محمد حبش

سجلت اتفاقيات #سايكس_بيكو قبل مائة عام باسم الدبلوماسيين المخضرمين مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، ودخلت ذاكرة العرب كأسوأ صورة لتحكم الغرباء بمصائر الشعوب وتقاسم النفوذ على أرض العرب للمحتل الفرنسي والبريطاني.

 

ربما كانت هذه الصورة التقليدية لوصف الاتفاق محل اتفاق بين الجميع، ولكن جانباً آخر من الرؤية لا يزال غامضاً تلفه الأساطير…

نتحدث عن سايكس بيكو وكأننا كنا هنا بلا أقدار ولا مستقبل، ونتحدث عن سايكس وبيكو وكأنهما خالقان مطلقان يقومان برسم المنطقة على قدود رغائب المحتل دون أن نشير إلى مسؤولية أبناء المنطقة في رسم هذا الهوان وتكريس هذا الشتات.

واقع سوريا قبل مائة عام كان كواقعها اليوم بالضبط، والفارق الوحيد أنه لم يكن آنذاك فيس بوك وتويتر وانستغرام، ولم يكن هناك برنامج أنا أرى وبرنامج شارك في الجزيرة والعربية، أما على الأرض فالمشهد إياه كتائب وألوية وصراعات واحتلالات وانسحابات وفوضى لا نهاية لها وضياع تام لشتات شعوب خرجت للتو من تبعية عابثة استمرت أربعمائة عام عبر الحكم التركي الذي لم يخطر في باله أبداً أن ينظر إلى هذه المنطقة في الهلال الخصيب على أنها أمة تامة، وظل يتعامل معها على أنها قائم مقاميات معزولة يعين باشاواتها وآغاواتها ومخاتيرها ورؤساء مخافرها من الأستانة دون أن يكون للناس هنا أي رأي باستثناء التخابر مع المخاتير وفق ما رسمته دراما الوجع السوري خلال السنوات الأخيرة.

حين انسحب الترك كان السوريون أمة تائهة، فالمستبد لا يبني مجتمعاً وإنما يفرق ويسود، وكانت الألوية والكتائب والعصابات والعنتريات في كر وفر، وكان تدخل القوى الكبرى حتمية تاريخية، فهي معنية أولا بمصالحها واقتسام النفوذ فيما بينها وهذا كان الهدف الأول لسايكس بيكو بكل تأكيد.

ولكن سايكس بيكو لا يرسم المنطقة على رغبات الفوتوشوب ولا يعيد تكوينها وفق ماكيتات جاهزة يرسمها فنانوه، إنه يرسم في الواقع ما هو قائم على الأرض، ومن وجهة نظري فإن سايكس بيكو كان جهداً واقعياً تماماً وقد رسم أشبه الصور بالصراع القائم في المنطقة.

لا تنتظر من الآخر أن يكون أكثر عدالة في قضاياك منك أنت، ولا يستطيع أحد أن يركب ظهرك إلا إذا وجده محنياً، ولعبة الأمم التي ظهرت في سايكس بيكو لم تكن إلا صورة الانحطاط العربي والوهن الشامي والعراقي، ومن وجهة نظري فقد فعل الرجلان أفضل الممكن لقيام كيانات سياسية واقعية في المنطقة، ومن الواضح أن فكرة دولة العلويين ودولة الدروز ودولة النصارى ودولة حلب والشام قد تم تجاوزها في النسخة الأخيرة لسايكس بيكو بعد أن كانت على مائدة التفاوض.

تقاسم الفرنسي والبريطاني مناطق النفوذ ومنحت روسيا القوقاز والقرم، وما بين سان ريمو ولوزان نال التركي أيضا حصته في لواء اسكندرون، وآخر من كان يستشار في هذا القسمة هم أبناء البلاد.

إن الغرباء يقتسمون مصائرنا ولكن ليس وفق آمالهم بل وفق شتاتنا وخيبتنا وضياعنا وتفرقنا، وهذا بالضبط ما فعلوه، وهو بالضبط ما يفعلونه اليوم.

