لاكروا: ما الذي حلّ بالأب باولو داليليو في سوريا؟

لاكروا: ما الذي حلّ بالأب باولو داليليو في سوريا؟

بعد خمس سنوات من اختطافه من قبل داعش في الرقة، يبقى مصير الأب باولو داليليو لغزاً محيراً. فقد كشفت صحيفة لاكروا الفرنسية في تقرير لها عن شهاداتٍ لم يتم الاستماع لها من قبل، تتهم السلطات الإيطالية بطمس ملف داليليو تاركةً الخاطفين المعروفين يمضون بسلام لا بل بإخفاء أغراضه الشخصية التي أحضرها أصدقائه من “دولة الخلافة” عن عائلته.
ففي غضون عشرة أشهر من التحقيق تمكنت لاكروا من إيجاد شهود مباشرين قدّموا أسماء الخاطفين وهم قادة معروفين في تنظيم داعش. وقد تم إلقاء القبض على أحدهم من قبل قوات التحالف ثم تم إطلاق سراحه في الصيف الماضي. ولم تسعى السلطات الإيطالية إلى استجوابه أو حتى الاستماع للشهود الذين اتهموه، لأن القضية بالنسبة لهم قد دفنت قبل أربع سنوات وتم طمسها بالكامل في شهر أيار 2014 في سوريا. وقد تم إخفاء حتى أغرضه الشخصية عن عائلته. بينما التزمت الفاتيكان والسلطات الإيطالية الصمت واكتفت عن إعلان متابعتها للملف. وفي الوقت الذي لم يجرؤ أقارب الأب باولو على التحدث علانية، كان الشهود مبعثرين بين سوريا وتركيا وروما وباريس وبرلين وستوكهولم بالإضافة إلى عشر بلدات صغيرة في أوربا. أما في الرقة، فقد تم تدمير الأدلة بسبب القصف. كل هذا جعل من اختفاء الأب باولو لغزاً.

ومثل روايةٍ غير منتهية، توقفت حياة هذا الكاهن في منتصف هذه الجملة “مرحباً بالجميع في الرقة، في سوريا الحرة” التي كتبها لأقاربه عبر البريد الإلكتروني في مساء يوم 27 تموز 2013. فقد كان لديه موعد مع داعش! حيث يبين في رسالته الأخيرة أسباب وصوله إلى الرقة. فقد كان يريد مساعدة صديقه محمد الحاج صالح. وهو الشقيق الأكبر للكاتب ياسين الحاج صالح. وكانت داعش قد اعتقلت اثنين من أشقائه أحمد وفراس الحاج صالح. حيث يقول الأب باولو لعائلته: “أنا هنا أيضاً لأدافع عنهم عند تنظيم القاعدة”. فهو لم يميز داعش عن القاعدة. ليعلن لعائلته بعدها عن خطته للسفر إلى دير الزور في 29 تموز والبقاء هناك لمدة يومين.
وفي هذه الأثناء كان الأب باولو في ضيافة يوسف دعّاس، مدير مجلة محلية وأحد أصدقاء الحاج صالح. حيث يقول يوسف مستنكراً :” لقد نصحناه بعدم المجيء، لكنه كان قد أصبح على الحدود التركية”. كما يذكر استغرابه من رؤية أب كاثوليكي يصوم رمضان الذي كان قد بدأ في 10 تموز 2013. وقد كان يوسف آخر من أجرى مقابلة مع الأب باولو. وقد أعلن يوسف في عام 2015 على صفحته على الفيس بوك بأن الأب باولو كان قد جاء كذلك لإطلاق سراح الفرنسي نيكولا هينان الذي اختطفته داعش في 22 حزيران 2013، فالأب باولو كان صديقاً لعائلة هينان. كما يبين بأن الرهائن لم تكن مهمة الأب باولو الوحيدة! فقد كان ينوي مقابلة الخليفة أبو بكر البغدادي في محافظة الأنبار وربما من أجل مفاوضات بين الأكراد وداعش. وهو الأمر الذي نشرته لوموند في آب 2013. فبحسب يوسف، فإن الأب باولو كان يحمل رسالة من مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق لكنه أبقى ذلك سراً.

