«تم تجريم الزواج بالإجبار  منذ 60 عاماً، وذلك في قانون الأحوال الشخصية لعام 1959، وحدّدت المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العراقي العقوبة بـالسجن /3/ سنوات على الأقارب من الدرجة الأولى الذين يُجبرون الفتيات على الزواج القسري، والسجن لـ 10 أعوام للأقارب من الدرجة الثانية».

—————————————————-

بغداد – علي الكرملي

لم تكن “سارة” تعلم أن حياتها ستنقلب رأساً على عقب من الدلال إلى المأساة في لمحة بصر. “سارة” التي كانت تعيش في جو عائلي يملأه الحُب والحنان مذ صغرها حتى تلك اللحظة المفصلية في حياتها، لم تعُد تشعر بـأيادٍ تحضنها وتُلامسُ روحها المُنكسرة مذ زيجتها الإجبارية لابن عمها.

«كنتُ أعيش حياةً سعيدة، ولا يضاهيها أيُّما فتاة من قريباتي، كنتُ (المُدلَّلَةُ) عند أَبي وأُمّي، كانا يوفّران لي كل وسائل الراحة والسعادة»، تقول ابنة الـ 19 ربيعاً لـ «الحل العراق».

لم تستمر تلك السعادات طويلاً مع “سارة”، فسُرعان ما داهمَها نقيض السعادة قبيل أن تدخل ربيعها الـ 16، «انقلبَت الدُنيا رأساْ على عقب في ذلك الحين، واسوَدَّت بوجهي»، كان ذلك وقتَ رحيل والدها عن حياتها إثر حادث سَير.

صورة تعبيرية- أرشيف

«لم تمر أكثر من 6 شهور على وفاته حتى بدأَ عمّي يفكّرُ في زواجي لابنه بالتشاور مع أخي الوحيد الذي يكبرني بـ أعوامٍ ثلاثة»، تقول “سارة”، وتُضيف، «لم تنفع مُحاولات أُمِّي ومجابهاتها لمنع ارتباط مصير عُمري المتبقي بابن عمّي قسريّاً، كانت هي الوحيدة من تدافع عني، أخي كان رأيهُ مع رأي عمّي».

بعد عبور عام على رحيل والدها بشهرين ونصف تم عقد قرانها على ابن عمّها، تزوّجتهُ وهي لا تربطه حتى أحاديث عابرة في سنيِّها التي مضَت، «تزوَّجتُهُ غَصباً عن إرادتي، ومضيتُ معه الأشهر الأولى بروتين ممل وكئيب، أُنفّذُ كل ما يطلبه، لكن لا أستطيع تقبُّله كزوج في حياتي».

تلك كانت مشكلة زوجها الرئيسة معها، فبالرغم من تنفيذها كل متطلباته، إلاّ أنه كان يشعر بذلك الجفاء المكنون له من طرفها، «صار يغضب كل يوم أكثر من سابقه مني، حتى وصلَ بهِ الحال إلى ضربي في مرات عديدَة، وايذائي جسدياً ونفسياً قبل ذلك»، تضيف “سارة”.

«في كل مرة يضربني كنت اضطر للهرب إلى بيت أُمّي، لكن أخي وعمي يُعيداني كعادتهما عند كل خلاف حاصل، فكَّرتُ في الطلاق، ولكنَّهما (أخي وعمّي) هدَّداني بمصير سيئ لي إن فعلتُها، التزمتُ البيت، وها أنا ذا أعيش حياتي دون إرادتي، ولا أدري ماذا سأفعل بمصيري مستقبلاً إن استمرَّ الحال على ذات المنوال»، تختتم “سارة” حديثها.

يُعَدُّ #زواج_الأقارب القسري للفتيات من الحالات الأكثر انتشاراً في #العراق، بخاصَّة في المحافظات الجنوبية والغربيَّة من البلاد، وذلك يعتمد بشكل أساس على #العادات و#الأعراف المجتمعية السائدة في تلك الرُقَع الجغرافيَّة التي تحجزُ بناتها إلى أبناء عمومتهن وأبناء خوالهن.

