(الحل) – يقترب الثاني والعشرين من أيار، الموعد المخيف لكثير من الشباب السوريين الذين هم قد بلغوا الثامنة عشرة فما فوق، فهو اليوم المخصص لرفع قوائم «التخلّف» لتعمّم لاحقاً في الأول من حزيران على كل حواجز التفتيش والنقاط الحدودية، ويُصبح بعدها الشاب مطلوباً لكل الجهات الأمنية والعسكرية، ليُحضر «موجوداً»، و«يُساق» بعدها إلى مصيره المحتوم في «خدمة الوطن» الإلزامية، في صفوف جيش النظام.

وصارت مسألة «العسكرية» شبحاً يلاحق كل الشباب السوريين، وكابوساً يقتحم منازلهم، إذ لا يقف الأمر عند المطلوب للخدمة أو المتخلّف عنها، بل يتعدّاه إلى عوائلهم وأسرهم وأصدقائهم ليصبح «همّا جمعياً» يغزو العائلة السورية بأسرها.

 

السبب الأول للهجرة

التقى موقع «الحل» في دمشق بمسؤول في منظمة الأمم المتحدة المتخصصة بالبرامج الإنمائية، والذي تحدّث أنه أثناء جولاته في أوروبا وألمانيا على وجه التحديد، وسؤاله الشباب الموجودين في المخيمات عن ترك بلدهم، فكانت الإجابات الأكثر شيوعاً تنحصر في احتمالين اثنين «مطلوب لجهة أمنية أو مطلوب للخدمة العسكرية»، ويؤكد الموظف المسؤول «أرجّح أن الهروب من القتال والخدمة الإلزامية يشكل الشريحة الأكبر».

وأكّد المسؤول الشاب أن عوامل أخرى متعلقة بوضع البلاد «سياسياً واجتماعياً وأمنيا وعدم توفر مسكن وغذاء وغيرها من العوامل أثرت أيضاً على قرارات الهجرة، لكن بالنسبة للشباب الأمر مختلف قليلاً».

ولم يلاحق هذا الهاجس الشباب الهاربين خارج البلاد فحسب، بل دخل لكل منزل يضم شاباً بين الثامنة عشر والأربعين عاماً في مناطق سيطرة الحكومة السوريةة، إذ يبقى شبح الاحتياط أيضاً مخيّما حتى على أولئك الشباب المؤدين للخدمة الإلزامية قبل سنوات.

 

“رسّبت حالي”!

يبقى التأجيل الدراسي الوسيلة الأكثر شيوعاً لتهرّب الشباب من الخدمة الإلزامية، رغم كل محاولات وزارة الدفاع فرض قوانين صارمة للطلاب، تحرمهم من التأجيل المتكرر، وتمنعهم من التأجيل الإداري، بما في ذلك تخفيض تأجيل السفر من سنة إلى أربع أشهر فقط، وفرض موافقة سفر لكل شاب يريد مغادرة البلاد، وغيرها من الطرق التي طوّقت الشباب بشكل كامل.

ويسعى الشباب إلى البقاء أطول وقت ممكن في الجامعة، فيقوم طالب السنة الأولى بعدم التقدم إلى عدد من المواد من أجل الرسوب العمدي، وينسحب الحال على باقي طلاب السنوات الجامعية، وبات مصطلح «رسبت حالي بمادتين» من أكثر المصطلحات شيوعاً بين الشباب.

ويجهد طلاب السنة الرابعة للتقدم إلى درجة الماجستير من أجل الحصول على سنوات إضافية، وفي حال فشلوا بذلك لجؤوا إلى الدبلوم، وفي حال تعثّر الأمر، طرقوا أبواب التعليم المفتوح او الموازي أو الجامعات الخاصة التي قد تمنح بعضها درجات الماجستير بمبالغ مالية طائلة، لكنها توفر تأجيلاً دراسياً جديداً أقل كلفة مما لو حاول الطالب أن يختار حلولاً أخرى.

وفضل الكثيرون أن «يهربوا بجلدهم» خارج سوريا، أو آخرين سافروا إلى بلداتهم النائية والبعيدة عن دوريات الشرطة العسكرية، فهناك عشرات آلاف المتخلفين في السويداء والسلمية والحسكة وريف دير الزور وكل المناطق التي لا تتواجد فيها الأجهزة الأمنية بطاقتها الكلية.

 

الإعفاء الصحي

يبقى الشباب يبحثون عن ثغرات في القانون كي يفلتوا من خدمة العلم، ولعل الإعفاء الصحي هو إحداها، من خلال الوصول إلى اللجنة الطبية المخولة بإجراء الفحوصات، وتقديم رشوة مالية كبيرة لرئيس اللجنة أو لكامل أعضائها، أو من خلال افتعال مرض ما في الجسد من أجل أن يتم الإعفاء عليه.

وقد وصل الأمر بالبعض بإجراء عمليات جراحية كشق البطن أو الصدر وإعادة خياطته، للإيحاء بأن عملاً جراحياً قد تم، ثم تزوير تقرير طبي عن عملية قلب مفتوح أو عملية في العمود الفقري.

