ترجمة الحل العراق

جاءت في السيرة النبوية للنبي يونس، أن الله أراد تدمير مدينة نينوى بسبب شرورها, إلا أن نبي الله استجدى الرحمة من ربه لإنقاذ المدينة، لكن نينوى تلك تشكل اليوم النصف الشرقي من مدينة الموصل العراقية, حيث جرت أحداث القصة النبوية مجدداً.

لم ينج  القسم الشرقي للمدينة، من الحصار الذي ساقه مجاهدي داعش إليها، أما الجانب الغربي منها، مختلف تماماً عن سابقه، وعن حجم الدمار وصعوبات الحياة في الجانب الغربي مقارنة بالشرقي من المدينة, نشرت صحيفة لوس أنجلوس تايمز، تقريراً سلطت فيه الضوء على الحياة اليومية في كلا الجانبين والصعوبات التي تقف عائقاً أمام تحسين الحياة في القسم الغربي نتيجة الدمار الذي حصل إثر تطهير المدينة من تنظيم داعش.

حيث يبين التقرير أنه إذا أمكن الوقوف وسط نهر دجلة الذي يشطر هذه المدينة القديمة, والتي كانت ذات يوم جوهرة تاج فتوحات داعش, فإنها غالباً ستجلب إلى الأذهان صوراً متكررة. لقد أصبحت الموصل اليوم قصة مدينتين.

فبالنظر إلى القسم الشرقي, يمكن مشاهدة المطاعم المزدحمة والكازينوهات والمقاهي على ضفة النهر حيث يمتص الرجال الدخان من أنابيب النارجيلة بينما يلعبون بورق الشدّة, ودخان الشواء يهبّ من المنطقة. وتتنافس السيارات مساءاً بحثاً عن مكان مضاء على الطريق العام لتقف.

أما بالنظر إلى القسم الغربي من المدينة ليلاً, فلن نر سوى القليل جداً لأنها تفتقر إلى الكهرباء. وحتى في حال وجود الكهرباء فلم يبق في شوارع المدينة مصابيح اليوم.

وتكشف أشعة الشمس الضفة اليمنى لمدينة الموصل على أنها طوبوغرافيا الأنقاض وبقايا حطام آلاف الأبنية المدمرة التي كانت تقف ذات يوم هناك.. إنه مشهد من المدينة تم مسحه بفرشاة رمادية اللون.

ففي العام 2017, قام ما يزيد عن مئة ألف جندي من القوات العراقية والميليشيات الداعمة لها, وبدعمٍ من التحالف الدولي الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية, بدحر مقاتلي تنظيم داعش الذين جعلوا من مدينة الموصل عاصمتهم العراقية.

حيث كان الحي المعروف باسم المدينة القديمة, والمواجه للنهر على الجانب الغربي, قد دمّر بالكامل خلال المواجهات. وبعد 277 يوماً من المعارك التي توّجت بما وصفه آنذاك وزير الدفاع الأمريكي جيمز ماتيس باستخدام “تكتيكات الإبادة” بإنهاء عهد تنظيم داعش التي دامت ثلاث سنوات. وقد تم تدمير أحياء بأكملها معظمها في غربي الموصل مخلفاً عشرات الآلاف من القتلى, حيث دفن الكثير منهم تحت الأنقاض.

وبعد عامٍ ونصف من تحقيق النصر, يرى الكثيرون بأن السلطات لم تقم بفعل الكثير لمساعدة هؤلاء الذين عانوا في ظل حكم المتطرفين لإعادة بناء حياتهم. إنه سيناريو متكرر عبر معظم أنحاء البلاد, لكن ليس أكثر من مدينة الموصل ثالث أكبر مدينة في العراق.

أما شرق الموصل, فيعلن عن مستقبلٍ واحدٍ ممكن. فالمدينة تستعيد مكانتها في البلاد, وكذلك بين المدن الكبرى في العالم العربي. المباني القديمة سليمة إلى حدٍ كبير والمباني الجديدة يتم بناؤها, بما في ذلك مشروع “غولدن مول” الذي تبلغ مساحته أكثر من ثلاثمائة ألف قدم مربع.

