واشنطن بوست: النظام السوري يفرغ سجن صيدنايا عبر الإعدامات الجماعية

واشنطن بوست: النظام السوري يفرغ سجن صيدنايا عبر الإعدامات الجماعية

نشرت صحيفة واشنطن بوست تقريراً، كشفت فيه عن مضاعفة “نظام بشار الأسد” لأحكام الإعدام وتنفيذها بحق المعتقلين السياسيين في سجونه. حيث أجرت مقابلات مع ناجين من أسوأ سجون النظام سمعةً “سجن صيدنايا”، فضّلوا عدم الكشف عن أسمائهم خوفاً على حياة عائلاتهم. حيث أكدوا أن القضاء العسكري يسرّع في إصدار أحكام الإعدام، ويتم نقل المحكومين من سجون في مختلف أرجاء سوريا إلى سجن صيدنايا ليتم تنفيذ الإعدامات بحقهم مع طلوع الفجر في أقبية هذا السجن. وذلك في حملة تطهير تجري بحق المعتقلين السياسيين. وقد أكدّ الناجون أنه وبالرغم من عمليات النقل إلى السجن، إلا أنه لم يعد مكتظاً كالسابق. فقد احتوى السجن في حالات الذروة من 10 آلاف إلى 20 ألف معتقل في آن معاً، إلا أن أحكام الإعدام اليومية خفضت العدد بشكل كبير، وغالباً هناك قسم على الأقل خالي من النزلاء. وقد نجا بعض المعتقلين من حبل المشنقة بعد أن دفعت عائلاتهم عشرات الآلاف من الدولارات ثمناً لسلامتهم.

وأكد اثنين من الناجين، مثلا مرتين أمام المحكمة الميدانية في مقر الشرطة العسكرية في العاصمة دمشق، بأن معدلات أحكام الإعدام ارتفعت على مدار العام الماضي مع تشدد مواقف “قضاة” المحكمة. فيقول أحدهم: “لم يكن هناك مجالاً للتساهل في زيارتي الثانية. لقد حكم على معظم الموجودين في القاعة بالإعدام. كانوا يقرؤون أحكام الإعدام بصوتٍ مرتفع”. مؤكداً أن العديد من السجناء يموتون قبل أن يصلوا إلى حبل المشنقة بسبب سوء التغذية أو الإهمال الطبي أو التعذيب الجسدي. ووصف أبو حسين، 30 عاماً من حمص، كيف أدخل الحراس أنبوباً معدنياً تحت حنجرة أحد المعتقلين من داريا، وقال: “ثبّتوه إلى الحائط بذلك الأنبوب وتركوه حتى الموت. بقي جسده بيننا طوال الليل”. ووصف آخر كيف أُجبر السجناء في زنزانتهم على ركل معتقل من درعا حتى الموت.

