إعداد: د. عبد الصمد اسماعيل*

تدرك جميع الأطراف المتصارعة عسكرياً، أواقتصادياً أو دبلوماسياً، أن لا حل يلوح في الأفق القريب، يمكن أن يتفقوا عليه. على الرغم من المحادثات الدبلوماسية المستمرة، التي يجريها قادة الدول الكبرى التي تمسك بخيوط اللعبة في#سوريا، وتحرك بيادق الحرب وأمراءها، بما يتوافق مع مصالحها المتنافرة باتجاهات مختلفة. اختلاف مشاريعها وأجنداتها داخل البلد خصوصاً وفي منطقة الشرق الأوسط عموماً. فتزيد من تشرذم الواقع #السوري وتطيل النفق المظلم أبعد ما يكون.

وعلى خلفية الأحداث المتباطئة، وسيرها وفق السيناريوهات المعهودة، واستمرار المعارك والعنف الدائر في الجغرافية #السورية، تتبدد المقدرات الاقتصادية والبشرية للدولة والشعب، تقود البلاد نحو كارثة إنسانية بشعة لم يشهد لها التاريخ المعاصر مثيلاً منذ إنتهاء الحرب العالمية الثانية.

الإستدانة أسهل طرق تمويل اقتصاد الحرب

لقد شردت الحرب الدائرة ملايين السوريين، ودفعت بهم نحو الرزوخ تحت مستوى #الفقر. وقتلت مئات الآلاف من شبابها، الذين كانوا يعتبرون ثروة المستقبل ودعائم بنائه الرئيسية. إلى جانب استنزاف معظم موارد البلاد الاقتصادية والمالية، سواء بنهبها من قبل الجماعات المسلحة التي سيطرت على مساحات واسعة من الأراضي، او استخدامها في تأدية نفقات العمليات العسكرية واستمرار آلة الحرب بالدوران.

ولن تنجو الأجيال القادمة من تبعات الحرب. فإذا كان السوريون الآن يدفعون ثمنها فقراً وتشرداً ونزوحاً ودماً، فإن الأجيال القادمة ستدفع حصتها من فاتورة الحرب أيضاً، نتيجة تبدد جهود التنمية المستدامة أدراج الرياح. حيث شفطت هذه الفاتورة ثروات البلاد الوطنية، ودفعت بالحكومة إلى تمويل نفقات موازناتها المالية والعسكرية عن طريق التمويل بالعجز.

سواء بالإستدانة من الداخل أو بالإستدانة من الخارج. مما سيحمل الأجيال القادمة ديوناً وأعباءاً مالية لم يكونوا طرفاً لا مسبباً ولا مستفيداً منها. خاصة أن هذه الديون لا تستثمر في مجالات اقتصادية تنموية تدر خيراً على أبناء المستقبل. بل على العكس تماماً، فهي تستخدم لتأمين حاجة السوق المحلية من المواد الغذائية وغير #الغذائية الرئيسية من مشتقات نفطية، وأدوية وغيرها (استهلاك جاري).

أو في الإنفاق #العسكري، الذي يعتبر اقتصادياً إنفاقاً عقيماً.وعلى خلفية العقوبات الاقتصادية المفروضة، وأمام تراجع معدلات الإنتاج الوطني، واستنزاف الاحتياطيات المالية الحكومية من القطع الأجنبي إلى ما دون 6 مليارات #دولار. اضطرت الحكومات السورية التي تعاقبت خلال سنوات الأزمة إلى التوجه نحو الإستدانة من الخارج. كأسهل الطرق،واقصرها بهدف تأمين الموارد المالية اللازمة. سواء للاقتصاد الوطني وتأمين احتياجاته الأساسية، أو لتأدية النفقات العسكرية، أولتسديد رواتب الموظفين الحكوميين. وبالتالي تراكم المشكلات المالية والاقتصادية وترحيلها إلى ذمة الأجيال القادمة.

1423390865_content_thumb

الدين الخارجي بالأرقام

قبل الخوض في مسألة الدين الخارجي بالأرقام، من المفيد ذكر تعريف البنك الدولي لإجمالي الدين الخارجي. بأنه (مبلغ الديون المستحقة لغير المقيمين والقابلة للسداد بالعملة الصعبة أو من خلال سلع أو خدمات. أي أن إجمالي الدين الخارجي هو عبارة عن مبلغ الدين العام والمضمون من قبل الحكومة، والدين الخاص طويل الأجل غير المضمون، واستخدام ائتمان صندوق النقد الدولي، والدين قصير الأجل الذي يشمل كافة الديون التي يبلغ أجل استحقاقها الأصلي عاماً واحداً أو أقل، والفوائد المتأخرة على الديون طويلة الأجل).

