جوان علي – الشدادة

على أطراف مخيم #الشدادة حيث آلاف النازحين يفترشون الأرض منذ أيام، بدا محمد منشغلاً بإحراق صوره التذكارية، حينما قادتنا الصدفة إلى اللقاء به. لم يكن نزوحه من مدينة #الميادين برفقة عائلته الصغيرة، عابراً درباً مليئة بالألغام، تحت قصف الطيران و المدفعية، إلا آخر فصل من المآسي التي مر بها خلال السنوات السبع الأخيرة.

قلقٌ من المجهول مع إحساس بالخسارة، امتزجت بهما حسرةٌ لفقدان الأهل والأصحاب؛ مشاعر كانت تفصح عنها هيئته ونبرته وهو يهمّ بإحراق ذكريات من زمنه الجميل “الذي رحل إلى غير عودة” على ما يقول.

محمد الأربعيني والأب لخمسة أطفال والمربي لطفلين يتيمين فقدا أبويهما أثناء قصف الطيران للميادين قبل 4 سنوات، هو أحد النازحين  الـ27 الفاً، الذين وصلوا خلال الأيام القليلة الماضية إلى مخيم الشدادة جنوب الحسكة، في واحدة من أكبر موجات النزوح التي يشهدها ريفا #دير_الزور و #الرقة نتيجة المعارك.

إحدى صوره في ريعان الشباب رسمت الابتسامة على شفاهه، قبل أن يلقي بها إلى النار ليقول “بعد أن خسرنا الكثير الكثير من الأهل والأحبة وكل شيء نملكه؛ من بيوت وسيارات وأراضٍ، ماذا عساها ستنفعنا الذكريات في ظروف نزوح كهذه؟” قال ذلك وهو يلقي دون تردد صور أخرى إلى محرقة الذكريات أمامه، من ثم تابع بعدها تبرير فعلته متهكماً “وهل يمكن لنا أن نغلي بها إبريقاً من الشاي أو أن نطبخ بها غداءً للصغار؟! أم تراها ستقينا برد الليالي إن تغطينا بها؟”

هكذا بدا أن لكل صورة قصة ألم مختلفة؛ فصورة أخيه الكبير شريف أبو أحمد الأب لتسعة أطفال، كانت تستحضر معها شعوراً بالعجز أمام انقطاع أخباره، بعدما نزح بعائلته في سيارة، سالكا أحد الدروب الملغمة، ولم يعد يعلم ما إذا كانوا لا يزالون على قيد الحياة أم لا، أما الأكثر إيلاماً بالنسبة له فهي صورة ابن خالته الذي قضى مع عائلته مؤخراً في قصف للطيران على بلدة القّرَيّة، ليتبين لاحقاً أن القصف لم يبق لهم أية جثة كي يدفنوها.

ويكشف محمد أنهم كانوا قبل ذلك عائلة مكونة من 11 أخاً، قبل أن تفرقهم الأقدار تباعاً، حتى لم يعد أحد منهم يعلم الآن أين أصبح الآخرون؟!. القدر البائس ذاته أفقده صديقه محمد الهميلة الذي قضى أيضا مع عائلته المكونة من 12 فرداً في قصف الطيران على الميادين قبل أسبوع، كذلك بدا أن مصيراً مشابهاً كان ينتظر قريبه الآخر الذي قضى في تفجير سيارة مفخخة، ورحل دون أن تبق له حتى شاهدة قبر بعد أن تلاشت جثته.

للحظة بدت وكأن صوره كانت تثقل كاهله أكثر من صور معاناة النزوح الذي لا يعلم حتى الآن إلى أي مجهول ستقوده، فهو متأكد حتى الآن من مقتل 7 من أقاربه وأصدقائه في موجة النزوح الأخيرة، لكن مصير أكثر من 80 شخصاً لا يزال يشغل باله وما حل بهم، بعد أن اشتدت المعارك في الميادين ريفاً ومدينة.

ألقى برزمة صور من يديه دفعة واحدة إلى النار؛ وكأن به يرفض سرد المزيد من قصصها المُتعبِة “هي لم تكن سوى صورٍ تذكرنا بأحوالنا عندما كنا بين أهلنا وأصحابنا، ولم تعد تثير إلا ما هو حزين مؤلم، بينما نحن الآن أحوج إلى أن نلتفت لتأمين خبز أطفالنا وشرابهم” قال ذلك وهو يلتفت إلى أطفاله المتحلقين حوله، وكأن به يريد أن يُنُّسيَهمْ أية صورة يمكنها أن تعلق في ذاكرتهم، من محرقة الذكريات تلك.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.