أُغِلق الجسر المُعلّق بعد 2003 لمدة 15 عاماً ونصف، حتى مطلع ديسمبر 2018، لا لشيء سوى لكونه يربط الكرادة بالمنطقة الخضراء، التي تقبع فيها مقرات الحكومة وكذلك السفارة الأميركية، ولم تتم إعادة افتتاحه إلا قبل مدة وجيزة، وذلك احتفاءً بذكرى النصر على داعش في 10 ديسمبر 2018.

——————————————————

بغداد – علي الكرملي

للعراقيين مع الجسور حكايات عشق لا تنتهِ، يعشقونها وكأنها محبوبتهم، فلا تكاد تجد شاعراً أو مُطرباً لم يتغنَّ أو يكتب عنها، ولعل من أبرز أولئك ما قاله «علي ابن الجهم»:

“عيون المها بين الرصافة والجسرِ     جلَبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري”

وكذلك المُطرب البدوي «سعيد عگّار» حينما تغنّى بمحبوبته في أربعينيات القرن الفائت بالقول: “يا عين موليتين يا عين موليّه     جسر الحديد انگطع من دوس رجلَيَّه”

أما فيما يخصُّ الجسر المعلّق فقد قال عنه «عبد الرزاق عبد الواحد»:

 “كُنا نقول على المعلق نلتقي    قَدَرٌ على أَهْلِ الهوى أن يلتقوا.. وعلى رصيفيك اللذين تشبعا     بالذكرياتِ عهودُنا تتوثقُ”.

للجسر المعلّق في #بغداد، حكايَتان وَجيلَان، جيل بذُكريات وآخر بلا ذُكريات، جيل عاصر بغداد السبعينيات، الثمانينيات والتسعينيات، وجيل وُلِدَ نهاية التسعينيات ومطلع الألفيّة الثالثة، ولكُلِّ منهما حكايته الخاصّة عن #الجسر.

الجسر المُعلّق ليلاً – فيسبوك

بداية الجسر العراقي المُعلّق:

مرّ الجسر منذ فكرته من وضع حجر أساس البناء ثم افتتاحه، بثلاث #حكومات_عراقية متعاقبة، إذ بدأت فكرته من قبل لجنة الإعمار في زمن الملَكِيَّة، حيث وضع له المهندس الأميركي ديفيد ستينمان تصاميمه عام 1956، لكنه توفي عام 1958، هذا غير تغيير الحكم الملكي في 14 تموز من ذات العام إلى حكم جمهوري والأوضاع التي رافقت تلك المدة أدّت إلى تأجيل بنيانه.

بعد تغيير #الحكم_الملكي وضع #عبد_الكريم_قاسم حجر الأساس عام 1961 بالاتفاق مع شركة بلجيكية تكفّلت في تشييده، لكن الأخير لم يتمكن من افتتاحه، إذ تم تغيير حكمه ايضاً بعد اغتياله في شباط 1963، افتتحه عبد السلام عارف رئيس الحكومة العراقية آنذاك بعد تغيير حكومة قاسم بعام واحد، ذلك في عام 1964 أي بعد ثلاث سنوات من وضع حجر الأساس.

بقي الجسر شامخاً يربط كرادة مريم (#المنطقة_الخضراء حالياً) في #كرخ بغداد بالكرادة الشرقية  في رصافتها طوال 27 عاماً حتى الحرب الخليجية الثانية عندما قصفته #القوات_الأميركية عام 1991 لتدمّره دماراً شاملاً، ومنذ ذلك بدأت نكسات الجسر المتكررة ومعها أحزان الناس العاشقة له.

 صيانة الجسر بعد تدميره كلّف حياة مهندس!!

إحدى المعاصرات للمعلّق قبل قصفه وأبان مرحلة إعادة تشييده وبعد افتتاحه مجدداً تقول، ”إن الجسر المعلّق مرَّ بقصّتين أبعدت الناس عنه، الأولى حين قصفته القوات الأميركية عام 1991، وكانت مرحلة إعادة إصلاحه بمثابة تحدٍ للحكومة العراقية وقتها، وللمهندسين بالدرجة الأساس، حتى قيل أن أحد المهندسين من شدّة التحدي أُصيب بجلطة في الدماغ وتوفي“.

”أتذكّر أن المكان تحوّل إلى ورشة عمل كبيرة حينها، شارك بها مئات من المهندسين والعمّال، وأُنشِئَ وقتها جسر بموازاة الجسر المقصوف، جسر للعمل والتحرُّك بين الضفّتين، ما زال موجوداً حتى اليوم، جسر بسيط لحركة العمال، وأتذكّر وقتها حُدِّدَ تاريخ للعمل، لكن لم يتم الإنجاز في ذات الوقت المحدّد، إذ كان إصلاح الجسر من الصعوبة بمكان، بحيث كثير من المختصين قالوا حينها – سراً لا علناً – أنهم لن ينجحوا في إعادته، فهو مبني وفق حسابات دقيقة“، تضيف سارة يوسف.

الجسر بعد قصفه عام 1991 – إنترنت

الجسر يُغلق مرةً ثانية أمام العراقيين:

لكن فيما بعد،، تم إعادة افتتاحه، ويعد إنجاز في وقت قياسي في ذلك الحين، نظراً للحصار المفروض على البلد والظروف الصعبة التي يمر بها، تقول يوسف لـ «الحل العراق»، وتُضيف، ”القصّة الثانية هي حينما أُغلق الجسر أمام الناس بعد عام 2003، إذ أن معظم جيل نهاية التسعينات وجيل الـ 2000 وما بعدها لا يملكون ذاكرة عنه، إذ حينها لم تتجاوز أعمارهم أعوامٍ ثلاث“.