الباحثة الاجتماعية “حنان الجنابي”- أرشيفية

«إن أسباب زواج الأقارب بالإكراه متعدِّدة، لعلَّ أبرزها أنها تعود نتيجة للأعراف والتقاليد الاجتماعية و(العشائرية) السائدة في #المجتمعات_الشرقية منذ أمد بعيد»، تقول الباحثة الاجتماعية “حنان الجنابي” لـ «الحل العراق».

وتُضيف الجنابي، «حالات الزواج تلك، تتسبَّب في الكثير من المشكلات في مستقبل علاقتهما، فكثير منها تنتهي بالطلاق، وأُخرى تتسبَّب بانهيارات وتوتُّرات بين عوائل الطرفَيْن، فضلاً عن تأثيرها السلبي على أطفالهما، فتسبَّبُ لهم مشاكل لا تُحمد عقباها قد تتطوَّر لتُحدِثَ لهم مشاكل وعقد نفسيَّة ترافقهم دون حلول يسيرَة».

تلك الظاهرة المنتشرة حتى هذا اليوم، تعود إلى وقت بعيد، ولم تكن هناك أيَّة حلول جذريَّة لعلاجها أو التقليل منها، كان قد طُبِّقَ #القانون_العراقي الذي يُجرِّمُ ذلك الزواج القسري فترة الثمانينيات وكانت نتائجها ملحوظة في التقليل منها.

ذلك التطبيق لم يستمر أكثر من أعوامٍ ثلاث نتيجة انخراط العراق في الحرب مع #ايران، ما جعل الحكومة توفر كل إمكاناتها لأجل الحرب وتهمل كل المجالات الحياتية والمجتمعية الأُخرى في المُقابل، لينكمش القانون وتُمسي الزواجات بعيداً عنه أكثر بضعفين من الزواجات التي تحدث عن طريقه.

«الزواج بالإجبار تم تجريمه منذ 60 عاماً، وذلك في قانون الأحوال الشخصية لعام 1959»، يقول القانوني “ليث عبد الرضا” ويُضيف، «لقد حدّدت المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية العقوبة بـالسجن /3/ سنوات على الأقارب من الدرجة الأولى الذين يُجبرون الفتيات على الزواج القسري، والسجن لـ 10 أعوام للأقارب من الدرجة الثانية».

“عبد الرضا” يبيِّنُ لـ «الحل العراق»، «أن سطوة القانون لم تكن صارمة بحق ما يحدث من زيجات إجبارية، بل صارت سطوة رجال الدين أكثر بعد أن عقدت  الزواج خارج #المحاكم، لفتيات بأعمار  12 و 13، بينما القانون لا يفعل شيئاً، في وقتٍ نصَّت المادة العاشرة من الفقرة الخامسة في ذات قانون الأحوال على السجن مدة 6 شهور لكل من يعقد الزواج خارج المحاكم».

القانوني “ليث عبد الرضا”- أرشيفية

«لكن جريمة الزواج خارج المحاكم التي يعقدها #رجال_الدين، تعد من أكثر #الجرائم انتشاراً في العراق، وذلك نتيجة تساهل المحاكم و#القضاء معها وعدم محاسبة رجال الدين، فأَمسَت نتائجها كارثية، بخاصة الزيجات التي تحدث قسرياً لفتيات قاصرات، ولذلك يجب على القضاء على أقل تقدير تنظيم عمل رجالات الدين أو ربطهم بجهة ما من أجل تقنين تلك الظاهرة»، القانوني “عبد الرضا” يوضّح.

ما قاله “عبد الرضا” ينطبق على حالة “سجى” بشأن #القاصرات وتزويجهن قسرياً، فالأخيرة تم تزويجها لابن عمتها وهي لم تبلغ سن الـ 13 وقتها، «كانَت زواجي به فوق إرادتي، فقط لأنه ذو مال وفير، فرَّط والدي بكل طموحاتي وحياتي التي كنتُ أودُّ عيشها وفق طريقتي الخاصَّة لا طريقة هم يرسمونها لي»، تقول ابنة  17 ربيعاً.

«لم تكن هناك ايُّما أحاسيس أو عاطفة مني تجاهه، بل حتى أني تزوَّجتُ ولا أعرفُ ما معنى (زَواج) كوني ما زلتُ صغيرةَ العُمر، واجهتُ معه صعوبات وضغوطات حياتية رهيبة نتيجة اختلاف طريقة تفكيرنا، استمر الحال بيننا في توتر دائم، حتى تم الطلاق»، تُضيف “سجى”.