ويبين التقرير بأنه ولفترة طويلة، كان الأب باولو يحاول التحاور مع الإسلاميين حتى أكثرهم تطرفاً. فقد نجح في شباط 2013 بإقناع القاعدة بالإفراج عن الرهائن في القصير بالقرب من حمص. لكنه كان يعلم جيداً أن الجهاديين يشكلون خطراً على الثورة، وقد كان على قناعة بأن دمشق تسيّرهم. وكان هذا موضوع مقالته الأخيرة التي نشرتها مجلة بوبولي بعد اختفائه في شهر أيلول 2013، حيث أدان مقتل الأب فرانسوا مراد في حزيران 2013 من قبل مجموعة جهادية بالقرب من حمص “تتحكم فيها أجهزة المخابرات الإيرانية والسورية والروسية”. وفي المقابل لم يكن الأب باولو يعجب الإسلاميين. فالمحكمة الإسلامية في الرقة كانت ترى بأنه لا يحق لمسيحي أن يتدخل في شؤون سوريا. بينما اعتبره زعيم جماعة أحرار الشام كافراً في الوقت الذي ظن فيه الأب باولو بأنه سيكون مرحّباً به في مقر تلك الجماعة الجهادية.

أما داعش فقد رفض منذ البداية استقباله. لكن الأب باولو ذهب إلى مقرهم بعد الإفطار ليقضي وقتاً طويلاً للتفاوض مع حرس البوابة ليسمحوا له بالدخول. ووفق يوسف، فقد طلبوا منه العودة في ظهر اليوم التالي لمقابلة والي الرقة أبو لقمان الرقاوي واسمه الحقيقي علي موسى الشوّاخ. وهو رئيس جهاز التجسس في التنظيم وهو من أسس “الأمنيات” جهاز الإستخبارات في داعش والمسؤول عن الإرهاب الداخلي والخارجي. “وبموعدٍ كهذا ألقى الأب باولو في عش الثعابين”، يقول يوسف بأسف. لقد كان متوتراً وفي لحظة المغادرة في اليوم التالي 29 تموز، فكّر الأب باولو طويلاً ثم “أعطاني حقيبتين واحدة لليد والأخرى للظهر”، يبين يوسف. ويضيف: “ثم قال لي: إذا لم أعد، إحملها إلى الأب جان (يوحنا) في السليمانية. لكن انتظروا ثلاثة أيام قبل أن تخبروا الناس”. وأخيراً جاء محمد حاج صالح ليصطحب الأب باولو إلى موعده، ليتركه قبل مقر داعش بقليل. لكن الأب باولو لم يعد بعد ذلك. وفي فترة ما بعد الظهر، أرسل يوسف دعّاس ابنه إيّاس مع صديق له للسؤال عن الأب باولو عند داعش. فاقتادهم الحارس إلى القبو وليظهر بعد ذلك عبد الرحمن الفيصل مع مرافقه الشخصي، ويعتبر الفيصل هذا جزء من الدائرة الضيقة لأبوا لقمان. حيث يبين إيّاس دعّاس بأن الفيصل أقسم بأنه لم ير الأب باولو، فخرجوا من هناك بخيبة أمل. وبالرغم من تعليمات الأب باولو، اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي منذ مساء 29 تموز. والتلفزيون السوري ورويترز أكّدوا الخبر رغم عدم وجود فريق لهم على الأرض. وتمر الأيام دون أن تعلن داعش مسؤوليتها. ويتذكر يوسف كيف أن أصدقائه توقفوا عن البحث عن الأب باولو في الرقة وكيف أن رجال من داعش أعلنوا فجأة في كانون الثاني 2014 بأنهم قتلوا الأب باولو بعد شجار بينه وبين السعودي أبو محمد الجزراوي. لكن ربما كانوا يكذبون ليخرسوا الأسئلة!

