(الحل) – لم تعش الثورة السورية لحظة تأزم وانعطاف تاريخي منذ انطلاقتها في 2011 وتقدم ميدانها العسكري فيما بعد، كالتي عاشتها مع ظهور التنظيمات الإسلامية المتشددة في مطلع العام التالي (هيئة تحرير الشام، عرفت سابقاً بجبهة النصرة، وانشق عنها تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» فيما بعد)، والتي سيطرت  على مساحات شاسعة من سوريا، متبعة أسلوب قمعي لإثبات وجودها وبشكل يخدم أهدافها لا يختلف كثيراً عن أساليب النظام في وأده للحريات وتصفية أي معارض له.

ففي 24 يناير/كانون الثاني 2012 أصدر المدعو «أبو محمد الجولاني» (زعيم النصرة) بياناً أعلن فيه رسمياً عن تشكيل «جبهة لنصرة أهل الشام من مجاهدي الشام».

وجاء في البيان إن الهدف من تأسيس الجبهة «إعادة سلطانِ اللهِ إلى أرضِه، والثأر للعرضِ المُنتَهَك والدمِ النازِف وردَّ البسمَةَ للأطفالِ الرُضَّع والنِساءِ الرُّمل»، حيث  تبنت الجبهة أول عملية انتحارية في سوريا آنذاك، ضربت خلالها مركزاً أمنياً في مركز كفرسوسة في وسط العاصمة #دمشق، في هجوم خلف ضحايا مدنيين.

وطبقت «النصرة» وأختها «داعش» تفسيراً متشددا للشريعة الإسلامية قيدوا من خلاله الحريات بما يخدم مشروعهم، الذي يهدف إلى قمع ثورة الشعب السلمية والسيطرة على مناحي الحياة كافة، ومحاولة صبغها بأيديولوجية متطرفة.

 

«أخوة المنهج»

بعد انتزاع فصائل المعارضة السيطرة على أجزاء واسعة من دير الزور، ارتفع نفوذ النصرة فيها شيئاً فشيئاً، فبدأت بطمس كل إنجازات الثورة، وقتلت كل ملامح الحرية التي بدأت بالظهور بعد غياب حكم بشار الأسد، لتصبح بعدها الجماعة الأكثر نفوذاً في المنطقة الشرقية.

وتعد «جبهة النصرة» التوأم الحقيقي لتنظيم الدولة  في سوريا، والمنشق عنها أساساً، لتشابههما عقائدياً وانحسار الخلاف بينهما في تفاصيل متعلقة بمناطق النفوذ والسيطرة، وليس لوجود اختلافات فكرية بينهما كما روج له مؤيدو الطرفين سابقاً، إذ بدأ النزاع على النفوذ بين الجماعتين في محافظة دير الزور بشهر أبريل/نيسان 2014، وانتهت المعارك حينها بفرض «داعش» سيطرته على كامل المناطق الخارجة عن نفوذ النظام في المحافظة الشرقية، بعد فرار الجبهة وقادتها إلى مناطق أخرى، من بينها الجنوبية.

تنوعت الممارسات التي طبقتها «النصرة» أثناء سيطرتها على معظم محافظة ديرالزور قبيل سيطرة التنظيم عليها، حيث بدأت بقطاع التعليم من خلال عزل الطلاب الذكور عن الإناث، وحتى طلاب المرحلة الابتدائية منهم وإلزام الطالبات باللباس الشرعي ومنع الاختلاط، بحجة تطبيق أوامر الشريعة الإسلامية.

وبحسب العديد من الشهادات التي حصل عليها موقع «الحل» فإن ممارسات التضييق لم تقتصر على القطاع التعليمي فحسب، بل تعدته لتشمل عموم المدنيين والمؤسسات المدينة العاملة في عموم المنطقة، حيث شددوا الخناق أيضاً على الكوادر الطبية في المستشفيات، من خلال منع الاختلاط بين كوادرها (الذكور، والإناث) وإلزام الطبيبات والممرضات والعاملات بداخلها بارتداء اللباس الشرعي .

يقول مجد الحسين 37 عاماً (من مدينة #الميادين) لموقع «الحل» إنه بعد خسارة النظام السيطرة على المنطقة، «حاولت المجالس المحلية المنتشرة في عموم المنطقة، القيام بعمل وظائف الدولة بقدر المستطاع، فأشرفت على شؤون النظافة والمدارس والكهرباء والمياه حيث استمرت في تسيير أعمالها على يد موظفهيا الذين بقوا في المنطقة، لحين بدأت (النصرة) بوضع يدها على كل ما سبق».

