د. محمد حبش

هكذا وبدون مقدمات وفي خدمة الاستبداد تتبرع الكنيسة الأرثوذكسية بتاريخها الممتد في #موسكو إلى ألف وثلاثين عاماً، لتمنح القيصر المغامر #بوتين الضوء الديني الأخضر للقتال في #سوريا، وتسبغ على هذا اللون من الحرب الاسم التاريخي البغيض: الحرب المقدسة….

 

لم تقم أي من الكنائس الكاثوليكية أو البروتستانتية ولا حتى الكنائس التاريخية الشرقية ولا بطاركتها العشرة في #القسطنطينية و #القدس و #أنطاكية والاسكندرية وجورجيا وأثيوبيا و #العراق بموقف يشبه هذا، واكتفى الجميع بدعوات المصالحة والسلام وإنهاء الحرب.

وتقديس الحرب ليس مطلوباً منهم أصلاً، فالأطماع السياسية ذاهبة بهم أو بدونهم، والمحارب الروسي آخر همه أن يحصل على رضا البطريرك، ومجلس #الدوما يقدم تحية الإجماع لرغبة نيرون في الحرب، وهو إجماع يذكرك بالديمقراطية العتيدة التي مارسناها في مجلس الشعب السوري، وهكذا فإنه لا يوجد سبب يدفع زعيم الكنيسة الروسية للخرج عن سرب المتحد الديني في رفض الإرهاب إلى واقع الولوغ فيه والتورط في دمائه إلا السياسة السوداء وما يتصل بها من صفقات لئيمة.

والمؤلم أن تصدر فتوى كهذه من كنيسة شرقية، فقد كانت كنائس الغرب هي وحدها من تورط في جحيم الحروب الصليبية، بينما كانت كنائس الشرق هدفاً لقادة الحروب الصليبية، وقد دفعت آلاف الضحايا من أبناء الشرق المسيحي.

ولكن يبدو أن الكهنة المرتبطين بالسياسة ما زالوا على الكراسي الرسولية ففي نهاية القرن الماضي اصطف الكهنة مع الاستبداد في #صربيا ووقفت الكنيسة الشرقية مع #ميلوسوفيتش حتى العظم، والآن تنضم كنيسة موسكو لهذا الزخم الحربي غير المسبوق وتدفع بوتين للتدخل في سوريا بكل قوة.

فما الذي جناه العالم من تدخل الدين في السياسة بهذا الشكل القميء، ومن تأويل نصوص الدين الهادفة إلى الحب لتكون نصوص حرب وعدوان؟

لم تعدم #المسيحية ولا #الإسلام أشخاصاً وكهنة من هذا النوع، يستهينون بالروح الإنسانية إلى هذا المستوى، ويرون أن قتل الناس طاعة لله وتنفيذ لأمره، وقد سبق مفتينا الحسون إلى هذا اللون من تقديس القتل باسم الرب، وقال لعتاة مجرميها: لا تترددوا في قصف أي بلد تؤوي ثائراً، أبيدوها عن بكرة أبيها، فهذا حكم الله من فوق سبع سموات!!

وفي الأسبوع الماضي رأى السوريون مفتياً آخر من دمشق في صلاة العيد، يتحدث باسم القطيع، ويقول للحاكم الذي يتحالف مع الروس والإيرانيين لقصف شعبه: سالم من شئت وحارب من شئت!! وصل حبل من شئت واقطع حبل من شئت!! ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى نبلغه!!

ولم يبق إلا أن يقول له:

ما شئت لا ما شاءت الأقدار    فاحكم فأنت الواحد القهار!!

إنهم يقرؤون مع البطريرك الروسي من كتاب واحد وثقافة واحدة، يتحدثون عن حرمة الإنسان عند الله، ولكنهم يأمرون عتاة الحرب بقصف العباد والبلاد بما يتيسر من حمم الجحيم، ويقولون في الأبرياء ما يقوله الانتحاريون عندما يفجرون مسجداً أو سوقاً: لا تبأسوا فإنهم يبعثون على نياتهم، فإن كانوا صالحين فقد أوردناهم الجنة، وإن كانوا فاسدين فقد عجلنا بهم إلى النار.

تاريخيا حين أعلن البابا أوربان الثاني بدء الحروب الصليبية، وانطلق بطرس الناسك وناسكون مثله يطوفون في أوربا ليقنعوا الأروربيين بالحروب الصليبية، كانوا يملكون خطابا دينياً بالغ القسوة، لم يتورع الكهنة أن يلصقوه بالرب نفسه يقول لخصومه هاتوهم واذبحوهم قدامي، ويتم سرد نصوص عامة في الانجيل من كان منكم بلا سيف فليبع ثيابه وليشتر سيفاً، إني ما جئت لألقي سلاماً بل سيفا.

