القامشلي (الحل) – بانتهاء المعارك ضد “داعش” في الباغوز، عاد الحديث عن إقامة منطقة أمنة شرق الفرات إلى التداول الإعلامي مجدداً. وإذ لم تتضح بعد ما ستؤول إليه التجاذبات الأمريكية والتركية حول شكل هذه المنطقة، يكاد الترقب يكون سيد الموقف بالنسبة لمكونات المنطقة، بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية.
قبل ذلك كانت الإدارة الأمريكية قد تعهدت بداية العام الجاري، بحماية “المسيحيين و الكرد” في شرق الفرات. لكن لا يبدو أن جميع “المسيحيين” يأخذون الوعد الأمريكي على محمل الجد، ذلك أنهم يتوزعون في ولاءاتهم على جهات سياسية مختلفة، بدءً من النظام السوري مروراً بمعارضيه، وصولاً إلى الإدارة الذاتية، وبالتالي قد يكون هناك تنوع واختلاف في مواقفهم وهواجسهم تجاه هذا المشروع.

ضمن ذات السياق جاء آخر تعليق أمريكي حول المنطقة الأمنة مؤخراً على لسان المبعوث الأمريكي إلى سوريا جميس جيفري الذي أوضح، أن أبعاد المنطقة الأمنة “لم يتم تحديدها بعد” مضيفاً أن “قوات محلية ستشرف عليها، كما ستملك تركيا فيها نقاط مراقبة، وستملك أمريكا أيضاً كلمة فيها”.

كيف ترى الأحزاب “المسيحية” المنطقة الأمنة؟
يقول المعارض الأشوري البارز كبريئل موشيه (مسؤول مكتب العلاقات الخارجية في المنظمة الآثورية الديمقراطية) وعضو اللجنة الدستورية عن المعارضة السورية، إن “تراجع الإدارة الأمريكية عن قرارها بالانسحاب الكامل، وتحويله إلى نوع من إعادة تموضع لقواتها، وربطه بإقامة منطقة أمنة”. يخدم بالدرجة الأولى مصالحها وأجندتها المعلنة في منع عودة داعش، والحدّ من التمدّد الإيراني، والإسهام في رسم معالم الحلّ السياسي في سوريا. وهذا المشروع وفق رأيه يتقاطع مع مصالح أبناء المنطقة حيث “يعتبر أنّ هناك ضرورة للحفاظ على الاستقرار في المنطقة، ومنع الاجتياحات التركية أو غيرها عسكرياً”.

موقف موشيه (المعتقل سابقاً في سجون النظام) المتمايز عن موقف الائتلاف السوري المعارض الذي يعمل ضمن إطاره، نجده يتلاقى مع ما يدعو إليه حزب الاتحاد السرياني (أحد مؤسسي الإدارة الذاتية) حول المنطقة الأمنة، لجهة أن من شأنه “تأمين أمن واستقرار مناطق شرق الفرات، مع تفادي وقوع أي حرب مع تركيا”، وفق ما يوضح سنحاريب برصوم (الرئيس المشترك لحزب الاتحاد السرياني).
و يتفق برصوم مع موشيه أيضا على ضرورة أن تكون المنطقة الأمنة تحت “إشراف دولي”، إلا أنهما يختلفان لجهة أن برصوم يعارض وجود أي دور تركي فيها، لكون ذلك سيؤدي “كنتيجة حتمية إلى تهجير المسيحيين وإفراغ المنطقة منهم”، بحسب رأيه، بينما يجد كبرئيل موشي أنه “لابد من مراعاة هواجس وحساسيات الجار التركي بما يحافظ على أمنه واستقراره”، مشدداً على “أهمية أن لا يشكل أي طرف من المنطقة منصّة لتهديد الأمن الإقليمي أو القومي لدول الجوار”.