وفي جامعة الموصل, يحتشد الطلاب عند بائع القهوة المتجول للحصول على فنجان القهوة قبل دخول الفصل الدراسي. حيث كانت الجامعة تخضع لسيطرة تنظيم داعش لمدة عامين قبل أن تتمكن القوات العراقية من استعادتها في شهر كانون الثاني من العام 2017 ليتم استئناف الدوام بها خلال شهرين. واليوم عاد ما يزيد عن ثلاثين ألف طالب جامعي إلى الدراسة, بحسب المدرّسين الجامعيين.

أما المتاجر القريبة, فيشير التقرير إلى أنها تستعيد عرض الألبسة المتموجة الألوان التي كانت قد حرّمت خلال حكم تنظيم داعش. ويقول سعد محمد, وهو طالب جامعي ويعمل بائع في متجر للألبسة: “كل ما تراه هنا لم نكن قادرين على بيعه, ناهيك عمّا كنا نرتديه”.

مشيراً إلى أكوام من السراويل التركية الصنع والقمصان الملونة والسترات الجلدية. ويضيف: “هذه السراويل طويلة جداً, لحانا كانت غير مرتبة. لقد تسببوا لنا بالكثير من المشاكل فيما يخص كل شيء”.

وتعجّ شوارع حي الزهور الراقي بالسيارات وحركة المشاة بين المتاجر, في حين تغيب على الجانب الغربي من المدينة. حيث لا يمكن الوصول إلى الكثير من الطرقات. ويشير أحمد أيوب, مختار أحد الأحياء في المدينة القديمة, إلى أن الطرقات التي أعيد فتحها تمت بجهود الناشطين وليس الحكومة.

وللجانب الغربي من المدينة أيضاً تاريخه, فتقع المدينة القديمة حيث تأسست مدينة الموصل لأول مرة في الفترة التي تلت سقوط الإمبراطورية الآشورية في القرن السادس قبل الميلاد. ومع قدوم تنظيم داعش كانت المدينة موطناً لسكان الموصل الأشد فقراً. وقد دفعت الممارسات الظالمة من قبل الحكومة والفساد, والتي تكررها الحكومة اليوم, سكان الموصل في العام 2014 للترحيب بالمتطرفين باعتبارهم محررين.

أما اليوم, وبعد مرور أكثر من عامٍ ونيّف على الهجوم وهزيمة تنظيم داعش, لا تزال المهمات العاجلة التي تتمثل بإزالة ملايين الأطنان من الأنقاض (والتي يحتوي معظمها على الألغام والذخائر الغير متفجرة, ناهيك عن الأشلاء) مضطربة بسبب المشاكل العملية والبيروقراطية.

وبحسب التقرير, تجمع فريق لإزالة الألغام والذخائر غير المتفجرة تابع للأمم المتحدة في مدرسة خالد بن الوليد في مدينة الموصل القديمة في صباح أحد الأيام. “أي خطأ صغير سوف يفقدنا حياتنا”, قال أحدهم.

وفي ساحة المدرسة, جرف بلدوزر مدرّع الحطام ثم قذفه فوق مساحة تم تطهيرها. تقدّم أربعة رجال نحو الحطام ليصرخ أحدهم مشيراً إلى قطعة صغيرة من الذخائر غير المتفجرة والتي خلّفها الهجوم. ليتقدم أحد الخبراء ليلقي نظرة ويعلن أنها آمنة وينتزعها من تحت الأنقاض.

وبحسب رواية أحد أعضاء فريق إزالة الألغام, فإن الحطام يحمل أحزمة ناسفة وقذائف مدفعية عيار 155ملم وعبوات تحتوي على 55 رطلاً من المتفجرات وصمامات وقنابل صغيرة خاصة بالطائرات المسيرة بدون طيار. مضيفاً أن موقع الكنيسة القريب يحتوي على خمسة وثلاثين سترة انتحارية.

وبالرغم من العمل الدؤوب من الجميع, إلا أنه كان بطيئاً جداً. فمن المتوقع أن تستغرق عملية تنظيف الموصل ما يصل إلى عشرة سنوات إذا ما استمر العمل بالوتيرة الحالية. وبالرغم من مضاعفة محافظة الموصل حصتها من الميزانية الفيدرالية للعام 2019 إلى 2%, إلا أن العمل يعاني من نقصٍ شديد في التمويل.