وقد رفضت الحكومة السورية الرد على طلب الـ واشنطن بوست، التعليق على الموضوع، كما رفضت الاعتراف مطلقاً بإعدام السجناء. إلا أن صوراً التقطتها الأقمار الصناعية لأراضي سجن صيدنايا في شهر آذار الماضي تُظهر تراكم العشرات من الأجسام المظلمة، والتي يقول الخبراء إنها تتفق أن تكون أجساداً بشرية. ويقول عيسى باكر، مدير تحليل الصور في برنامج إشارات المبادرة الإنسانية في جامعة هارفارد: ” في الصور الملتقطة في الأول من شهر آذار الماضي والرابع منه، يوجد أشياء مظلمة متشابهة فيما بينها ممددة على الأرض. طولها من خمسة إلى ستة أقدام تقريباً”. ويضيف: “البيانات المتاحة والتحليل لا يثبت صحة ما نقول، إلا أن الصور تتفق مع روايات شهود العيان عن عمليات الإعدام الجماعية في هذا المكان”. وأكد اثنين من الناجين، كانا محتجزين في زنزانة قريبة من غرفة الحراس، سماعهما لمحادثات بين السجّانين بشأن عمليات الإعدام في مطلع شهر آذار الماضي. وقال أحدهما: “كانوا يتحدثون عن مجموعة من الجثث التي تم نقلها إلى الفناء”. وفي صور أخرى التقطتها الأقمار الصناعية للأراضي العسكرية بالقرب من دمشق، والتي عرّفتها العفو الدولية سابقاً بأنها موقع لمقابر جماعية، تُظهر زيادة في عدد حفر وشواهد القبور في مقبرة واحدة على الأقل منذ بداية العام. وبحسب منشقين عن النظام والذين كانوا يعملون في السجون العسكرية في تلك المنطقة، فإن المنطقة الواقعة جنوب العاصمة دمشق هي المكان المحتمل لأن تكون مقابر جماعية لسجناء صيدنايا. فبعد سبع سنوات من الحرب الطاحنة، ما يزال هناك أكثر من مئة ألف معتقل في سجون النظام في عداد المفقودين. وبحسب الأمم المتحدة وجماعات حقوق الإنسان، فإن الآلاف، إن لم يكن عشرات الآلاف منهم، قد قتلوا. وبالرغم من قيام جميع أطراف الصراع في سوريا بعمليات القتل والخطف، إلا أن الشبكة السورية لحقوق الإنسان تخمّن أن حوالي 90 % من تلك الحالات تمت في السجون التابعة للنظام، حيث “عمليات التعذيب والموت وكل الأشكال الممنهجة للإهمال القاتل”.

وقد أجرت الـ واشنطن بوست، في هذا الصدد، مقابلات مع 27 من السجناء السابقين الناجين من صيدنايا، يعيش معظمهم في تركيا ولبنان والعراق وألمانيا وسوريا. والذين أكدوا أن الحرّاس فرضوا صمتاً تاماً بين السجناء الذين ينامون تحت بطانيات موبوءة بالعثّ والقرّاد على أرضيات حجرية تغطيها سوائل من أجساد المعتقلين. فيقول محمد 28 عاماً: “عندما تكون في صيدنايا لا تستطيع التفكير بأي شيء, لا يمكنك حتى الحديث مع نفسك. فهناك الضرب تعذيب, وحتى الصمت تعذيب”. ووصف زملائه الذين بقوا خلفه في الزنزانة بأنهم “كالحيوانات المعتقلة”، فيقول: “كانت معنويات البعض منهارة تماماً، وأصيب البعض الآخر بالهوس والجنون. الموت سوف يكون رحمةً لهم. الموت هو كل ما ينتظرونه هناك”.

وبالرغم من اختلاف أيام تنفيذ أحكام الإعدام، إلا أن الناجين يقولون إن الحراس غالباً يتجولون بين الزنزانات ليلة الأربعاء، منادين على أسماء من القوائم. حيث يقول أحد الناجين: “كنا نعلم بمجيئهم عندما يبدؤون بالتخبيط على الأبواب المعدنية ويصرخون طالبين منا الالتفاف. كنا نتدافع إلى الجدار ونقف بأقصى ما نستطيع. ثم نبدأ بالدعاء ألا يفعلوا ذلك وينادو بأسمائنا”. محمد، هو أحد الحالات التي سيقت إلى قبو الموت، حيث تم سحبه من زنزانته وقميصه مقلوب فوق رأسه. ضُرب وهو يتعثّر بالسير في طريقه إلى زنزانة الموتى. دفع وغيره من السجناء إلى زنزانة صغيرة وجرّدوا من ملابسهم قبل أن يغلق الحراس الباب خلفهم، بقوا هناك لمدة أسبوع. تم تجميع السجناء في زنزانة مجاورة، وكان من بينهم حسان 29 عاماً، وهو مزارع نُقل من سجن مدني في السويداء إلى سجن صيدنايا. انتظروا الموت طوال الليل، يقصّون حكاياهم وآلامهم بصوت منخفض. يقول حسان: “بالرغم من العتمة هناك، إلا أن كل ما استطعت رؤيته هو الخوف القاتل. فجأة توقف الجميع عن الكلام”. وعندما جاء الحراس لنقل المعتقلين إلى الموت، لم يكن محمد أو حسان من بين الأسماء المنقولة. ليعلما لاحقاً أن عائلاتهما دفعت عشرات الآلاف من الدولارات إلى سماسرة على صلات بالنظام، وهم جزء من شبكة ظهرت خلال الحرب لتزويد العائلات بأخبار عن أقاربهم المحتجزين وفي بعض الأحيان تساعد في إطلاق سراحهم مقابل مبالغ مالية.

