محمد عوض

على امتداد السنوات الثلاث الماضية عاشت كافتيريا تابعة للكنيسة في ولاية شمال الراين بألمانيا، أجواء هادئة تتماشى مع حياة روادها من المسنين، حتى وصل إليها قبل ستة أشهر ثلاثة شبان سوريين، حاملين معهم فكرة تحويلها إلى مطعم يُقدم خلال يومين من الأسبوع مأكولات دمشقية.

تحولت الكافيتريا إلى مطعم يضج بالحياة، وارتفع عدد موظفيها لا سيما من اللاجئين والسوريين منهم على وجه الخصوص، وتم ربطها ببرامج التدريب المهني بشكل وثيق، بعد تفاعل كبير أبداه رب العمل مع مقترح الشبان الثلاثة.

هكذا بدت الصورة من بعيد إيجابية للغاية، ما يدفع إلى طلب لقاء مع بعض الشبان المستفيدين من المشروع، حيث استجاب الشابان محمد العلبي (35 عامًا)، وسامر الصياد (28 عامًا)، لتبدأ أولى المشاكل بالظهور.

تعهد بعدم إفشاء أسرار المطعم

تفاجأنا برفض الشابين ذكر اسم المطعم أو المدينة التي يقع فيها، كونه الوحيد من نوعه في المنطقة، وبعد استفسارنا عن السبب، اتضح أن رب العمل طلب من موظفيه توقيع ورقة تعهد بعدم “إفشاء أسرار” المطعم في الوسط العام خارج العمل.

العلبي الذي أخبرنا بهذه المعلومة فسر الوضع بالقول “عادةً هذا أمر مشروع للمطاعم الكبيرة كونها تريد الحفاظ على سرية وصفاتها في الطبخ”.

وتابع “لكن هنا الأمر مختلف فالمطعم لا يقدم اختراعات غريبة، سوى بعض المأكولات الدمشقية يومي الجمعة والسبت، لكن الأمر في الواقع يتعلق برداءة ظروف التوظيف”.

رواتب لاجئين وضرائب ألمان

العلبي وقع عقده مع المطعم عبر برنامج التدريب المهني، الذي منحه راتباً شهرياً مقداره 1000 يورو، لمدة ثلاث سنوات، تحصل الدولة الألمانية على ضرائب من هذا المعاش تبلغ نسبتها 40%، ما يعني أن اللاجئ يبقى بين يديه 600 يورو فقط.

الفكرة التي يود العلبي لفت النظر إليها، هي أن اللاجئ بالحالة الطبيعية يحصل على راتب بطالة مقداره 416 يورو، ومع عمله لثمان ساعات يوميًا، فإن الراتب يزيد بأحسن الأحوال مقدار 184 يورو.

وبناءً على معايير معينة فقد يضطر العامل إلى دفع أجار مسكنه من هذا الراتب أيضاً، الذي يصل مع الفواتير إلى 550 يورو، على ألا يقل الراتب الصافي الواصل إلى يد اللاجئ عن الحد الأدنى للمعيشة بحسب تقييم الحكومة وهو 416 يورو (نفس راتب البطالة). “وهذه صفقة غير رابحة بتاتاً”، وفق تعبير العلبي.

يرى الشابان أن الأسلوب الذي يدار به التدريب المهني، الهادف إلى دمج اللاجئين بسوق العمل، غير مجدٍ، ولا يحفز اللاجئ على الخروج من منزله وتغيير وضعه، فبعد عمل لسنوات لن يكون قادراً لى تحقيق أي تطور في حياته.

يستدرك الصياد هنا “نعلم أن ثقافة الضريبة غائبة عن مجتمعنا، لكن ساعة عمل المواطن الألماني لا تقل عن 10 يورو، أي بحساب ساعات العمل المتاحة لنا في هذا التدريب، وهي 32 ساعة، فإننا يجب أن نحصل على 1280 يورو”.

ويوضح أكثر “نعلم أننا لاجئون، لكننا نعامل بالنسبة للضرائب معاملة المواطنين الألمان، فلماذا لا تنطبق علينا امتيازاتهم في الأجور أيضاً، حتى نكون قادرين على إيفاء التزاماتنا اتجاه المجتمع؟”.

