نشرت مجلة إكسبرس الفرنسية تقريراً بعد أن قام النظام السوري مؤخراً بنشر أسماء مئات الأشخاص الذين قتلوا في معتقلاته منذ عام 2011, محاولةً الإجابة على السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا قرر النظام التحدث عن هذه الوفيات بعد سنوات من الإنكار؟

ففي السادس من شهر أيلول من عام 2011 اختفى يحيى شربجي. حيث كان في ذلك اليوم مطارداً من قبل المخابرات الجوية السورية وذلك بصحبة صديقه غياث مطر. ففي داريا, إحدى ضواحي دمشق, كان كل من يحيى شربجي وغياث مطر واجهة التعبئة السلمية لربيع عام 2011 بهدف تحقيق الإصلاحات الديمقراطية. وقد كان شربجي وراء فكرة التظاهر مع الزهور من أجل إظهار التزام المتظاهرين بالسلمية وعدم العنف. وبعد بضعة أيام أعيدت جثة غياث مطر إلى أهله وقد كانت تبدو عليها لكدمات وآثار التعذيب. أما رفيق دربه, فقد بقيت عائلته لسنوات بانتظاره دون أدنى خبر عنه. وفي الثالث والعشرين من شهر تموز أبلغت السلطات السورية عائلة يحيى شربجي بوفاته في المعتقل. ويضاف إلى الصدمة بهذا الخبر هو العلم بأن وفاته تعود إلى تاريخ الخامس عشر من شهر كانون الثاني من عام 2013, وهو ما أكدته الشبكة السورية لحقوق الإنسان. ولم تتمكن عائلته من الحصول على أية تفاصيل تتعلق بظروف اعتقاله أو مقتله.

بيروقراطية الموت
يؤكد تقرير الإكسبرس بأن حالة يحيى شربجي بعيدة كل البعد عن أن تكون استثناءاً. فبعد سنوات من الصمت كشف #النظام_السوري أخيراً عن مقتل عدة آلاف من #السجناء في معتقلاته, حيث يتم إبلاغ العائلات بأن والدهم أو أخيهم أو ابنهم أو ابنتهم قد فقدوا أرواحهم خلف القضبان. وكما في حالة ناشط داريا يحيى شربجي, فإن السلطات السورية لا تقوم بإصدار شهادة وفاة كما أنه لا توجد تفاصيل عن ظروف الوفاة ولا معلومات عن مكان الدفن. وفي أحسن الأحوال, تكشف السلطات لعائلات القتلى بأن السجين قد تعرض لنوبة قلبية أو سكتة دماغية. وقد تم إرسال العديد من بلاغات الوفاة لأهالي معتقلين كان قد سبق لهم وأن تعرفوا على جثث قتلاهم في الصور التي كان قد تم بثها في ملف قيصر, وهو اسم مستعار لمصور عسكري كان قد قام بالكشف عن صور لآلاف من جثث السجناء الذين ماتوا تحت التعذيب في عام 2014.

وقد قام موقع زمان الوصل بالتنسيق مع مركز توثيق الانتهاكات في سورية بنشر أسماء ما يقارب من 8000 #معتقل قتلوا في السجون ومن ثم اعترفت السلطات السورية بمقتلهم. علماً أنه قد سبق وأن رفض النظام السوري وبشكل منهجي وجود أية معلومات عن المفقودين. ووفق هيومن رايتس ووتش, فإن الأجهزة الأمنية السورية تقوم بإتباع “بيروقراطية الموت” حقيقةً, كما يتضح من المهمة الموكلة لقيصر بتصوير جثث السجناء القتلى. فالسلطات السورية تقوم بتجميع سجلات دقيقة عن كل ما يجري في معتقلاتها, بما في ذلك أولئك الذين يقتلون تحت التعذيب. ولعل الهدف الأساسي من هذه الإختفاءات القسرية هو شل قدرة جميع أفراد أسرة الشخص المختفي, حيث يتم توجيه طاقة كل أفراد الأسرة نحو هدف واحد وهو العثور على الشخص المفقود.

سوق سوداء للمختفين
من جهة أخرى, يبين التقرير كيف أنه قد تمت الإساءة إلى سمعة السجون السورية منذ عهد الرئيس حافظ الأسد, وذلك من خلال ممارسة التعذيب وارتكاب المجازر. فمنذ الساعات الأولى من الاحتجاج عام 2011 ضد السلطة الاستبدادية لوريثه بشار الأسد, قام النظام السوري باحتجاز الآلاف من المتظاهرين بما في ذلك النساء والأطفال. ومنذ ذلك الحين ضاعفت مجموعات حقوق الإنسان من تقاريرها عن فظاعة ممارسات النظام السوري في سجونه. ففي عام 2012 وفي تقرير بعنوان أرخبيل التعذيب, أكدت هيومن رايتس ووتش وجود التعذيب في سبعة وعشرين مركزا للاعتقال. كما نددت من جهتها منظمة العفو الدولية في عام 2015 بتجاوز حالات الاختفاء القسري في سوريا لـ 65 ألف حالة, فاضحةً بهذه المناسبة عن وجود سوق سوداء للمختفين! حيث تنفق عائلات الأشخاص المفقودين مبالغ طائلة مع وسطاء عديمي الضمير وكثير من وكلاء الخدمات الذين يكونون من عناصر المخابرات أنفسهم وذلك في سبيل البحث عن الأخبار الخاصة بأبنائهم المفقودين.