ومن الأمور التي لجأ إليها بعض الشباب هو ما قام به أحدهم من أكل كميات كبيرة من السكر قبل الفحص الطبي، لتظهر نتائج الفحص أنه مريض سكر، وعليه يمكن أن يتم إعفاؤه أو وضعه في مكان إدري وليس ميداني.

كما لجأ البعض إلى «تسمين» أنفسهم، أي جعل أوزانهم فوق الحد المطلوب للخدمة الإلزامية، فإذا بلغ وزناً يزيد عن 130 كغ، يُعفى صحياً، فيجهد الشاب على مدى عام من أكل الحلويات والنشويات لزيادة وزنه والحصول على ورقة الإعفاء.

ووصلت الأمور من الغرابة بأن قام أحدهم باستصدار شهادة وفاة لنفسه، وتصديقها من المختار، والسير وفق هوية أخيه أو أحد من أقاربائه، ويتم التناوب على هذه الهوية، فيما بات يعرف بـ «استئجار هوية».

كما بقي أمر السفر من أكثر الحالات انتشاراً، ثم العودة إلى سوريا «من خلال طرق التهريب» دون الحاجة أن يمر على النقاط الحدودية المصرّح بها، وغيرها من طرق وحالات الهروب من الخدمة الإلزامية.

 

الفساد المالي

«ما في شي ما بصير بالمصاري… إلا قصة العسكرية» هي مقولة يقولها أحد موظفي شعبة التجنيد لشاب يُراجعه ويطلب تأجيلاً إدارياً لمدة عام، لكن الواقع يقول غير ذلك، إذ أن المسألة فقط أن الخدمة الإلزامية تتطلب مبالغ أكثر من المعتاد، فيمكن أن يُعفى أي مطلوب للخدمة من العسكرية باستثناء من وزير الدفاع، يكن المبلغ يتراوح من أجل ذلك بين 20 و30 مليون ليرة سورية (حوالي 60 ألف دولار)، والمسألة غير مضمونة.

ويصل الابتزاز المادي لكل شعب التجنيد حتى وإن كانت كل الأوراق رسمية وصحيحة، فيقوم الموظفون بتأخير وصول الأوراق من أجل الضغط على الشباب والحصول على مبالغ معينة تتراوح من ألف إلى مئة ألف ليرة سورية.

 

عقوبة المتخلف

مع نهاية شهر أيار وبدء شهر حزيران، تعيد كل الحواجز ونقاط التفتيش انتشارها في مراكز المدن ومناطق الكراجات وتجمع الشباب، وتبدأ بعدها جولات الاعتقال لكل المتخلفين والهاربين، فيُساق المتخلفون بداية إلى مقر الشرطة العسكرية، ثم فرع الأمن العسكري من أجل التحقيق الذي يستمر حوالي عشرة أيام، يلقى خلالها الشاب المعتقل تعذيباً متوسطاً مثل الفلقة أو الضرب على الوجه أو على الظهر بالكرباج، ثم ينتقل إلى مركز التجمع المعتمد في المحافظة قبل أن يتم فرزه إلى إحدى النقاط العسكرية.

ولوحظ أن كل شباب المصالحات الذين يسوّون وضعهم ويتجهون إلى خدمة العلم بعد سنوات من التخلف، يتم زجهم على أخطر الجبهات، ونادراً ما يعود أحد منهم حياً، كما حصل مع شباب برزة في دمشق إذ تم زجهم لاحقاً في معارك الغوطة، وشباب الحجر الأسود الذين تم إرسالهم إلى معارك إدلب.

 

«تغيير ديمغرافي»

أدى سحب الشباب للمعارك إلى تفريغ الكثير من البلدات والقرى من الذكور، واقتصارها على «الجنس اللطيف» الذي باتت نسبته تفوق نظيره الذكر بدرجة كبيرة.

لا إحصاءات رسمية تتحدث عن نسبة الذكور والإناث حالياً في سوريا، لكن ارقاماً غير رسمية تشير إلى أن الإناث باتوا يشكلون أكثر من 65% من تركيبة المجتمع مقابل 35% من الذكور.

وكانت النسبة الرسمية في العام 2011 تتحدث عن نسبة تقريبية 50% ذكور مقابل 50% إناث، إلا أن الهجرة والسفر والموت والخدمة الإلزامية غيرت هذه الأرقام.

وأثرت الخدمة الإلزامية على نسب وأعمار الزواج، فارتفع متوسط سن الزواج من 22 سنة في العام 2011 إلى 30 سنة في العام 2018. وأكدت دراسة رسمية سورية أن أكثر من نصف مليون امرأة سورية تجاوزت الثلاثين ولم تتزوج بعد.

 

الكابوس

لا شيء يعكر مزاج الشباب السوري اليوم بقدر ما تفعله «خدمة الوطن»، ولا فكرة تستحوذ على أوقاتهم وأحاديثهم وأفكارهم أكثر من فكرة الذهاب إلى «العسكرية»، فبات هذا نبأ الذهاب إلى هناك أشبه بإعلان موت مبكر، أو شلل تام للحياة والفكر والعقل، واستنزاف مادي ومعنوي متواصل، وطريقة من طرق الابتزاز وسرقة الأموال من جيوب الأهالي والفقراء!

إعداد وتحرير: سامي صلاح

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.