ريف دمشق (الحل) – تنتشر ظاهرة زواج القاصرات في المجتمع السوري منذ عقود، إلّا أنّ نسبتها ارتفعت نتيجة ظروف الحرب التي تعيشها البلاد منذ ثمان سنوات، وتأثيرها على الأوضاع الأمنية والمعيشية والاجتماعية بشكلٍ كبير، وعدم وجود قوانين قضائية تحظرها، أو ضوابط اجتماعية تحد منها.
وتعتبر منطقة #ريف_دمشق واحدة من أكثر المناطق التي تنتشر فيها هذه الظاهرة، وتدفع فيها الفتيات القاصرات ثمن تمسك المجتمع بعادات قديمة تتعلق بقضايا اجتماعية عدة ومنها الزواج.

أسباب ومبررات
الباحثة الاجتماعية سلام خولاني قالت “للحل”: “ترتفع نسبة زواج القاصرات في الأرياف عن غيرها من المناطق، وذلك لعدة أسباب، أهمها عدم الاهتمام بتعليم الفتيات، ولوجود قناعات اجتماعية أنّ الفتاة تحصل على فرص أفضل للزواج كلما كانت أصغر في السن، إضافةً لذلك فإنّ هناك نظرة دينية سائدة في المجتمع تقول بضرورة تسهيل الزواج، وعدم الوقوف بوجه نصيب الفتاة، معتمدين على نصوص دينية غير مفسرة”، كما أنّ الخوف من تقدم الفتاة في السن دون زواج، أصبح هاجساً لكثير من الأسر، خصوصاً مع انخفاض نسبة الذكور في البلاد بسبب ظروف الحرب الأخيرة وهروبهم من الملاحقات الأمنية التي تنفذها قوات النظام بغية التجنيد الإجباري.

وتابعت الباحثة الاجتماعية “هناك أسباب مادية أيضاً، فبعض الأهالي يفضلون تزويج ابنتهم الصغيرة لشخص ميسور الحال، أو لصاحب تحصيل علمي عالي، أو من الممكن تزويجها لشخص من جنسيات معينة معروفة بالاقتدار المادي، أملاً بأن يكون هذا الزواج “طاقة الفرج” لهم، وفق تعبيرها.
واشارت الخولاني إلى أن بعض الشبان وعائلاتهم يستغلون عدم نضج الفتاة القاصر، حيث يستطيعون استملاتها ببعض الممغريات البسيطة، وإتمام الزواج من دون متطلبات كثيرة كالاستقلال في السكن.
جريمة باسم الدين!
تتعالى الأصوات التي تنتقد النشاطات والفعاليات التي تناهض زواج القاصرات، وتُعلل موقفها بأن لهذا الزواج “أصول في الدين” وأنّه لا يجب على أحد الوقوف أمام “النصيب” الذي يتحكم بحياة الجميع، إلّا أنّ الأستاذ وليد الرفاعي (خريج كلية الشريعة في دمشق) قال “للحل”: “الناس يؤولون الدين حسب أهوائهم أو حسب ما يمليه عليهم بعض المحسوبين على العلم، فالزواج قرار يجب أن يتخذه أنسا ناضجون، ولا يجب إطلاقاً أن تكون الفتيات الصغيرات ضحية لجهل ذويهم أو طمع البعض بالحصول عليهنّ، وأن يواجهوا مصيراً سيئاً فقط لأنّ المجتمع يقر بالخطأ ويدافع عنه”.

أَضرار صحية ومشاكل نفسية
يتسبب زواج القاصرات بأمراض جسدية وأزمات نفسية كثيرة للفتيات، خصوصاً أنّ معظم المقبلين على الزواج في منطقة ريف دمشق لا يقومون بإجراء التحاليل المخبرية المطلوبة منهم قبل الإقدام على الزواج، ولا تتم مراعاة عدم نضوج جسد الفتاة واكتمال نموها قبل الزواج، ما قد يتسبب بأمراض وأزمات صحية نتيجة العلاقة الزوجية وأثناء الحمل وخلال الولادة وبعدها، وهذا ما يُعرّض الفتيات القاصرات لخطر كبير بسبب ضعف بنيتهنّ الجسدية وعدم قدرتهنّ على تحمل مثل هذه الأمور.

طبيب النسائية عبادة السوقي تحدث “للحل” عن المشاكل الصحية التي تنتج عن زواج القاصرات وقال: “تتثمل مخاطر هذه الظاهرة بأضرار على الفتيات أهمها، نقص الوزن بعد الولادة بشكل ملحوظ، سوء التغذية، تأخر النمو البدني عن أقرانهن، كما تسهل إصابتهنّ بالأمراض والالتهابات التناسلية، الأمر الذي قد يتطور لأمراض خطيرة مثل نقص المناعة المكتسبة مع مرور الوقت”.

وأضاف السوقي “مع انعدام التهيئة النفسية الصحيحة فإنّ الفتيات عرضة للأمراض النفسية أيضاً، بسبب عدم استيعابهنّ لفكرة الزواج وتحمّل مسؤوليات كبيرة لم تكن موجودة في حياتهنّ، ومع مواجهتهنّ لمشاكل أسرية قد يتعرضنّ لاضطرابات نفسية، مثل اضطراب ثنائي القطب واضطراب الاكتئاب والوسواس القهري وفصام الشخصية، وغيرها من الأمراض النفسية، ناهيك عن افتقادهنّ لمرحلة الطفولة التي حُرموا منها بسبب إجبارهنّ على الزواج بسن صغيرة، وما يترتب عليها من مشاكل تُضعف الشخصية وتقلل من نسبة الاعتماد على الذات”.