عدا ذلك فإن موشيه يجد أن وجود القوات الأمريكية حالياً (رغم كونهم في المنظمة الأثورية يعتبرون جميع أشكال الوجود الأجنبي نوعاً من الاحتلال) لكن في ظل الوضع القائم، وفي ظلّ التدخّل الدولي والإقليمي المكثّف في الشأن السوري، يعتبر “عامل توازن” على الصعيد العسكري، لمنع اجتياح المنطقة من قوى أخرى، كما ويشكل “عامل توازن سياسي_ لما لأمريكا من مكانة_ باتجاه اجتراح حل سياسي ترعاه الأمم المتحدة وفق القرار 2254 وبشكل يلبّي تطلعات الشعب السوري ويحقّق الانتقال إلى نظام ديمقراطي علماني يقوم على أسس العدالة والمساواة والشراكة الوطنية الحقيقية”. وفق رأيه. وهو يرى: “أنّ المنطقة الآمنة لا يمكن أن تنجح دون حصول تفاهمات بين الجانبين الأمريكي والتركي تأخذ بعين الاعتبار مصالح أبناء المنطقة وحاجتهم إلى الأمن والاستقرار”.

كذلك يرى الناشط الحقوقي والمدني حسام القس أن المنطقة الآمنة هي أفضل حل لمنطقة شمال سوريا وشرقها بشكل كامل، بشرط أن تكون تحت “رعاية أممية دولية” إلى أن يتم التوافق على حل سياسي “يضمن انتقالاً حقيقياً وفعلياً للسلطة و يفضي إلى كتابة دستور جديداً للبلاد”.

ماذا عن موقف المؤسسة الكنسية؟
يتحدث شمعون توماس (الرئيس السابق للمجلس الملي التابع للكنيسة السريانية الأرثوذكسية) عن مدى حضور المؤسسة الكنسية في الحياة العامة للمسيحيين مؤكداً أن جزءً كبيراً من الشارع المسيحي “يتراوح ما بين 60 إلى 70 %” يستمعون إلى صوت الكنيسة، وهناك ما يميزهم عن الشريحة التابعة للأحزاب السريانية (الأشورية/الكلدانية) وهو أنهم يرون أهمية لموقف “الدولة السورية” بخصوص المنطقة الأمنة، ويضعونه بعين الاعتبار، كما ويضيف “إن حدث أي توافق على إقامة المنطقة الأمنة، دون أن يكون هناك وجود للدولة السورية، فإن ذلك سيشعرنا بوجود مؤامرة، و سيزيد من مخاوفنا”، وفق تعبيره.

لكن في مقابل توماس يمتلك سنحاريب برصوم رأياً مخالفاً حول جزئية محددة وهي أن “هناك فئة من السريان (الأشوريين /الكلدان) قد تكون مرتبطة و تؤيد النظام السوري”، لكنه يؤكد أن “الفئة الصامتة” التي تنتظر ما ستؤول إليها الأحداث، “هي التي تشكل الغالبية”، وفق رأيه.
قبل توماس وبرصوم كان رجال دين من 3 كنائس مسيحية في القامشلي، قد أبدوا تحفظهم من التعليق على قضية المنطقة الأمنة، مؤكدين عدم رغبتهم في التعليق حتى من باب الرأي الشخصي، لكون ذلك قد يعرضهم للملامة من جانب مسؤولي الكنيسة الذين سبق أن “نصحوا بعدم الانجرار إلى الحديث في القضايا السياسية” وفق أحدهم، هذا الأمر ارجعه شمعون توماس إلى كون الكنائس المسيحية “هي كنائس عالمية”، لذا فإن تفضيلهم عدم التعليق على القضايا السياسية يأتي كي لا تنسحب أية أراء شخصية على مواقف الكنائس.
بينما يؤكد سنحاريب برصوم ضمن ذات السياق، أنه لم يجد خارج حزب الاتحاد السرياني والمنظمة الآثورية، أية مواقف سلبية أو إيجابية صدرت من رجال الدين أو ممثلي الكنائس، بخصوص كل القضايا التي طرحت مؤخراً “بخصوص منطقتنا”، من الانسحاب الامريكي إلى التهديد التركي بالاجتياح، وصولاً إلى مشروع المنطقة الآمنة.

