اللاذقية (الحل) – منذ أن بدأت روسيا بتدخلها العسكري الجوي في سوريا ووقوفها إلى جانب النظام في قصف وتدمير المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية، كان هدف موسكو ظاهرياً ما أسمته “القضاء على الإرهاب” بتدخل عسكري محدود، فكانت منطقة الساحل السوري بوابة التغلغل الروسي في سوريا، ليس على الصعيد العسكري فقط، بل اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً.
وأصبح من المألوف مشاهدة صور الرئيس فلاديمير بوتين في الشوارع والساحات العامة والحواجز العسكرية والصالات الرياضية وحتى المطاعم، وبات وجود الجنود الروس وعائلاتهم في شوارع مدينتيّ اللاذقية وطرطوس ليس غريباً، في خطوة وجد فيها محللون أن روسيا وجدت في استجداء النظام لوقوفها إلى جانبه بمثابة الفرصة التي لا تعوض بتأسيس موطئ قدم دائم لها في الساحل السوري وترسيخه ثقافياً واجتماعياً، وذلك إيجاد حاضنة شعبية لا تقبل بهذا الوجود فحسب، بل التمسك به والدفاع عنه.

مطاعم ووجبات روسية
في مدن جبلة و حميميم واللاذقية باتت الشوارع والمحلات والمقاهي تشعرك للوهلة الأولى أنك في مدينة روسية، إذ تقول مصادر محلية في المنطقة لموقع «الحل» إن «المطاعم بدأت بتقديم المأكولات والوجبات الروسية بعد انتشار الجنود الروس في الساحل السوري، وأصبح هناك محال متخصصة في بيع هذه المأكولات بعد أن وضعوا لافتات وعبارات باللغة الروسية، في حين اتجه بعض أصحاب المحلات التجارية في المنطقة لبيع المنتجات الروسية أو التي يفضلها الروس، فضلاً عن انتشار مظاهر أخرى كتزيين المحال بالعلم الروسي أو بصور الرئيس بوتين بهدف تشجيع الجنود الروس على الدخول إليها والشراء منها».

وأكد صاحب أحد المحال التجارية في منطقة الشيخ ضاهر بمدينة اللاذقية أن «الجنود الروس وعائلاتهم لهم ترحيب من الناس في الساحل السوري عموماً، فهم يمشون دون حماية ولا أحد يتعرض لهم، بل على العكس تعلّم جنود النظام على الحواجز العسكرية بعض الكلمات الروسية للترحيب بهم، فضلاً على أنهم يتمتعون بثراء كبير فهم يشترون في غالب الأحيان بالدولار، ولا يناقشون بالأسعار».
وأضاف المصدر لموقع «الحل» أن «أهالي الساحل السوري يفضلون الروس، ويرون فيهم الحامي من أيّة تهديدات داخلية وحتى خارجية، ويرون في روسيا البديل الأنسب من المشروع الإيراني (الديني)».

اللغة الروسية تفرض نفسها
بدأت روسيا بالتركيز في نشر مشاريعها التعليمية بداية في مناطق الساحل السوري، التي لم تشهد عمليات عسكرية، وتشكل بيئة خصبة لهذه الأنواع من المشاريع، وخصوصاً لمن تسميهم «أبناء الشهداء»، حتى أن وكالة «سبوتنيك» الروسية، نشرت خبراً في أواخر عام 2018 تحت عنوان «أبناء الضحايا في سوريا يفضلون تعلم اللغة الروسية على باقي اللغات»، في إشارة إلى عوائل جنود النظام الذين قتلوا في المعارك الدائرة مع المعارضة، خلال سنوات الحرب، حيث جاء التبرير على لسان «ياسر صبوح» مدير المركز الثقافي باللاذقية بقوله «نعمل على تعليم اللغة الروسية وتقديمها مجاناً لذوي الشهداء، لإعداد جيل يتكلم اللغة، لتكون لغة صديقة وحليفة قدم متكلموها من أبناء الدولة الاتحادية جهوداً من أجل إعادة الأمان وطرد المسلحين من الجغرافيا السورية، لذا من الضروري تعليم أبناء الشهداء تلك اللغة»، بحسب وصفه.
ولم يقتصر الأمر على المدارس فقط، بل أصبح للمركز الثقافي الروسي الذي يتخذ من العاصمة دمشق مقره الرئيس ثقلاً في الساحل السوري، وذلك بإقامة دورات اللغة الروسية، وإحياء الفرق الموسيقية للرقص الشعبي حفلاته في طرطوس واللاذقية، وباتت الثقافة الروسية هي السائدة بين الشباب، من خلال الاستماع إلى الموسيقا الروسية وتداول العديد من مفردات اللغة، أملاً في الحصول على منحة للتعليم في إحدى المدن الروسية.
بدوره، يرى المدرس السابق في قسم علم الاجتماع بجامعة دمشق الدكتور «عزت الشويكي» في حديثه لموقع «الحل» أن «روسيا مازالت تملك نفس الفكر الشيوعي، الذي يمجد أبطال وشخصيات وترى في نشرها سوريا نوعاً من أنواع الاستدامة داخل المجتمع السوري، لخلق حالة من الترابط الفكري والثقافي”، مشيراً إلى أن “التدخل العسكري الروسي أيده فئة من السوريين وخصوصاً في الساحل، مقابل الآلاف ممن قتلوا وقصفوا بفعل هذا التدخل».