وأما اختياراتهم من التوراة فقد كانت في سياق دموي غاشم، تأمر بالحسم بلغة السلاح، وتتحدث عن أنبياء محاربين وإله دموي غاشم لا يتورع أن يدعو إلى إبادة القرى والمدائن، حتى يصير أمر الرب!!

إنني لا أجهل التأويل الديني لهذه النصوص، وهو شبيه بما نفعله نحن في نصوص مثل وقاتلوا المشركين كافة  واقتلوهم حيث ثقفتموهم، فهي نصوص محكومة بالزمان والمكان، ولا يقول عاقل بأنها تصلح لكل زمان ومكان، ولكن الاستبداد الديني والسياسي يمكن أن يتواطأ على فرض نصوص كهذه حيث تشاء مصالح السياسة، بقطعها عن سياقها وسباقها وزجها في خدمة الأطماع الغاشمة.

وفي إشارة للوعي بكيد السياسة في استغلال الدين فإن المؤرخ العربي رفض أن يسمي هذه الحروب اللئيمة بالحروب الصليبية، وأسماها باسمها الصحيح: حروب الفرنجة، ومع أن المسلم لا يؤمن بالصلب ولا بالصليب ولكنه لم يقبل أبداً أن يستخدم رمزاً دينياً يفترض أنه رمز فداء وحب في مسألة كراهية وحرب، ولم يرتض أبداً أن ينجر إلى أطماع الطامعين في زج قيم الدين بوحل السياسة.

ولا يوجد في التراث العربي كله كلمة الحروب الصليبية، وأجمع المؤرخون على استخدام مصطلح حروب الفرنجة، ولم نبدأ باستخدام مصطلح الحروب الصليبية إلا بعد أن ترجمت دراسات المستشرقين التي استخدمت المصطلح الأوربي لهذه الحروب البغيضة.

ما الذي جناه البشر من الحروب الصليبية التي قامت باسم الرب ودفاعاً عن المراقد في القدس؟ قرنان من الحروب الدامية، وقرون من الكراهية والبغضاء، وها هي تنفجر من جديد بلون الدب الروسي الأبله، القادم إلى الأرض التي تفيض لبناً وعسلاً.

الحرب المقدسة أيها البطريرك كلمة دنسة، وليس فيها أدنى قدسية، خاصة حين تكون الحرب بآلة التدمير الشامل، التي لا تفرق بين المحارب والبريء، وهي حرب ليس فيها أدنى شرف أو قداسة.

سيقول التاريخ إن فظائع الحروب الصليبية الرهيبة لم تعلمكم شيئاً، وأن الكهنة بعد عشرة قرون عادوا للدرس الدنيء نفسه، ووقعوا في الشراك نفسها التي وقع فيها تجار الحرب الأولون، وأخشى أنكم تحتاجون لتسعة قرون جديدة حتى تمارسوا اعتذار الكاثوليك الذي قدمه البابا عن الحرب المقدسة وعن حماقات الباباوات في العصور الوسطى في زج الناس في حمأة الحروب باسم الرب.

ستحمل أيها البطريرك وزر كل طائرة سوخوي تسقط حمولتها على رؤوس الأبرياء وتقتل الأطفال، وسيكون أطفال #تلبيسة و #الرستن و #إدلب خصماءك يوم الله، وهذا حصاد فتواك اللئيمة في يوم الحرب الأول، ولا شك أن القائمة ستطول بطول الثورة السورية التي تمتد كما يقول النظام نفسه على كامل التراب السوري من عين ديوار إلى #القنيطرة، ومن كسب إلى #السويداء، ولا زال الإعلام الرسمي منذ أربع سنوات يذكر في شريط التلفزيون أسماء القرى المقصوفة كل يوم، ولا شك أنها بلغت الآلاف من دون أن تنتهي القائمة ومن دون أن تنتهي الثورة.

لن نكره المسيحية لأجلك، ولن نقول لأولادنا إن يسوع أرسل طائراته ليقصفكم ويقتلكم، سنظل ندرس المسيح عليه السلام سورة طاهرة في القرآن ورسول محبة وسلام، ولكن سنعلم أولادنا من كتاب جبران: ويل لأمة تكثر فيها المعابد ويقل فيها التدين، وويل لأمة يكثر فيها الكهنة ويقل فيها الإيمان!!

الحروب يا حضرة البطريرك كلها نجسة… والمقدس هو من يصنع السلام…

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.