ويكشف التقرير كيف حاولت إيطاليا طمس الملف عن طريق مركز الأزمات التابع لوزارة الخارجية. فقد ادعت بأنه وكما هو الحال مع الأسقفين السوريين الأرثوذوكس اللذان اختفيا قبل بضعة أشهر في حلب، بمجرد أن تسعى للحصول على معلومة فإن عدد لا يحصى من الشهود المزيفين يظهر لإحصاء المال. لكن وفي اللحظة التي يتم فيها إغلاق التحقيق، يغادر شهود جدد سوريا. ففي ربيع عام 2014، قرر يوسف الفرار إلى تركيا. حيث قام بفتح حقائب الأب باولو ليجد هواتف محمولة وآيباد ودفاتر ومستندات ونقود. فقام بالتخلص من الملابس وأخفى الباقي في حقيبته. وبعد وصوله لتركيا طلب من صديقٍ له إيصال هذه الحقائب للسلطات الإيطالية. لكن صديق يوسف لم يسلم الأغراض إلى أقرب قنصلية إيطالية! لقد قام ببيعها إلى وسيط والذي أرسلها بطردٍ إلى باريس. وهناك قام معارض سوري مشهور بإيصالها إلى سفارة إيطاليا في فرنسا. وكل هؤلاء الوسطاء تلقّوا دون أدنى شك أموالاً لقاء خدماتهم وصمتهم. كل ذلك دون أن تعلم عائلة الأب باولو شيئاً، لتكتشف ذلك بدهشة في بداية عام 2018. وبعد أخذٍ ورد تمكنوا من الحصول على هذه الأغراض بعد أن تمت فرمتة الأجهزة الالكترونية. لكن أحد الوسطاء كان قد صوّر نسخة عن الدفاتر وقد تم تسريبها فيما بعد.

لكن مفاجئة الأقارب لم تنته لأن المشتبه بهم لا يزالوا طليقين. فأبو لقمان لا يزال على قيد الحياة. ووفقاً لباحث أمريكي، فإنه تنقّل بين تركيا والعراق وليبيا في العام 2017. أما عبد الرحمن الفيصل، فإنه يعيش بسلام في قريته. وكان قد تولّى منصب حاكم الرقة عام 2016. ووفق شبكة “الرقة تُذبح بصمت”، فإن قوات سوريا الديمقراطية قد اعتقلته في نهاية عام 2017 ومن ثم أطلق سراحه! كما ظهرت شهادة جديدة لأحمد الحاج صالح، الذي جاء الأب باولو للتفاوض من أجله. فقد أطلق سراحه في منتصف آب 2013 وهو يعيش في بلدة صغيرة وسط فرنسا منذ عام 2014. فهو يعرف أبو لقمان ورجاله جيداً بمن فيهم السعوديين أبو محمد الجزراوي وأبو جليبي. ويؤكد بأن هذان السعوديان هما من استقبلا الأب باولو عند وصوله.
وتنهي لاكروا تقريرها في محاولةٍ لتفسير تقاعس إيطاليا بخصوص الشهود المنسيين وإخفائها الأغراض الشخصية للأب باولو. حيث تبين بأنه وبحسب أصدقاء وأقارب الأب باولو فإن السبب يعود للتقارب بين الدولة الإيطالية ونظام بشار الأسد. ولعل زيارات علي مملوك إلى روما والتي كان آخرها في كانون الثاني 2018 خير دليل على ذلك. أما الكرسي الرسولي فيرفض التعليق على هذا القضية التي انقسمت عليها الكنيسة. فمسيحيو سوريا المقربين من النظام وحلفائه من الكنسيين الغربيين لم يغفروا للأب باولو الذي ناصر الثورة السورية. وفي الذكرى الخامسة لفقدانه، وخلافاً لما هو مخطط للكهنة الآخرين من ضحايا الحرب الأهلية، لن يكون للأب باولو الحق بمراسم تأبين رسمية!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.