قُرّرَ إعادة العمل بأيادٍ عراقية خالصة عام 1992، لكن عدم توفر الأدوات والإمكانيات، إضافة إلى عدم قيام أي فريق هندسي محلّي في إنشاء جسر معلّق قبل ذلك الحين كلها صعوبات أدّت إلى ايقاف العمل به مؤقتاً، حتى تمت العودة إلى فكرة إعادة تشييده مرّةً ثانية، وافتُتِح في الربع الأول من عام 1995، حينها فَرِحَت الناس وابتهجَت، وكُتِبَت القصائد والأناشيد، وكُتِبَ مانشيت عريض في التلفزيون وقتها بعنوان «تألَّق يا مُعَلَّق»، ومن بين أشهر القصائد التي كُتِبَت بحقٍهِ كانت قصيدة الشاعر العراقي «عبد الرزاق عبد الواحد» (التي ذُكِرَ مقطع منها سلفاً) والتي حملَت عنوان «كُنّا نقول على المُعلّق نلتقي»، والتي كُتِبَت في (25 آذار 1995) يومَ تاريخ إعادة الافتتاح.

لأول مرة العراق يُنشئ جسراً معلّقاً بأيادٍ محلية:

”من المعروف أنه في عام 1991 لم يكن العراق قد دخل في مضمار تنفيذ الجسور المعلقة تنفيذاً مباشراً وبكوادر حكومية؛ لكون تقنية الجسور المعلقة هي تقنية تخصصية تحتاج مستلزمات ومعدات عالمية لم يكن العراق في حينها يمتلكها، بخاصّة وانه كان يمر بظروف حصار خانقة وشديدة من جميع النواحي“، يقول المهندس محمد الشمري، أحد المُشاركين في عملية إعادة بناء الجسر وقتذاك.

”كان هناك أمران يعيقان العمل بالإضافة إلى المواد والعدد التخصصية،، إذ أن بناء #الجسور_المعلقة يقتصر على دول محدودة في العالم، وكان المعيق الأول هو الحبال الفولاذية التي يجب جلبها من الخارج، في وقت  نحن في ظرف حصار، أما المُعيق الثاني هو عمليات رفع وتقطيع بـ الاوكسي استيلين لآلاف الأطنان من هيكل الجسر الغارق تحت مياه دجلة“، يضيف الشمري لـ «الحل العراق».

”في أحد الأيام بعد أن تم ايقاف فكرة إعادته مؤقتاً، تم عقد اجتماع هندسي عاجل عام عرض فيه مجددا إمكانية إحياء الجسر المعلق من جديد ولملمة ركامه، شاركت دوائر عديدة في تصنيع هيكل الجسر، وقامت منشأة الفاو في حينها بأعمال بناء جسرَين حديديّين موازيين للجسر المعلق لأعمال الخدمة ما زالا قائمين لحد الآن، وبعرض 6 أمتار لكل منهما“.

الجسر المُعلّق من الجَو – إنترنت

”بعد إدخال برامج تصاميم جديدة للهيكل الحديدي للجسر، وإعادة جلب أسلاك الفولاذ لبدنة الجسر، استطاعت تلك القدرات من إعادة إنجاز ذلك الصرح، وبذلك دخل العراق لأول مرة في حيز إنشاء جسر معلّق بأيادٍ محلّية، بعد أن كانت حكراً على دول محدودة في العالم مثل «اليابان، الصين، ألمانيا أميركا، وفرنسا»، وبذلك أمسى العراق الدولة التاسعة على صعيد بناء الجسور المعلقة في العالم“. يقول الشمري.

جسرٌ بلا ذكرياتٍ معاصرة:

الجسر الذي يمتد على طول 167 متراً، وبعد كل تلك الظروف العصيبة التي رافقت إعادة تشييده، تم إغلاقه بعد 2003 لمدة 15 عاماً ونصف، حتى مطلع ديسمبر 2018، لا لشيء سوى لكونه يربط الكرادة بالمنطقة الخضراء، التي تقبع فيها مقرات الحكومة وكذلك السفارة الأميركية، ولم تتم إعادة افتتاحه قبل مدة وجيزة، إلاّ لمناسبة ذكرى النصر على داعش في 10 ديسمبر 2018.

جيل الـ 2000، وما بعد 2003، ونهاية التسعينيات لا يحمل ذكريات عن الجسر، إذ تقول سُرى محمد لـ «الحل العراق»، أنها لم تكن تعرف أن في العراق وفي بغدادَ جسراً معلّقاً من الأساس، ”عرفت ذلك حينما تناقلت وسائل الإعلام خبر افتتاحه أمام المارَّة“ لذلك لا أحمل أي ذُكريات تجاهه، تُبَيّن الشابة العشرينيّة.

أما سمير محمد، فهو الآخر يقول في حديثه لـ «الحل العراق»، أنه لم يسمع ولو يوماً واحداً من أهله أي حديث عن شيء اسمه «جسرٌ معلّق» موجود في بغداد، ”علمتُ بوجودِه حينما قرّر رئيس الوزراء العراقي السابق حيدر العبادي فتح المنطقة الخضراء عام 2016، فتحها لمدة ثلاث ساعات فقط، ظهرُ فيها وهو يُحَيّي الناس المارّة بسياراتهم من الجسر المعلّق، وقت ذلك عرفت بوجوده حينما شاهدتُ تلك اللقطات عبر شاشاة التلفاز“، يوضّح محمد.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.