وأضاف الحسين «لم يسلم الباعة المتجولين وأصحاب المحال التجارية من تضييق عناصر النصرة، حيث منعوا بيع الدخان والإتجار به ومنعوا أصحاب المقاهي أيضاً من تقديم الأراكيل (الشيشة) لزبائنهم والمخالف منهم يعرض نفسه للمحاسبة والتغريم وإغلاق للمقهى بشكل دائم»، مشيراً إلى أن «محلات بيع الألبسة النسائية قيدت بقوانين صارمة أيضاً حيث ألزم أصحابها  بتغطية رأس (المنكان) في الواجهة وأن لا يعرضوا خلالها ألبسة داخلية لما يثير فتنة، وفق زعمهم».

 

«داعش» امتداد لإجرام النصرة

وأعلن التنظيم خلافته المزعومة في منتصف 2014 ، من الموصل، بعد إنهاء حربه ضد الفصائل العسكرية بدير الزور أيضاً، والتي استمرت قرابة 6 أشهر، لتبدأ مأساة أهالي المنطقة في حقبة تضييق مضاعفة عن سابقتها لجلاد اتسم بوحشية ودموية أكثر من سابقته «النصرة»، بالتزامن مع نجاح الجماعة التي لم تعد تسيطر على متر مربع واحد في سوريا أو العراق اليوم، من فرض نفوذها على نصف سوريا ومساحات شاسعة من جارتها في الشرق.

واستنكر «أبو حسان» أحد سكان مدينة  البوكمال تصرفات «داعش» حيث أشار لموقع «الحل» إلى أنّ «التنظيم حرّف البوصلة من مواجهة النظام إلى مواجهة الجيش الحر، كما إنه عادى الناشطين والمدنيين والإعلاميين  وعمال الإغاثة في المنطقة وقام باختطاف وإعدام الكثير منهم، وقد بدا ذلك جلياً من خلال الإصدارات التي كان ينشرها بشكل مستمر والتي يهدف من خلالها لترهيب أهالي المنطقة وأي شخص يكن العداء له».

ولفت «أبو حسان» إلى أن عناصر التنظيم أقدموا على إعدام شاب مختل عقلياً في بلدة #البوليل في يناير 2015، بتهمة سب الذات الإلهية، بعد يومين من اعتقاله. كما أقدم عناصر من التنظيم بعد قرابة الشهرين من الحادثة المذكورة على إعدام فتى آخر في الخامسة عشرة يدعى يوسف العلو  بإطلاق النار على رأسه أمام أعين أفراد عائلته، بعد أن اتهموه بـ «التلفظ بما يسيء إلى النبي محمد (ص)».

 

من ساحة الحرية إلى مسرح للإعدام تحت حكم «داعش»

عادل (اسم مستعار لناشط من ديرالزور) تحدث لموقع «الحل» عن ممارسات التنظيم في المنطقة، قائلاً: إن «ضغوطاً رهيبة فرضها التنظيم على عموم الأهالي في  ديرالزور، فقد أوقف التعليم واقتصره على مناهج خاصة به، الأمر الذي دفع بأعداد كبيرة من عوائل المنطقة إلى الهرب خارجها خشية على أبنائهم من الانخراط بأفكاره المتشددة، وسير دوريات (الحسبة) التي ارتكبت ابشع الانتهاكات في المنطقة من جلد لنساء والأطفال وحتى المسنين بتهم واهية ومنها مخالفة اللباس الشرعي أو عدم الالتزام بالصلاة»، لافتاً إلى أنه «جعل من مراكز المدن العامة كساحة الحزب في #الميادين وساحة الحرية في #البوكمال مسرحاً لعمليات الإعدام التي كان ينفذها كل حين وآخر وعلى مرأى من الجميع وخاصة الأطفال».

 

منع الأدوية عن المدنيين بحجة «الغرب الكافر»

دفعت ممارسات التنظيم السابقة بالكثير من العاملين في المجال الطبي بدير الزور(أطباء وصيادلة وممرضين) إلى الهجرة أو إلى ترك العمل، حيث قام بإغلاق العديد من الصيدليات بحجة مخالفات وبيع أدوية غير مرخص بها، رغم أن المحافظة آنذاك كانت تعاني شحاً في توفر الأدوية، بسبب انقطاع الطرق مع  باقي المحافظات وارتفاع أسعارها.