“إن الحكومة لم تقدم أي تعويضات للسكان عن الأضرار الناجمة نتيجة الحرب, مما ترك الكثيرين غير قادرين على إعادة بناء منازلهم”، يقول بشير حسين فتحي أحد سكان المدينة القديمة وعضو في الحزب الشيوعي. ويضيف: “نعتقد بأنهم سوف يقدمون مبلغاً صغيراً من قيمة الدمار. إنهم يفعلون كما يقال: يعطونك من الجمل إذنه”.

ومثله كمثل معظم سكان حيّه, ليس لدى المختار أيوب أي مكان يذهب إليه. فهو لا يستطيع تحمل طاقة دفع إيجار شقة على الجانب الشرقي للمدينة والذي يصل متوسطه إلى 250 دولاراً. كما رفض أفراد أسرته تقديم المساعدة له, الأمر الذي اضطره إلى العودة إلى المدينة القديمة والنوم في حطام ما كان يوماً ما منزله.

وبالرغم من دعم الأمم المتحدة والدول المانحة والمنظمات الدولية, إلا أن الحكومة لم تفعل الكثير لإصلاح البنية التحتية للمدينة.

ويشير التقرير إلى أنه وبالرغم من كل تلك الظروف القاسية, إلا أن حوالي مئة وستون عائلة عادوا إلى المدينة القديمة في حي المختار أيوب. وبحسب أيوب, فإن مئات العائلات الأخرى سوف تتوالى عائدة بمجرد إعادة فتح مدرسة خالد بن الوليد.

فالعديد من العائلات التي عادت إلى الحي ترسل بناتها إلى مدرسة حفصة للبنات. حيث تقوم نهى سمير, البالغة من العمر 25 عاماً والتي تعمل مع فريق إزالة الألغام, بتعليم الأطفال عدم العبث أو اللعب بالأشياء التي يجدونها في الشارع من خلال لعبة تلعبها معهم.

وترفع سمير بطاقة تحمل صورة عنزة. “عنزة”, يردد التلاميذ ما يجدونه على البطاقة ليهز محمد رأسه موافقاً ويقول: “يمكننا لمس العنزة”. فتقلب سمير البطاقة لتظهر صورة قذيفة غير متفجرة, “قذيفة”, يصرخ الطلاب. ويهز محمد رأسه نافياً ويقول: “يجب ألا نلمس هذه”.

وتختم لوس أنجلوس تايمز تقريرها بالإشارة إلى أن العديد من الأطراف تلقي باللائمة على نوفل العاكوب, محافظ نينوى, في عدم إحراز أي تقدم بشأن المدينة واتهامه بعرقلة جهود الإغاثة وتسهيله بيع ملايين الأطنان من الخردة المعدنية بأسعارٍ زهيدة لصالح قوات الحشد الشعبي, الميليشيات التي تسيطر عليها الشيعة والتي شاركت في تطهير المدينة من تنظيم داعش.

وأن لجنة تحقيق برلمانية استجوبت العاكوب بشأن صفقة الخردة, إضافةً إلى تملكه العقارات لكن نتائج التحقيقات لم تصدر بعد.

وفي هذه الأثناء تظهر علامات الزعزعة على أمن الموصل الذي اكتسب بشق الأنفس. ففي مساء يوم الجمعة, انفجرت سيارة مفخخة شرقي الموصل بالتزامن مع مرور سيارة رئيس جهاز الأمن في المدينة. وقد أودى التفجير بحياة شخصين من ضمنهما فتاة بعمر الثالثة عشر وإصابة ما لا يقل عن عشرة آخرين, بحسب بيان للشرطة.

وبعد ساعات من التفجير, قام فريق الدفاع المدني بتنظيف الموقع وإعادة الحياة إلى الطريق مجدداً. حيث كان ذلك ثاني تفجير لسيارة مفخخة في غضون أسابيع بعد سلسلة من الهجمات في المناطق الريفية خارج المدينة.

وفي تغريدة لبلال موصلّي, ممرض من المدينة, قال: “انفجار آخر سوف يحدث, وسوف تستمر الحياة مجدداً”! لكنه يتساءل كيف علم من وضع القنبلة بتحركات رجال الأمن؟ مضيفاً: “إلى متى سوف تستمر هذه المهزلة؟ إلى متى سوف يستمروا في قتلنا وسفك دمائنا؟”.


الصورة المُرفقة تعبيريّة من أرشيف غوغل

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.