استغلال قانوني لرخص اليد العاملة

تحاول العديد من المطاعم والورشات وغيرها ربط نفسها ببرامج التدريب المهني، واستقطاب المزيد من اللاجئين إلى صفوف موظفيها، ونظراً لهذه الظروف التي وجد كل من العلبي والصياد نفسيهما فيها، فإنهما يعتقدان أن السبب يتعلق فقط برخص اليد العاملة مقارنةً بالألمان. “استغلال قانوني ليس أكثر”، يعلق العلبي.

يؤكد الصياد على كلام زميله بما سمعه في مقابلة للمستشارة أنجيلا ميركل على قناة dw العربية، في أيلول 2017 قبيل الانتخابات، وكانت المستشارة قد أجابت على أسئلة تتعلق بتخوف المجتمع الألماني من البطالة بسبب منافسة اللاجئين في سوق العمل، بأن القوانين التي تعتمدها الحكومة الألمانية ستحرص دوماً على أن تغلب الكفة لصالح الألمان.

ويذكّر العلبي هنا بطرح 100 ألف فرصة عمل للاجئين عام 2016 من قبل الحكومة، براتب أقل من واحد يورو في الساعة (80 سينت)، ما أدى إلى موجة طرد عمال ألمان وتوظيف لاجئين عوضًا عنهم، لتشهد بعدها عدة مدن مثل “أيسن” مظاهرات ضد اللاجئين، قبل أن تستدرك الحكومة تصرفها والذي جاء على لسان ميركل في المقابلة سابقة الذكر.

العلبي أنجز في أكثر من مرة مهام تحضيرية لليومين الذين يتم خلالهما تقديم مأكولات دمشقية في المطعم الذي يعمل به، تتعلق بتحضير المواد الأولية وفواتير البيع والشراء وما شابه، ووجد أن المطعم يربح فيهما فقط 1400 يورو، في حين لا تتجاوز تكلفة إنتاج الأطعمة 100 يورو.

خلال هذين اليومين يقبل الألمان على الأطعمة الدمشقية الغريبة عن ثقافتهم، ويجدونها رخيصة الثمن بشكل مفاجئ، الأمر الذي يعود بطبيعة الحال إلى رخص اليد العاملة.

إيجابيات يسعى اللاجئون وراءها

ولا ينكر الشابان إيجابيات انخراطهما في العمل رغم سوء الظروف، إذ أمّنت لهما الكنيسة مساكن دون كومسيون، وتكفلت بمهمة تسيير أوراقهما الرسمية إذا اضطر الأمر، مختصرةً عليهما صعوبة الإجراءات الروتينية والبيروقراطية في مؤسسات الدولة.

وأشار كلاهما إلى تسحن لغتهما الألمانية لكثرة استخدامها إما مع الزبائن، أو مع زملائهم الألمان أو الأجانب الذين لا تجمعهم معهم لغة واحدة، فضلًا عن التعرف على المزيد من الألمان، وهي مهمة غير سهلة وفق ما شرح الشابان لـ”الحل السوري”.

في أيام الأسبوع العادية يكون دوام الموظفين من الساعة 9 صباحاً وحتى 2 مساءً، أما في يومي الجمعة والسبت فإن دوام الموظفين السوريين يتحول إلى المساء بين 6 وحتى 10 مساءً، إذ يتم تقديم مأكولات دمشقية في هذين اليومين، من اليبرق إلى البامية والبطاطا بكزبرة وتوم، فضلاً عن الحلويات مثل الرز بحليب، والمحلاية، والشعيبيات، وغيرها من المأكولات.

تلقى هذه الأطعمة إقبالاً شديداً من الألمان، لا سيما المسنين منهم، وربما يكون السبب أن رواد المطعم هم ذاتهم المترددون إلى الكنيسة، ويتعاملون بتسامح كبير مع لغة الموظفين الركيكة.

وفي حين يفتح أرباب العمل الألمان أبواب متاجرهم على وسعها لعمالة اللاجئين للاستفادة من رخص اليد العاملة بين صفوفهم، لا يجد هؤلاء مفراً من القبول بالأمر الواقع حفاظاً على موطئ قدم لهم ولعائلاتهم الذين فروا بهم من نيران الحرب، إلى دول الحلم الأوروبي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.