وبالعودة إلى الوراء قليلاً. في بداية الألفية الثالثة كانت سوريا تعتبر من الدول مرتفعة المديونية في المنطقة، وفق وكالة آكي الإيطالية. حيث بلغ حجم الدين الخارجي نسبة 98% من حجم الناتج الإجمالي المحلي بالأسعار الجارية، أي ما قيمته 23 مليار دولار تقريباً. معظمها كان يعود لدول #أوروبا الشرقية (الاتحاد السوفيتي السابق، بلغاريا، تشيك وسلوفاكيا، بولونيا، ألمانيا).

وفي إطار الإصلاح الاقتصادي الذي كانت الحكومة السورية قد بدأت به في عام 2005،ومحاولة رفع معدلات النمو، وتحسين الواقع المالي والاقتصادي للبلاد. فقد بدأت بالبحث جدية عن مخرج لحل أزمة ديونها؛ والتي أثقلت أعباء خدمة الدين الخارجي كاهلها (بلغت أعباء خدمة الدين في بعض السنوات أكثر من 0.25 مليار دولار).

وقد بذلت جهود حثيثة في هذا الإطار، أثمرت عن إبرام إتفاقيات عديدة مع تلك الدول لتسوية هذه الديون ما أمكن. لتعلن سورية في 25 نيسان أبريل من عام 2010 إغلاق ملف ديونها الخارجية.حيث تراوحت نسب التخفيض التي حصلت عليها الحكومة السورية وفق تلك الإتفاقيات بين 13 – 27% من أصل الدين؛ لكل من تشيكيا وبولونيا وسلوفاكيا والمانيا. في حين شطبت بلغاريا آخر تلك الديونبنسبة 77% من حجم ديونها على سورية والتي كانت تبلغ 71 مليون دولار فقط. ولتصبح بذلك سورية من أقل الدول مديونية في المنطقة. قبل بدء الاحتجاجات الشعبية فيها، والتي سرعان ما تحولت إلى مواجهات مسلحة.

ألحقت اضراراً كبيرة بالاقتصاد الوطني، لتصل مجموع خسائره في نهاية عام 2014 بـ 202 مليار دولار؛ بحسب تقرير للمركز السوري لبحوث السياسات مدعوم من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ووكالة الأونروا. في حين بلغ عجز الموازنة نسبة 40.5% من حجم الناتج المحلي لنفس العام. ثم وصل عجز الموازنة في عام 2015 إلى 561 مليار ليرة سورية ليبلغ الحجم التراكمي للعجز خلال سنوات الأزمة إلى أكثر من 2 تريليون #ليرة سورية. مما شكل ضغطاً على الاعتمادات الاستثمارية لصالح الإنفاق الجاري. وأمام تراجع الاستثمارات، والإنتاج، اضطرت الحكومة إلى التوجه نحو الإستيراد بشكل كبير.

ليزيد ذلك من عجز الميزان التجاري السوري الأمر الذي دفع بالحكومة إلى إنفاق معظم احتياطياتها النقدية من القطع الأجنبي. بل أكثر من ذلك شرعت بالعودة إلى التوجه نحو الإستدانة من الخارج.

images
هذا وخلال سنوات الأزمة، فقد نما حجم الدين الخارجي في سوريا بشكل مضطرد. مما أضاف على الآثار الاقتصادية السلبية، التي تتركها الحرب الدائرة، أعباءاً مالية كبيرة، ستثقل كاهل الاقتصاد الوطني، حتى بعد إنتهاء العمليات العسكرية. ستطال آثارها أجيالنا القادمة فتقلص من حجم الدخل المتاح للاستهلاك؛ وبالتالي ستعاني إنخفاضاً في نصيب الفرد من الدخل القومي. لترى نفسها مرغمة على تسديد فاتورة أخطائنا من دخولها. الأمر الذي سيترك آثاراً سلبية على الإنتاج الوطني ومعدل نصيب الفرد منه وعلى حجم الاستثمار ورؤوس الأموال المتوافرة فيه.

وتشير بعض التقارير الصادرة عن جهات نقدية دولية وعربية، أن حجم الدين الخارجي بلغ 7.5 مليار دولار عام 2011 ارتفع إلى أكثر من 11 مليار دولار بنهاية عام 2014. لإيران حصة الأسد منها.