لكن حتى وإن كان موقف الكنائس يوحي وكأنها تتحاشى التدخل في السياسة حالياً، إلا أن ذلك لا ينفي ما حظي به مجلس الكنائس (يضم سبعة كنائس) من دور هام في الحياة العامة لمسيحيي الجزيرة السورية بداية الأزمة السورية، خاصة وإنه شارك العام 2014في تشكيل “الهيئة العامة للشعب الكلداني السرياني الآشوري” التي كانت أشبه بمرجعية عليا للمسيحيين، ومن ثم تشكيل الهيئة المسيحية في العام 2015، والتي ضمت الكنائس السبع(الكنيسة السريانية الأرثوذكسية، الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، الكنيسة الكلدانية، الكنيسة الأشورية المشرقية، الكنيسة الأشورية الشرقية، كنيسة السريان الكاثوليك وكنيسة الأرمن الكاثوليك)، بالإضافة إلى سبع كيانات أخرى؛ 3 أحزاب سياسية و 4 منظمات مدنية. وفق تأكيد توماس.
وعموماً فإن موقف المؤسسة الكنسية الذي “لا يخرج عن السياسة العامة للسلطة الحاكمة”، يجده كبرئيل موشيه، “ينسحب أيضا على بقية المؤسسات الدينية غير المسيحية كدار الإفتاء الإسلامية وغيرها من المؤسسات الدينية”. لذا فهو “يتفهم” موقف الكنائس على “اعتبارها مؤسسات رسمية معترف بها”.

لكن شمعون توماس يذهب أبعد في موقفه/هم “من الدولة وطلب غطاءها الرسمي”، حيث لا يخفي أن لديهم هواجس “نابعة من حقائق تاريخية لا من مجرد مخاوف”، مشيراً إلى “المجازر التي ارتكبت بحق المسيحيين السريان والأرمن واليونان قبل قرن” لذا فهو يعتبر أن هناك تجارب تاريخية، وعليه هم “غير مستعدين لإعادة التجربة مع دولة كتركيا، قائمة على أنقاض حضارات أخرى”، وفق قوله.
ومع أن توماس يشدد على وجود “رفض شعبي عام” لدى المسيحيين تجاه أي دور تركي، إلا أنه يبقي الباب موارباً قليلاً حول امكانية قبولهم للمنطقة الأمنة دون أي دور للأتراك في حالة واحدة: ” إذا كان ولا بد من منطقة آمنة تفرض كأمر واقع، بشكل خارج عن أرادتنا وإرادة الدولة السورية، حينها سيكون لنا موقف، و لكل حادث حديث”، حسب قوله.

رفض “نموذج عفرين”
يرى الناشط المدني حسام القس أن الانقسام السياسي في المجتمعات المسيحية والآشورية (السريانية /الكلدانية) “شبيه للانقسام السياسي ضمن كل المجتمعات والمكونات السورية”، لكنه رغم ذلك يلفت إلى تقاطعات في المواقف قد تجمع الأفرقاء معاً حول قضايا معينة، كما حال المنظمة الآثورية التي تنتمي إلى المعارضة السورية، لكنها رغم ذلك تمتلك مواقف متمايزة عن الائتلاف، ليس في قضية المنطقة الأمنة وحدها، بل حتى في “قضية عفرين”، بحسب تعبيره.
و اللافت هنا في مواقف مجمل الأطراف المسيحية، هي أنها قد تختلف فيما بينها تجاه مشروع المنطقة الأمنة وما يتعلق بها من تفاصيل، وما إذا كانت ستقبل بدور تركي محتمل فيها، إلا أن رفضهم “تكرار تجربة عفرين” يكاد يكون الجزئية الوحيدة التي تجمع عليها مختلف آرائهم، حتى بالنسبة لتلك الشريحة من الشارع المسيحي التي تستمع إلى صوت المؤسسة الكنسية فقط دون الأحزاب.

ففي حين يفصح كبرئيل موشيه صراحة عن أن المنطقة الأمنة من شأنها “منع احتمالية تكرار نموذج عفرين، الذي لا يريدونه”، يجد سنحاريب برصوم أن تجربة عفرين تشكل مثالاً “للمناطق التي تدخلت فيها تركيا مع مجموعات العسكرية الموالية لها، وتسببت في تهجير المسيحيين منها”.
بينما يرى شمعون توماس (الرئيس السابق للمجلس الملي التابع للكنيسة السريانية الأرثوذكسية) أن الوجود التركي هو الخط الأحمر الوحيد الذي لن يقبلوا به في المنطقة الأمنة “حتى ولو قبلت به الدولة السورية” فيما لو حدث هكذا احتمال، وبرأيه فإن تجربة عفرين تعتبر نموذجا “لما يفرضه الأتراك من واقع معين، ليس فيه خير لمكونات المنطقة”.

جانو شاكر

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.