ويبين التقرير بأن الزيادة المفاجئة لأحكام الإعدام تزامنت مع مناقشة مصير المعتقلين السوريين في زمن الحرب في محادثات السلام في العاصمة الكازاخية أستانا. فمع حصر المتمردين السوريين في المنطقة الشمالية الغربية البعيدة في البلاد وقرب هزيمتهم، يحاول مسؤولون روس وأتراك وإيرانيون التفاوض من أجل إنهاء الصراع. وكان النظام السوري في هذه الأثناء يصدر قوائم بأسماء المعتقلين المتوفين لديه بمعدل لم يسبق له مثيل. حيث بدأت تتسارع عملية الإعلان عن أسمائهم في شهر كانون الثاني الماضي، مؤكدة أن الكثير من الحالات قد فارقت الحياة منذ بداية الصراع. وقالت لجنة الأمم المتحدة، التي أنشأت للتحقيق في جرائم الحرب في سوريا، في تقرير لها صدر الشهر الماضي أن الإعلان الجماعي عن قوائم الموتى يعد بمثابة اعتراف للحكومة بمسؤوليتها عن موت سجناء أنكرت لسنوات وجودهم لديها. ويقول هاني مجلّي، كبير المحققين في لجنة الأمم المتحدة للتحقيق في سوريا: “نعتقد أن الأمر يتعلق بكون الحكومة بدأت بالنظر إلى مرحلة ما بعد الصراع، بدأت تشعر بأن وجودها لم يعد في خطر وعليها النظر بعيداً لترى كيف سوف تتعامل مع الشعب على نطاق واسع”. ويضيف: “يطالبنا الناس الآن بمعلومات أكثر عما حدث, أين ولماذا؟ أين هي تلك الجثث؟”

ومن خلال المقابلات التي أجرتها الصحيفة مع الناجين، قدّم هؤلاء صورة نادرة لعمل المحكمة الميدانية العسكرية، حيث يمثل المعتقلين أمام المحكمة بأعين معصوبة وأيدٍ مكبلة بدون محامٍ, وغالباً ما تأتي قوائم الاتهام نتيجة التعذيب. ونادراً ما تدوم جلسة المحاكمة أكثر من ثلاثة دقائق. وفي بعض الحالات من عمليات الإعدام الأخيرة في صيدنايا، كانت لأحكام صدرت في سنوات سابقة. إلا أن الناجين يقولون إن ما تغير الآن هو السرعة التي صدرت ونُفّذت بها الأحكام الجديدة. وبحسب منظمة العفو الدولية، فإنه حالما تتم عملية شنق المعتقلين، يتم نقل جثثهم من غرفة الإعدام مباشرة إلى شاحنة أو سيارة تنقلهم إلى المستشفى العسكري. ويتم بعدها دفنهم في المقابر الجماعية على الأراضي العسكرية.

محمد وحسان كانا من بين الناجين من هذا المصير. فبعد سنوات من التعذيب والإهمال الشديد اللذين خلّفا ندوباً ومشاكل صحية صعبة، تمكنا في وقت سابق من هذا العام من عبور الحدود إلى تركيا. إلا أن حسان، وبعد عبوره من الأراضي السورية إلى آخر معاقل المعارضة المسلحة بالقرب من الحدود التركية، أخطأ المهربون الذين يقودون مجموعته أثناء عبورهم الحدود وقاموا بتوجيههم إلى حقل ألغام، ليفقد ساقه. ويقول حسان: “لا يمكن نسيان ذكريات صيدنايا بسهولة. معظم زملائي في الزنزانة ماتوا الآن. دائما أفكر بالأشخاص الذين ما زالوا هناك”.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.