وفي حديث لموقع «الحل» بين الدكتور سليمان الخلف (من ريف ديرالزور)  أن التنظيم «أثناء سيطرته على معظم المحافظة، بدأ بانتهاج سياسة ومنهجية للتضييق على عمل الأطباء، بإصدار قرارات جائرة لم يكن الهدف منها إلا الإضرار بالقطاع الصحي، حيث أغلق عدد من النقاط الطبية والمشافي الميدانية، بحجة تلقي هذه النقط والمشافي دعماً من منظمات غربية (كافرة) حسب وصفه، ثم فرض دورات شرعية على جميع الكوادر الطبية المتبقية في المحافظة، كما أغلق جميع العيادات التي يشرف عليها أطباء ذكور، وكذلك منع أي طبيبة من معالجة الرجال، ومنع الأطباء أيضاً من توليد النساء، وصادر ممتلكات الأطباء المتواجدين خارج مناطق سيطرة التنظيم».

ولفت «الخلف» إلى ارتفاع حالات شلل الأطفال التي ظهرت في مناطق الريف آنذاك وتحديداً الريف الجنوبي الشرقي، مبيناً أن معظم الإصابات كانت في قرية #صبيخان والقرى المحيطة بها (نحو 26 حالة)، بالإضافة إلى (البوليل، بقرص، ناحية الصور، وناحية الكسرة)، وقد تم تأكيد بعض الحالات مخبرياً، وكان ذلك لعدم تواجد حملات التلقيح ضد الشلل لأن التنظيم أوقفها.

واختتم الدكتور حديثه بالتأكيد على أنه كانت هناك عدة منظمات دولية تعمل على تأمين لقاحات الأطفال وتنظيم حملات ضد شلل الأطفال، وتوقفت عن العمل، بسبب سيطرة  التنظيم على تلك المناطق وقيام التنظيم بتوقيف عملها وملاحقة أعضائها.

 

الإرهاب هدية «داعش» إلى الأسد

بايعت «جبهة النصرة» في سوريا زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري في أبريل 2013 ، وتنصلت في الوقت نفسه من إعلان الفرع العراقي للتنظيم دمجهما تحت راية واحدة.

وقال المسؤول العام للجبهة (أبو محمد الجولاني) في تسجيل صوتي آنذاك «هذه بيعة من أبناء جبهة النصرة ومسؤولهم العام نجددها لشيخ الجهاد أيمن الظواهري، فإننا نبايعه على السمع والطاعة».

وذكر «البغدادي» من جهته أنها أرسل «الجولاني» إلى سوريا لإعلان الجهاد، وفي فترة لاحقة بدأ الخلاف بين القائدين، لينتهي الحال بوجود اسمين لجماعتين «أخوة في المنهج»، الأولى «النصرة» تحت «الجولاني» وتتبع للقاعدة، وثانية هي «الدولة الإسلامية»، يتزعمها البغدادي بمباركة القاعدة بدايةً، قبل أن يصبح ابنها العاق إثر خلافات على السلطة.

مبايعة «الظواهري» كانت تخلصاً من سطوة البغدادي والانتقال إلى «المدير» مباشرةً، حيث أصبح الصبي المدلل للقاعدة، كممثل لها في منطقة «الشام» الاستراتيجية.

كان ظهور الجماعتين، وازيداد نفوذهما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أهم هدية لبشار الأسد، الذي أراد حجة لقمع معارضيه، فبعد أن كان الديكتاتور الذي يحارب شعبه في نظر الغرب، بات المنقذ مكافح الإرهاب، الذي بات فعلاً منتشراً يعمل وكأنه ذراع دمشق في المناطق الخارجة عن نفوذ السلطة الحاكمة، يستمر بنهج الإجرام الذي شهدته سوريا لأربعين عاماً، بل ينافسه أحياناً.

 

بعد نهاية «داعش»… «النصرة» إلى أين؟

واليوم، أحد أهم أعداء الثورة السورية والشعب السوري، انتهى هو وخلافته بشكل نهائي في سوريا، مع إعلان القضاء على آخر فلوله في الباغوز، في حين ما تزال «جبهة النصرة»، التي أصبحت تعرف باسم جبهة فتح الشام (نواة هيئة تحرير الشام) تسيطر على مساحات واسعة في إدلب، بانتظار مصير يبدو أنه سيكون مماثلاً لـ«أختها في المنهج». حيث تشهد محافظة إدلب اتفاقيات كثيرة، منها رسمية وأخرى لم يتم الإعلان عنها لتعقد الملف، تبقى أبرزها اتفاقية «آستانا»، التي من المفترض أن تتضمن إنشاء تركيا نقاط في المحافظة الشمالية لحفظ الأمن، لم تتدخل حتى الآن بظل الضربات الروسية للجماعة الجهادية.

إعداد: حمزة الفراتي – تحرير: سامي صلاح

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.