قوانين هشّة وشيوخ متورطين

على الرغم من تعديل قانون الأحوال الشخصية في سوريا مؤخراً، إلّا أنّه لم يحفظ حقوق الفتيات اللواتي يقعنّ ضحيةً للزواج الإجباري بسن مبكرة، إذ شهد القانون السوري رفع السن الأدنى للزواج لـ 18 عام، إلّا أنّه أقر في الوقت نفسه بحق القاضي بتزويج من بلغن 15 عام في حال تقديره بلوغهن و”نضوجهم الفكري”، ما يشكل ثغرةً واضحة تُسهل عملية الالتفاف على القانون، لا سيما وأنّ الفساد يسيطر على القضاء السوري.

وبحسب المجاز القانوني عمار القدسي فإنّ عمليات تزوير عقود الزواج كثيرة في المحاكم السورية، وتعتمد على دفع رشاوى، يتقاسمها موظفو المحكمة مقابل التغاضي عن النقاط التشريعية الموجودة في نص قانون الأحوال الشخصية والمتعلقة بتقدير النضوج المذكور.

وتابع القدسي “قسم كبير من الأهالي لا يعتمد على عقود المحاكم في الزواج، ويُتم عقد الزواج عبر ما يُعرف بـ “كتاب الشيخ”، إذ يقوم أحد رجال الدين بعقد القران بعد أخذ التوكيل من ذوي الفتاة، دون تقدير العمر والحالة الجسدية، أو حتى سماع موافقتها الفعلية على الزواج.

عواقب وخيمة
تترتب على زواج القاصرات أزمات كبيرة ومشاكل تضر بالمجتمع وتزيد من حالة تفككه، وأبرز هذه المشاكل هي ارتفاع نسبة الطلاق، فمن الصعب الحصول على التفاهم المطلوب بين الزوجين في حال كانت الزوجة طفلة لا تملك الإدراك الكافي لاستيعاب الزواج ومتطلباته، إضافة إلى أنه غالباً لا يكون الزواج قرارها واختيارها، وبحسب إحصائية نشرتها وزارة العدل التابعة لحكومة النظام فإنّ نسبة الطلاق وصلت في عام 2017 لـ 31%، وهو مؤشر خطير على المجتمع الذي بات يواجه ظروفاً صعبة وظواهر سلبية خلال السنوات الأخيرة.

تزوجته وكأنّه أبي!
تروي ربا الحموي (دمشقية تزوجت بعمر 15) قصتها “للحل” وتقول: “تزوجت بإرادة أهلي وأنا طفلة، كنت لا زلت ألعب مع صديقاتي وأنتظر برامج الأطفال بشغف كبير لمتابعتها، ودخلت الحياة الزوجية مع رجل يكبرني بـ18 عام وسافرت معه إلى ألمانيا، لم أكن أعرف شيء عن الزواج وفوجئت بعدم مراعاة زوجي لصغر سني، ودخلت في حالة من الصدمة لسنوات، لم أكن أرفض شيء، ولم يكن لي قرار في أي شيء، حتى في أبسط الأمور كتحديد الطبخ مثلاً، أنجبت ثلاثة أطفال وبدأت بتربيتهم، لكنّ لم أكن أشعر بإحساس الأمومة تجاههم مثل باقي الأمهات، بل كانت تربيتي لهم وتعاملي معهم على أنّهم أصدقاء لي، وأصبحت أعوض شيئاً من طفولتي من خلال اللعب معهم بألعابهم، وقضاء معظم وقتي معهم، خصوصاً وأنّ زوجي يعمل بدوام طويل ولا يعود حتى ساعة متأخرة من الليل”.

وتابعت الحموي “بقيت حياتي على هذا الحال لسنوات، قبل أن أقرر التمرد على واقعي، وبدأت أناقش الأوامر، وأسأل عن الطلبات، وأصبحت أكوّن شخصيتي شيئاً فشيئاً، لكنّ ذلك لم يعجب زوجي، لندخل قبل أكثر من ست سنوات بحالة من البرود لازالت مستمرة حتى الآن، وأصبح التعامل مع زوجي كأنّه أبي، فلم يبقَ في حياتي من الزواج سوى اسمه، و أولادي الذين يُجبرونني على الاستمرار بحياة بدأت بقرار غير مصيري مع إني لم أتخذه”، حسب تعبيرها.

حلول وإجراءات
تعتبر الباحثة الاجتماعية سلام خولاني أنّ التوعية الاجتماعية من أهم ركائز التغلب على ظاهرة زواج القاصرات، وترى أنّه من الضروري إقامة ندوات ودورات ثقافية وعلمية ودينية توضح للناس مخاطر هذه الظاهرة على بناتهم وعلى المجتمع، إلّا أنّها اعتبرت أنّ دور السلطات هو الأساس في محاربة زواج القاصرات من خلال تشديد القوانين الخاصة بالزواج ومراقبة المحاكم، ووضع قيود فعلية على “الشيوخ” الذين يقومون بعقد القران التقليدي (كتاب الشيخ) دون الاكتراث بالشروط اللازمة لإتمام الزواج الصحيح.

ووفق دراسة نشرها المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية في آب 2017، فإن نسبة زواج القاصرات في سوريا تجاوزت الـ 30 في المئة عام 2015، بينما كانت النسبة قبل الحرب تصل إلى حوالي 7 في المئة، الأمر الذي ينذر بكارثة اجتماعية في حال لم تتم مكافحة هذه الظاهرة بالقانون أولاً وبوسائل التوعية الاجتماعية ثانياً.

إعداد: سليمان مطر – تحرير: رجا سليم

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.