآخر الذي لم يسمع بالإسلام أصلاً فكيف يسوع عقلاً أو نقلاً وصفه بالكافر، وهو لم يعلم عن الإسلام شيئاً ولم تقم عليه أي حجة بالغة بوجوب التزام التوحيد دون سائر العقائد.

إنه لأمر مرير أن تكون ثقافاتنا في الأمم  لا تتعدى معرفة شباب قريش في القرن السابع الذين خرجوا في حملات عسكرية لقتال جيرانهم من الروم والفرس، ولم يكونوا يعلمون شيئا وراء جبال فارس، وأن تكون ظنونهم آنذاك هي التي تؤسس للفتاوى المعاصرة في الحكم على هذه المليارات من البشر إيمانا وكفراً، وهو حكم يستتبع ضرورة الحكم على من يملك القدرات العسكرية في العالم الإسلامي أن يرحل بسلاحه إلى هذه الشعوب المجهولة ليقاتلهم تحت قاعدة الإسلام أو الموت.

الدليل العقلي بالغ الوضوح في أن البشر سواسية كأسنان المشط، وأن حرية التعبير وحق الإنسان في اختيار دينه ومعتقده محفوظ بدقة، وعدم جواز محاربة الناس على أساس اديانهم، وهذه القيم نفسها موجودة في صريح القرآن الكريم، وسأورد هنا عدداً من الآيات التي تنصرف مباشرة إلى هذه الحقيقة، وتؤكد أن الصالحين مكرمون عند الله يوم القيامة، من أي مذهب أو دين كانوا، وأن إجبار الناس على الإسلام هو سعي يتناقض بوضوح مع القيم الإسلامية العليا.

ومع أن الآيات كثيرة ولكنني سأكتفي بثلاث آيات، في البقرة والمائدة والحج، وهي خطاب الله الموجه مباشره لغير المسلمين، ولا أريد ان أتدخل في تفسيرها بشيء وأعتقد أنها من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى أي تفسير، ولكنها تصرخ في أذهان الناس وعقولهم أن الهداية شأن إنساني لا يتعدى حقوق الآخرين.

  • – إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون
    – إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر – وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
    – إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم إن الله على كل شيءٍ شهيد.

لا تحتاج هذه الثلاثية القرآنية إلى أي بيان حتى تكشف بوضوح أن التطرف الإسلامي اتخذ هذا القرآن مهجوراً وأنه يقدم فتاواه للناس في القتل والتنكيل وتمني الهلكة للآخر والسعي إلى قتله ليس على أساس من القرآن وإنما على أساس من الجهل والتعصب والهوى وفتاوى شيوخ الفتنة والحرب.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.