إيران وروسيا الملاذ المالي للحكومة السورية

في ظل استمرار الأزمة، وتزايد نفقات الحرب، وأمام تراجع قدرة الاقتصاد الوطني على تأمين حاجة السوق المحلية، من المستلزمات الرئيسية (السلع والمواد الغذائية- المشتقات النفطية – #الأدوية – القمح والطحين – ….إلخ). فقد لجأت الحكومة السورية، إلى الإستيراد من الخارج، وخاصة من حليفتيها الاستراتيجيتين #إيران وروسيا.

نجحت الحكومة في 2008، بتخفيض الديون الروسية، بنسبة 73%. والتي كانت معظمها، ثمناً لصفقات توريد الأسلحة لسوريا أيام الاتحاد السوفيتي السابق. وبموجب ذاك الإتفاق، فقد جرى شطب 9.7 مليار دولار، من اصل الدين البالغ 13.4مليار دولار. يسدد منها فقط 1.5 مليار نقداً وعلى دفعات سنوية تمتد لمدة عشرة اعوام. أما الباقي فعلى شكل صادرات من سورية إلى روسيا وتمويل استثمارات روسية على الأراضي السورية.

تتعلق معظمها ببعض مشاريع النفط والغاز، وتوسيع ميناء طرطوس لاستقبال أكثر عدد ممكن من قطع البحرية الروسية الحديثة.وكانت سورية وقعت في كانون أول ديسمبر 2014 اتفاقاً ضخماً مع شركة روسية للتنقيب عن النفط والغاز في المياه الأقليمية لسورية.وكانت مجلة انترناشنال بوليسي ديغيست، قد تحدثت عن طلب الحكومة السورية،قرضاً من روسيا بقيمة 3 مليار دولار، في كانون أول من العام الماضي. لم توضح ما إذا تم التوصل لإتفاق حوله أم لا.

وفضلاً عن الدعم العسكري والاستراتيجي الذي قدمته إيران لسورية خلال فترة الأزمة، فقد منحت الحكومة الإيرانية،خطاً إئتمانياً للحكومة السورية في تموز 2013 وذلك بعقد اتفاق عن طريق المصرف المركزي، بقيمة 3.6 مليار دولار، وفق اعتماد مستندي لتغطية إمدادات النفط الإيرانية إلى مصفاة بانياس. تضاف إلى مليار دولار سابقة، خصصت لشراء منتجات غير نفطية. كما كانت إيران قد منحت سابقاً قرضين لسورية بقيمة 4 مليارات دولار.

كما كانت الحكومة السورية قد طلبت من إيران أيضاً، تقديم خط إئتماني جديد بقيمة 4.7 مليار دولار.

ثلاثاً منها للمشتقات النفطية، والباقي لتوريد مواد عذائية وأدوية وقطع غيار للمعامل ومحطات الطاقة الكهربائية والمطاحن والصوامع وتأمين احتياجات القطاع الزراعي والموارد المائية. بالمقابل طلب مجلس الشورى الإيراني في شباط الماضي، مقابلها ضمانات سيادية، بقيمة 20 مليار دولار لمنح هذا الإئتمان.

وأشار الصحفي ناهض حتر، المقرب من الحكومة السورية، في مقال له بجريدة الأخبار اللبنانية، في أبريل الماضي،”أن الدعم الإيراني للحكومة السورية، يتم بشروط تجارية منها رهن لأراض وعقارات حكومية مقابل الديون”.

آثار الدين الخارجي والحلول الممكنة

تترك الديون الخارجية، وأعباء خدمة الدين، آثاراً سلبية على الاقتصادات الوطنية، تدفع بالحكومات التي تعجز عن سدادها، إلى التعرض لمشكلات مالية، لاتستطيع إيجاد حلول لها على الأمد القصير. لما تسببه هذه الديون، من شلل لمقومات الاقتصاد، وتبديد مقدراته المالية، وتراجع استثمارته. وتدفع بأسس التنمية المستدامة، التي تحفظ حقوق الأجيال القادمة، في ثروات ومقدرات البلاد، أدراج الرياح. بل تحملهم اعباء هذه الديون ومهمة تحرير فواتير تسديدها.
كما تدفع بالسلطات القائمة لفرض المزيد من الضرائب.

وتؤدي إلى تراجع التصنيف الإئتماني للدولة. وبالتالي صعوبة حصولها على أية تسهيلات إئتمانية، أو قروض خارجية مستقبلاً.كما حدث في اليونان، التي فوجئ شركاؤها الأوربيون في منطقة اليورو، بحجم الديون المترتبة عليهم، والتي ادت بالبلاد إلى ازمة مالية واقتصادية خانقة.