«لم تعد عائلتي ترحِّبُ بي وتحتضنُني أو تهتم بي كما السابق، إذ صرتُ وصمَةَ عار بالنسبة لهم، فقط لأنني تطلَّقت»، “سجى” انفصلت عن زوجها ولديها طفلان (صبي وبنت)، ولم تستطع حيازة حضانة طفلها الذي أبقاه طليقها لديه مع السماح لها بحضانة طفلتها فقط.

«ذلك أكثر ضرر حدث (ويحدثُ) معي، فطوال الوقت أُفكّرُ بطفلي، كيف سيكبُرُ بعيداً عني، كما وكيف سيعيش دون أُختِه، وأُختُهُ كذلك، لا يسمح لي برؤيته إلاَّ بشَقِّ الأَنفُس، والتفكير بمستقبله المجهول أكثرَ ما يُؤذيني، كيف سينظُرُ لي عندما يكبر، دائماً هذا التفكير يراودني،  هل سيتقبّٖلُني أُم سيرفضني»، تُنهي “سجى” حديثها مع «الحل العراق» بالدموع والتساؤُلات التي لا تجدُ لَها جواباً.

بعد 2003 ازدادَ انتشار منظمات المجتمع المدني المعنية بحقوق الإنسان، وإدارة تلك #المنظمات من كلا الجنسين، وثمة منظمات معنية بحقوق النساء، الأثر الأكبر لانتشار تلك المنظمات بصورة واضحة كانت فترة (#داعش) التي حتَّمَت إنشاء هكذا منظمات من أجل التوعية المجتمعية وكذا المطالبة بحقوق المتعرضين للنزوح و#العنف والسبي.

الناشطة النسوية “بُشرى العبيدي”- أرشيفية

«إن منظمات #المجتمع_المدني تسعى جاهدةً لكبح العنف المتجندر بحق النساء، سواء كان #الزواج_الإجباري لهن أو غيرها من حالات العنف المختلفة، فقد نظّمنا العديد من الورش والمؤتمرات والندوات والمنتديات للتوعية بمخاطر زواج الأقارب الاجتماعية والثقافية والنفسية وحتى الصحيَّة، وما زلنا مستمرين في تلك التوعية»، الناشطة النسوية “بُشرى العبيدي” تقول لـ «الحل العراق».

«نحن نكرس كل جهودنا للضغط على الحكومة في سبيل معاقبة كل من يجبر الفتيات على الزواج وزجه في السجن، وقد ضَمَّنّا تلك الفقرات في مقترح قانون مناهضة العنف الأُسَري الذي قدَّمناه للبرلمان، من أجل الحد من تلك الحالات، وطالبنا علانيَّة بتعديل المادة التاسعة من قانون الأحوال الشخصية بحيث يسمح بمعاقبة المُجبر للمرأة على الزواج دون أن يتم انتظارها لتقديم شكواها، فهي لا تستطيع فعل ذلك، إِن فعلَت ستُقتَل وتُعَذَّب»، تبيّن “العُبَيدي”.

«لا توجد إحصاءات بشأن نسبة زواج الأقارب في العراق، لأن أغلب تلك الزيجات تحصل خارج المحاكم، وبالتالي لا يمكن معرفة رقم تقريبي لها، إذ أن المحاكم تعتمد فقط الزيجات التي تتم عبرها، وفي المحاكم لا يُعقَد أي زواج إجباري، على الأقل ظاهرياً أمام المحاكم هكذا تتفق العوائل فيما بينها»، تُضيف عضو شبكة (صوتها) للمدافعات عن #حقوق_الإنسان.

لافتةً، «لكن كنسبة تقديرية مُقاربة قد تناهز  45 ٪، والأكيد أنها مستمرَّة بل وتتزايد في حدَّة انتشارها في المجتمع، نتيجة الظروف الاقتصادية التي جعلَت من الزواج أن لا يتم إلا بأموال هائلة، لذلك تلجئ العوائل إلى زواج الأقارب تسهيلاً للأُمور الماليَّة».


الصورة الرئيسة أرشيفية

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.