وبعد ذلك بعامين نشرت المنظمة نفسها تقريراً عن أرقام الوفيات في السجن الوحيد في صيدنايا بالقرب من دمشق حيث وصل عدد الوفيات إلى خمسمائة حالة وفاة شهرياً بين عامي 2011 و2015, مدينةً بذلك ما أسمته بـ “مؤسسة إبادة حقيقية”. واليوم, تقدر الشبكة السورية لحقوق الإنسان أن عدد حالات الاختفاء القسري التي ارتكبها النظام السوري منذ عام 2012 قد وصل إلى أكثر من 82 ألف حالة وأن عدد حالات التعذيب في السجون الرسمية وغير الرسمية قد تجاوز 13 ألف حالة. هذا وقد عاش أقارب المفقودين طوال هذا الوقت في انتظار أخبار عن مفقوديهم. وقد أضاع الكثير منهم أوقاتهم وأموالهم وهم يتنقلون من مركز توقيف إلى آخر وبين مكاتب السجل المدني على أمل الوصول رؤيتهم مرة أخرى في يوم من الأيام أو الحصول على خبر عنهم.

تطبيع واقع الحال
تطرح مجلة إكسبرس السؤال الذي طالما طرحه الكثيرون: لماذا قررت السلطة البعثية في دمشق الآن أن تتحدث عن هذه الوفيات بعد سنوات من الإنكار؟ ليجيب على ذلك زياد ماجد, أستاذ الدراسات في الشرق الأوسط في الجامعة الأمريكية في باريس, موضحاً إنه مع ازدياد الشعور بالإفلات من العقاب, فإن نظام دمشق يعتقد مرة أخرى بأنه سيد اللعبة بفضل موسكو. وأنه يريد القول بأن هذا الملف لم يعد مجالاً للتفاوض. وهو يهدف بوضعه إشارة الضرب على مصير الأسرى القتلى, إلى صرف نظر من تبقى من الأحياء عن هذا الموضوع ولكي يطوون هذه الصفحة. علماً أن ذلك لن يحميه بأن شكل من الأشكال أمام العدالة الدولية. بل على العكس, إنه الآن يعترف بأنه قد قتل الآلاف من المعتقلين دون حتى تسليم جثثهم.

ويكشف التقرير أن هناك عدة مؤشرات تدل على أن النظام السوري يقوم بنوع من “التطهير” في صفوفه. ففي كانون الثاني من العام الجاري أعلن النظام السوري عن وفاة مدير سجن صيدنايا المريع دون ذكر أية تفاصيل عن ظروف الوفاة. كما تواترت الأخبار في الآونة الأخيرة عن اختفاء العقيد سومر زيدان وهو ضابط في الأمن السياسي في حلب. ويتزامن هذا الاختفاء الثاني مع مذكرة الاعتقال الدولية الصادرة عن القضاء الألماني ضد رئيس جهاز المخابرات الجوية السوري جميل حسن. فقد مكّن استغلال ملف قيصر من استهداف هذا الحوت الكبير وهو مستشار مقرب من بشار الأسد, حيث وجهت له التهم بالسماح بالضرب والاغتصاب والتعذيب وقتل مئات من الأشخاص لاسيما ما بين عامي 2011 و2013.

ويؤكد التقرير من جهة أخرى بأنه لا يمكن استبعاد روسيا, التي تقف وراء تطبيع واقع الحال حاليا بعد أن باتت لاعباً رئيسياً في المنطقة وهي تحاول ممارسة ضغطاً محتملاً على ربيبها بشار الأسد. وفي الوقت ذاته فإنها لا تتوقف عن طلب المساعدة الدولية من أجل إعادة بناء سوريا المدمرة. علماً أنه كان قد سبق وأن تم تشكيل فريق عمل حول المفقودين في سوريا وذلك في شهر كانون الأول من عام 2017 ضمن إطار محادثات الأستانة التي كان يقودها الكرملين وبرعاية روسيا وإيران وتركيا والأمم المتحدة.

وتنهي مجلة إكسبرس تقريرها بأن أقارب بعض المخفين مصممين على اكتشاف الحقيقة كاملةً, مثل تلك المحامية التي التقت بها صحيفة الواشنطن بوست, حيث قتل زوجها في معتقلات النظام السوري في عام 2015. لكن بالنسبة للعدد الأكبر من عائلات المختفين, فإنهم قد يضطرون للاستسلام للأمر الواقع. حيث تقول امرأة أخرى: “كان ابني أغلى شيء في العالم, لكن النظام قد عاد. وإذا تكلمت اليوم أخاف أن يكون زوجي هو الضحية الثانية!”

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.