ولخطورة آثار الدين الخارجي، في الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أشار الرئيس الأمريكي باراك أوباما،في خطابه السنوي لعام 2011، إلى الشعب الأمريكي قائلاً: “إن أهم خطر يهدد الولايات المتحدة الأمريكية هو الديون الحكومية”.

وفي الحالة السورية، وحيث أدت الأزمة إلى عودة هذه الديون للتراكم من جديد، على كاهل السوريين. في ظل اقتصاد، تراجعت معظم مؤشراته الاقتصادية الرئيسية. ولم يعد قادراً على استيعاب أية أزمات جديدة؛ مالية أو اقتصادية. فضلاً، عن أنها قد تودي بالقرار الاقتصادي الوطني، لمراكز الحكومات المانحة للديون.

لذلك فإننا نرى ضرورة العمل على ما يلي:

– ضرورة الإسراع في إيجاد مخرج سلمي للأزمة التي تعصف بالبلاد. وإيقاف جميع العمليات العسكرية الدائرة على الساحة السورية. التي تستنزف مقدرات البلاد، الاقتصادية والبشرية.وتثقل كاهلها بأعباء مالية قد لا تكفي السنوات القليلة القادمة لتسديدها.

– إجراء إصلاحات اقتصادية حقيقة، وسريعة. تؤدي إلى تصحيح السياسات والإجراءات المالية والنقدية المتبعة. بما يدعم قوة الاقتصاد الوطني، ويدفع بمؤشرات النمو فيه، نحو الإرتفاع.

– تقديم الدعم المالي اللازم للمشروعات الصغيرة والمتوسطة. وللقطاع الزراعي والمشاريع المائية، وفق سياسات محسوبة الهدف. تضمن الدولة من خلالها توفير حاجة البلاد، من المستلزمات الغذائية وغير الغذائية الرئيسية. مما سيقلل من الاعتماد على الاستيراد وبالتالي من حجم الديون.
– إصلاح النظام الضريبي،والتوجه نحو المطارح الضريبية الكبيرة، ومحاربة التهرب الضريبي. بما سيضمن توفير موارد مالية محلية، يمكن استخدامها لتمويل العجز في الموازنة العامة. واستخدامها في استثمارات حقيقية، تعود بالفائدة على الاقتصاد الوطني.

– دعم المؤسسات المالية والمصرفية العامة والخاصة العاملة داخل الاقتصاد الوطني. وتحسين السياسات والقوانين المالية الناظمة لعملها. بما يضمن تجميعها للمدخرات المالية والنقدية، وتوجيهها نحو الاستثمارات الحقيقية.الأمر الذي يحتاج إلى توفير مناخ استثماري سليم يجذب نحوه الاستثمارات االخارجية المباشرة بدلاً من القروض والديون.

– في سياق البحث عن موارد مالية محلية، لا بد من العمل على تشجيع رجال الأعمال السوريين؛ وخاصة أولئك الذين ذهبوا برؤس أموالهم خارج البلاد؛ بضروة إعادتها واستثمارها داخل الاقتصاد الوطني. وفي المناطق الآمنة، بعد توفير مناخ استثماري سليم، وتقديم حوافز ومشجعات إدارية واستثمارية مغرية؛ الأمر الذي يغن عن التوجه نحو رفع حجم المديونية الخارجية.

– إعادة تأهيل المعامل والمصانع المتضررة نتيجة المعارك الدائرة. وإجراء العمرات اللازمة لها، بما يضمن إعادة تشغيلها، وعودتها للإنتاج، فتؤمن للاقتصاد الوطني بعضاً من احتياجاته، تغني عن الاستيراد. وبالتالي التقليل من الطلب على الديون الخارجية.

– تقديم كل الدعم اللازم للقطاع الزراعي.وتشجيع الفلاحين على استثمار كافة مساحات أراضيهم؛ وخاصة في محافظة الحسكة. التي تعيش حالة من شبه الاستقرار الأمني، وتوجيههم، نحو زراعة المحاصيل الاستراتيجية، وخاصة القمح والشعير.لتحول دون انجراف البلاد، نحو أزمات معيشية.وتوفر على الحكومة استيرادها من الخارج. فتخفف من العجز في الميزان التجاري، وبالتالي من حجم الدين الخارجي.

(أكاديمي وباحث اقتصادي)

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.

الأكثر قراءة