سيطرة اقتصادية
ومنذ بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا عام 2015، عملت روسيا على جعل منطقة الساحل السوري مركزاً لنشاطها الاقتصادي، من خلال فتح الطريق أمام الشركات الروسية للاستثمار في المنطقة، إضافة إلى توقيع عقود طويلة الأجل مع حكومة النظام، بما يضمن وجودها الدائم عسكرياً واقتصادياً.
وفي مراجعة لموقع «الحل» عن أبرز تلك الاتفاقيات مع حكومة النظام، كان عقد «عمريت» الذي يتيح لشركة «سبوز» الروسية الحق في التنقيب عن النفط والغاز جنوب مدينة طرطوس لمدة 25 عاماً على مساحاً تقدر بـ2200 كم مربع، إضافة إلى عدد من المشاريع المتخصصة في التطوير العقاري والسياحي وبناء السدود وشبكات المواصلات وجميعها في الساحل السوري.
في حين، أشار «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى» في تقرير له العام الماضي، إلى أن «شركات الطاقة الروسية تتطلع إلى تجديد استثماراتها في قطاع الطاقة السوري وتوسيعها»، مضيفاً أن «تأمل شركات الطاقة الروسية في التحكم بجزء كبير من خطوط الأنابيب ومنشآت التسييل والمصافي والموانئ، وبالتالي الاستفادة من موقع سوريا كنقطة عبور لنفط وغاز المنطقة المتجهين نحو أوروبا.

وبذلك يبدو أن روسيا لن تنجح في توسيع نطاق هيمنتها شرق البحر المتوسط فحسب، بل «ستتمكن من تشديد قبضتها على إمدادات الغاز الأوروبية»، وفق تقرير المعهد.

كل هذا يؤكد أن روسيا حين قررت التدخّل، وضعت نصب عينيها أهدافاً إستراتيجية كانت بمثابة المحرّك لشكل تدخّلها، وبالتالي أحد عوامل «نجاحها النسبي» في تحقيق جزء من تلك الأهداف التي أقل ما يقال عنها إنها كانت «آنية» وهذا يأخذنا للاستنتاج المنطقي الذي يتفق عليه معظم المحللون في الشأن السوري، وهو أنها أولاً اعتمدت في هذه الرؤية والخطة الروسية على مقومات هشّة غير قابلة للصمود، وثانياً أنها وسعت من حجم التحدي المواجه لها من الولايات المتحدة وأوروبا مجتمعة مما يعني أن قواعد اللعبة قابلة للتغيير في أيّة لحظة، وثالثاً زيادة حجم التناقض في مسار آستانا وهذا ما بدا واضحاً في اللقاء الأخير بين دول الاتفاق وخاصة حول إدلب ومناطق خفض التصعيد، رابعاً وأخيراً أن إصرار روسيا في الاستمرار بهذه السياسة رغم معرفتها بحجم المستنقع السوري، يزيد من صعوبة الخروج منه، بالتوازي مع صعود حدة المواجهة الإقليمية سواءً مع التمدّد الإيراني في مختلف المحافظات السورية، أو مع التهديدات الإسرائيلية المستمرّة واستهدافاتها مراكز ونقاط داخل العمق السوري.

إعداد: حسام صالح – تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.