ريا فارس – دمشق

 

تعلمت خلال السنوات الماضية تجنب جارتي الفضولية، التي كلما صادفتها ابتسمت وربتت على بطني “مو مخبيتيلنا شي؟” فاجيب “لا والله هادا بس كرش”.. لأسباب شخصية قررت وزوجي عدم الإنجاب، لكن صديقتي منى لم تترك وسيلة في محاولات الحمل إلا وجربتها دون فائدة. جاءت لزيارتي قبل فترة بلسان متلعثم “لك في وحدة بدها تبيع ابنا شو رأيك اشتريه؟”. فغر فمي وأنا أستمع للقصة التي تقول إن إحدى السيدات الناجيات على ما يبدو من داعش، حامل في شهرها التاسع وخلال إحدى المناسبات سألتها جارتها عن موعد ولادتها فأجابت “بعد أسبوعين معي صبي، بدي بيعو بتعرفي حدا ممكن يشتريه؟”.

كانت المرأة الحامل عرضت الطفل على أم أحمد وهي امرأة خمسينية تعيش مع زوجها المقعد، لكنها أم أحمد رفضت “بكرة بعد ما ربي وكبر بتتذكر إنو عندا ولد وبتجي بتطالبني فيه”. كانت منى التي وصلتها القصة عن طريق أم أحمد تحاول التوقف عن البكاء وقالت لي “قلبي محروق على ولد، شو ميتين أو تلاتمية ألف ليرة؟ بتعرفي أديش صرنا دافعين للدكاترة؟”.

أرادت صديقتي فعلاً شراء الطفل وكانت السيدة تحاول إغراءها بأنه صبي. لكنها لم تهتم “صبي بنت ما بتفرق، بس زوجي مو موافق”، لم تكن صديقتي تعرف الكثير من التفاصيل سوى أن تلك السيدة مات زوجها الثاني وهي حامل ولديها طفلان من زوجها الأول الذي قتل العام الماضي، وقد لجأت بعد موته لإحدى المناطق التي استولت عليها داعش. ولا أحد يعرف شيئاً عن الزوج الثاني، ووصلت إلى ضواحي دمشق وهي حامل في الأشهر الأولى.

كان الطريق وعراً في البداية، ثم تحول نهرا من الطين، رفض سائق التكسي إكمال الطريق، نزلنا هناك في أطراف دمشق في إحدى المناطق الشعبية حيث تكاد الأبنية تنهار تحت تأثير الرطوبة، وأنين سكانها من نقص الخدمات، بحثاً عن سيدة قررت أن مشاعر الأمومة رفاهية لا تستطيع تحمل تكاليفها فباعت طفلها وغادرت المنطقة قبل أن نلحق بها، هكذا ببساطة قد تكون ضحت بطفلٍ لتنقذ الباقين من أطفالها من هذا الجحيم.. ربما من يدري؟

عدنا وصديقتي أدراجنا خائبين نسبح في نهر من الوحل والصرف الصحي، خلف وكالة الانباء سانا، وفي حارة فرعية معتمة مررنا بها خطأً، كان هناك رضيع ملقً على الأرض، لا شيء يحميه من برد وصقيع الإسفلت إلا قطعة من الورق المقوى، يحرك يديه وقدميه في الهواء صارخاً يستجدي ربما بعض الدفء، جلست أمامه من يفترض أنها أمه، لم أتبينها جيداً في تلك العتمة، لكنني لم أستطع تجاوز صراخه. بعد بضعة أمتار توقفت، أردت أن أعود إليها أرجوها “مشان الله خديه بحضنك كتير برد”، لكن أخي منعني من العودة، سحبني من يدي قائلاً “أول شي هي مو إمو، تاني شي أكيد ما عم تشحد بحارة عتم ما فيها الدومري”.

داهمتني صورة تلك الحادثة حين قال أحد الأطباء “روحي عالست زينب وشوفي الأولاد معروضين للبيع عالبسطات، في مصايب أكبر من هيك انسي الموضوع”، سعيت وراء طبيب توليد لسؤاله عن رأيه بذلك، حين أخبرتني أم أحمد أن طفلاً ولد في مشفى الزهراوي في دمشق وبيع هناك، وأن الأم اختفت لأسبوعين قبل أن تعود لتخبر جيرانها أنها أنجبت طفلة ميتة، وانتقلت بعدها من الحي إلى مكان مجهول. لم يهتم الطبيب بالحادثة إلا عندما ذكرت أمامه اسم المشفى، وكأني دست على لغم “ليكي ما دخلني، نصيحة إلك انسي الموضوع”.. أعرف ذلك الخوف جيداً وتلك النبرة بين النصيحة والتهديد. خوف أصابني بالعدوى فعدلت عن الذهاب إلى المشفى. إنها دمشق حيث عليك غض الطرف عن كل المصائب كي تستطيع إغماض عينك ليلاً على الأقل، إن كان يؤرقك سوق التعفيش جوار منزلك فقد بدأ تعفيش الأطفال.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.