لقد قام حكامنا الأشاوس على مدار مائة عام بلعن سايكس بيكو وتخوينها ووصمها بالامبريالية والتآمر الدولي والمشروع الماسوني والصهيوني، وكل ما شئت من خطاب التخوين والتآمر، ولكنهم قاموا في الواقع بالدفاع ببسالة عن كل خطوط سايكس بيكو، وبناء دول وطنية حاسمة على قد سايكس بيكو واعتبار هذه الحدود التي رسمها الرجلان على الورق أقداراً حتمية صارمة ونصوصاً مقدسة تزهق في سبيلها الأرواح والمهج وتشتعل الحروب الضارية، وفيما رسم سايكس وبيكو المنطقة على الورق فإن الحكام العرب رسموها بالحديد والنار والأسلاك الشائكة والألغام المزروعة تحت عنوان الدفاع عن الوطن من أعدائه وحماية البلاد من المعتدين والسيادة الوطنية المقدسة.

لأكثر من عشرين عاماً كان السوري يتناول جواز سفره من حكومته الوطنية مكتوب عليه بلا خجل صالح لكل دول العالم ما عدا العراق، وكان العراق يقوم بإجراءات لا تقل قسوة وتوحشاً.

إنها عبارة لم يكتبها سايكس ولا بيكو وإنما كتبها الاستبداد العربي والأنانية .

ما يجري اليوم هو سايكس بيكو جديد وهذا أمر مؤكد ولا يمكن أن نتصور أقل من هذا، ولكن مسؤولية الغرباء هي مسؤولية محدودة وتصويرية فيما تكمن المسؤولية الحقيقة على أبناء البلد الذين وصلوا بشتاتهم وفرقتهم وتمزقهم إلى هذا الحال التعيس.

يرسم سايكس وبيكو، وكيري لافروف مشهد المنطقة بهدف تقاسم النفوذ وليس تقسيم المنطقة، إن قدر المنطقة في الوحدة أو الشتات يرسمها أبناؤها فقط دون سواهم.

وبعيداً عن الحلم الأفلاطوني في توحد الموالاة والمعارضة، فإن توحد المعارضة نفسه لم يتحقق منه شيء، وعلى الرغم من المنابر الدولية التي رصدت لهذا التوحد وإصرار الدول الداعمة وأيمانها المغلظة انها لا تتدخل أبداً في خيارات السوريين، ولكننا لم ننجح أبداً في هدم الأسوار التي بنيناها على اساس الشرط الطائفي والقومي والمذهبي.

هناك ألف تبرير لانقسام السوريين إلى موالاة ومعارضة، مع أنني لا أومن بذلك، وهناك ألف تبرير للصراع مع #داعش ومشروعها التدميري المتوحش، ولكن ما هو تبرير قتال دوما ومسرابا؟ وعفرين وأعزاز؟ والحر والمثنى؟

في #الغوطة_الشرقية يطبق حصار خانق على اهل الغوطة من قبل النظام وحلفائه الروس والايرانيين، وبلغ الأمر بالناس حد الموت من الجوع، ولكن ثوارنا البواسل في الغوطة انخرطوا في حرب قذرة استدارت فيها البنادق بلا شرف ليقتل الأخ أخاه، في حرب مجنونة هي إلى سبيل الشيطان أقرب منها إلى سبيل الرحمن.

ماذا ننتظر من الوسيط الامريكي أو الروسي، وهل سيكون أكثر حناناً بنا من أنفسنا؟ ولماذا نلومهم وهم يبحثون عن مصالحهم طالما أننا منغمسون بالحروب الدامية من أجل مصالحنا؟

إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم….

إنهم يرسمون مصائرنا على قد خيباتنا وشتاتنا، إنه القدر الأسود الذي لم يتغير منذ مائة عام، بدءاً من سايكس بيكو وانتهاء بكيري لافروف…. والمأساة مستمرة.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.