الرئيس مات.. حقاً مات..  وهل الموت قادر على النيل من الرئيس شخصياً!
هو الخبر الذي لم يتوقع غالبية السوريين حدوثه في أي يوم من حياتهم خلال ثلاثة عقود قضوها في حكم الأسد الأب. لدرجة أنّ أكثرهم حمل داخله اعتقاد استحالة حدوث ذلك ومضت تبريراتهم الساخرة حدّ القول (إنّ الموت لا يجرؤ على الإقتراب من روح الرئيس) وإنّ (ملاك الموت معتقل لدى الأجهزة الأمنية في سوريا).
وإلا لماذا لم يمت حافظ الأسد وهو المصاب منذ سنوات طويلة بمرض السرطان، بينما يموت كل المصابين بذلك الداء الخبيث في وقت قياسي من زمن الإصابة.

تلك الحالة من عدم التصديق للنبأ لم تكن نتيجة نقص في الإيمان لديهم، بل كانت دليلاً على موت الأمل داخل أرواحهم المتعبة، بعدما أمضوا ثلاثين عاماً من حياتهم فاقدين الشعور بالقدرة على التغيير، خصوصاً أنهم شهدوا على المجازر المتلاحقة التي عاشتها سوريا في عصر الأسد الأب والتي لم تكن مجزرة حماة أولها ولا آخرها.

كل تلك الإحباطات في حياة السوريين جعلتهم مذهولين لحظة تلقيهم نبأ موت حافظ الأسد، وغير مدركين لما حدث وكيف حدث، مشككين حتى بالقدر وبقوانين الخلق التي تقضي بحتمية الموت، ظانين أنّ للإشاعة أجنحة تمكنها من غزو كلام الناس وحتى صوت المذيع الذي راح يبكي عبر التلفزيون ومحطات الراديو.

عاشت دمشق مساء ذلك اليوم حالة اختناق وشلل في حركة المرور لم تشهدها في السابق، فالمسيرات التي تم تسييرها من طلاب اتحاد الطلبة وأعضاء حزب البعث لتنادي بحياة (المخلّص) بشار الأسد، كانت كفيلة بقطع شريان الحركة على طريق أوتستراد المزة وساحة الأمويين وأحياء المالكي والمهاجرين.
من جهة ثانية كان لاستنفار جنود الحرس الجمهوري وقوى الأمن الذين تم استدعاؤهم على عجل للالتحاق بثكناتهم، الفضل الأكبر في إضفاء مشهد الإحساس بالخطر وبث الرعب في حركة الناس العائدين إلى بيوتهم في ذلك المساء.

كل ذلك أدى إلى شلل في حركة السير في قلب المدينة ومنافذ الطرق التي تؤدي إلى المناطق المترامية حول دمشق.
اضطر الآلاف من الناس إلى الانتقال سيراً على الأقدام للوصول إلى بيوتهم. لكن
رغم كل تلك الحركة المكتظة لم يكن هناك ضوضاء ناجمة عن أي نوع من الصخب البشري أو الكلام بين العامة، فلا أحد يجرؤ، وإن حدث ذلك، لن يلق جواباً عن السؤال الذي كان يجول في بال الكثيرين: ماذا يحدث؟

تابع الناس لساعات صوت الآيات القرآنية عبر التلفزيونات والراديو وبعد زمن خرج صوت عبد القادر قدورة الذي كان رئيساً لمجلس الشعب لسنوات طويلة من عهد حافظ الأسد، مبشراً السوريين بتعديل الدستور وتخفيض سن رئيس الجمهورية من الأربعين عاماً حتى أربعة وثلاثين عاماً”.
احتاج القرار لأقل من نصف ساعة حتى يعلن عنه بعد التصويت من قبل المجلس الذي استدعي على الفور: “بالإجماع”.
القيادة السياسية المتمثلة بحزب البعث رفضت فكرة موت الرئيس فأطلقت لقب القائد الخالد مساء ذلك اليوم. وسرعان ما ضمّنت ذلك في مناهج الدراسة لجميع المراحل الدراسية. وهاهي حتى الآن تصرّ على تخليد الرجل الذي قاد انقلاب عام 1970.

في صباح اليوم التالي من موت حافظ الأسد اكتست أبواب المحال التجارية وجدران المباني بملايين الأمتار المربعة من القماش الأسود. وأجبرت غالبية البيوت السورية على رفع الرايات السوداء، الأمر الذي وجد فيه تجار الأقمشة في سوريا “فرصة” مكنتهم من بيع ما تكدّس في مخازنهم عبر الزمن من القماش الأسود الفاخر والرديء، جنوا من ورائها أرباحا طائلة.
في ذلك اليوم منع السوريون لمدة أربعين يوماً من ممارسة أي طقس من الفرح حداداً (قسرياً). تلك الأيام الأربعين كانت أربعين (عدة) لعملية زنا سياسي، مكنت الإبن من الاستيلاء على السلطة بلباس (التطوير والتحديث). كان ثمن هذه العملية إعادة تقاسم للحصص في إدارة الفساد من قبل شهود الزور بين ما سمي بالحرس القديم والحرس الجديد، ما أدى إلى ازدياد حدة الفقر والبطالة والقضاء على الطبقة الوسطى، والإمعان في القمع والتنكيل ومصادرة الحريات وامتهان الكرامة.
كل ذلك كان كافياً لشرارة تشعل الثورة.

سالم ناصيف

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.