رجا أمين  – بيروت

شكلت الأسواق #اللبنانية مصدرًا رئيسياً للسلع الأساسية والكهربائية والأدوية بالنسبة إلى السوريين في فترة الثمانينات، فالعقوبات على النظام وسياسات التقشف حرمت المواطنين من الأساسيات، وذخرت ذاكرة أهلنا بقصص الانتظار لساعات طويلة على أبواب المؤسسات العامة الاستهلاكية للحصول على علبة سمن وكيس من المناديل الورقية، حتى الموز كان يأكله من هو قادر على شرائه مهرباً من الأراضي اللبنانية، وأصبحت أسواق التهريب سوقاً موازياً للسوق #السوري القانوني، وباب تلقي رشاوي وفرض إتاوت.

لاحقاً ومن جهة أخرى، لطالما اعتاد مواطنون لبنانيون خاصة من سكان المناطق الحدودية على زيارة سوريا بشكل دوري قاصدين إما العاصمة #دمشق أو مدينة #حمص أو مدينة #طرطوس غالبًا، الحواضر الأقرب إلى الحدود اللبنانية، إذ كان من المألوف أن تذهب العائلة اللبنانية من زحلة أو بعلبك أو طرابلس، وأحياناً من مدن وبلدات الساحل اللبنانية كـ بيروت وجونيه، بسيارتها الخاصة إلى مدينة سورية قريبة في عطلة نهاية الأسبوع، فيقضي أفراد العائلة نهارهم في أسواق المدينة ويجربون أطباق مطاعمها، ويعودون محملين بالملابس والأطعمة والأدوية وغيرها من البضائع والمشتريات التي تكون أسعارها في الأسواق اللبنانية أعلى مما هي عليه في مثيلاتها اللبنانية.

الرحلات الدينية كان لها نصيبها أيضاً، فالشيعة اللبنانيون يحبون زيارة مقام السيدة زينب في دمشق، ولصيدنايا ومعلولا وبعض كنائس دمشق القديمة مكانة خاصة في قلوب المسيحيين اللبنانيين، وهي بدورها كانت تشجع اللبنانيين على زيارة البلد المجاور.

وأتت الثورة السورية والأحداث التي تلتها لتجعل اللبنانيين يحجمون على سلوك “طريق الشام” خوفاً من المشاكل الأمنية والمعارك العسكرية التي كان صدى القصف الذي يتخلل بعضها يصل إلى الأراضي اللبنانية فيسمعه أهالي البقاع وهم مستلقون في أسرتهم.

ولكن مع تعزز سطوة ونفوذ #حزب_الله والميليشيات الإيرانية في سوريا عاد الشيعة اللبنانيون إلى زيارة دمشق بغاية حج ديني وتسوق قبل غيرهم، معززين بشعور الحماية الذي فرضته الميليشيات المحسوبة عليهم، حتى صارت لهم متاجرهم ومصالحهم #التجارية في دمشق، في محيط السيدة زينب.

وساهم في عودة هذه الرحلات استعادة النظام وحلفاؤه السيطرة على منطقة القلمون وريف حمص وحل قضية عرسال وخروج تنظيم #داعش وجبهة النصرة من هناك، ما أثر نفسياً على اللبنانيين المعنيين بتلك الزيارات فشعروا أن الأمن قد استتب إلى درجة مقبولة تمكنهم ن استعادة عادتهم القديمة.

وبالنظر إلى تفشي سوء الوضع الاقتصادي في لبنان وارتفاع الأسعار وفرض ضرائب جديدة وتنامي معدلات #البطالة والفقر، أصبحت دوافع التوجه إلى سوريا أكثر إلحاحاً لدى أرباب العائلات متوسطة الحال والفقيرة، إذ يؤكد أبو دانيال الذي يسكن بين زحلة ومجدل عنجر أن الكلام عن ملء السيارة بالمشتريات والبضائع التي تكفي العائلة لشهر بمبلغ لا يصل إلى 200 دولار أميركي ليس أسطورة، وهو يرى أن الأسعار في سوريا قد ارتفعت كثيراً بالنسبة إلى السوريين والمتعاملين بالليرة السورية، ولكن بالنسبة له، يرى أن الأسعار بقيت على حالها، بل أن بعض السلع صارت أرخص إذ لم ترتفع أسعارها بالمقدار نفسه التي خسرت الليرة السورية من قيمتها، ويتابع أبو دانيال ويقول أن #الدولار الأميركي الذي كان يساوي 50 ليرة سورية صار في مرحلة ما يساوي 500، أي 10 أضعاف، ولكن أسعار بعض البضائع لم ترتفع 10 أضعاف، مما جعله أرخص من ذي قبل بالنسبة له.

في المقابل تشكو زوجته من تراجع جودة المنتجات السورية، خاصة #الألبسة والجلديات والقطنيات، وقلة التنوع في البضائع المعروضة مقارنة بما سبق، وهو الأمر الذي يمكن تفسيره بسوء المواد الأولية المتوفرة لهذه الصناعات وهجرة اليد العاملة الخبيرة بعد سنوات الحرب.

أبو أحمد سائق التكسي العمومي على خط دمشق بيروت يرى أن معاملة الحواجز العسكرية والأمنية السورية للعائلات اللبنانية الزائرة أفضل من تلك التي يتلقاها باقي العابرين من سوريين وغيرهم، ويقدر أن السبب في ذلك مرتبط برغبة “الجهات المعنية” تسهيل قدوم اللبنانيين الذين ينشطون الأسواق المحلية ويعززون رواية النظام عن أن الحرب انتهت و”سوريا بخير”.

وتنشر صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات عن رحلات مدتها يوم واحد إلى سوريا، تتضمن زيارة سوق الحميدية وبلودان حيث تتضمن الرحلة وجبة غداء  وبرنامج فني، بكلفة نقل تساوي 20 دولار للشخص الواحد، ويمكن الاستنتاج بسهولة من أسماء المنظمين ومكان التجمع أن المعنيين بواحد من هذه الإعلانات هم السنة من سكان بيروت وضواحيها.

كما يمكن أن ترى بشكل متكرر عبر فيسبوك أو على لوحات الإعلانات المعلقة على مداخل الكنائس، إعلانات عن رحلات إلى دمشق وصيدنايا ومعلولا بمناسبة عيد الصليب أو عيد السيدة، مع وجبتي فطور وغداء بكلفة معقولة جداً للمواطن اللبناني.

فرق سعر صرف العملة الكبير بين الليرة السورية وتلك اللبنانية، حتى بعد كل التدهور اللاحق بالليرة السورية، وتداول الدولار الأميركي في لبنان وكأنه عملة وطنية، هو من أهم الأسباب التي تسمح لهؤلاء اللبنانيين بالذهاب إلى سوريا للتسوق، كما تسمح في الوقت نفسه أن تعيش أسرة سورية داخل سوريا اعتماداً على 300 أو 400 دولار يرسلها الوالد أو الابن من لبنان حيث يعمل.

مهما يكن الأمر بالنسبة إلى السوريين، إلا أن جيرانهم اللبنانيين، أصحاب الخبرة الطويلة في #الحرب، وبتأثير من الضخ الإعلامي المؤيد للنظام، وحاجاتهم #الاقتصادية، وتدهور الوضع المالي في بلدهم، اقتنعوا أو اقنعوا أنفسهم بأن الثورة “خلصت وفشلت” وأن الطرق إلى سوريا باتت سالكة والأمور عادت إلى ما كانت عليه، أو بدأت بالعودة إلى طبيعتها.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.