لقد أقمنا “غوانتانامو” جديد في شمال شرق سوريا

لقد أقمنا “غوانتانامو” جديد في شمال شرق سوريا

وكالات (الحل) – نشرت صحيفة ليبراسيون تقريراً عن مخيّم الهول في شمال شرق سوريا مشبّهةً إياه بمعتقل غوانتانامو سيء الصيت. ففي هذا المخيم الواقع في محافظة الحسكة، يتكدّس اليوم 80 ألف شخص، من بينهم الآلاف من نساء وأطفال جهاديي تنظيم “داعش” محشورين في ظل ظروف معيشية مزرية. وإذا كانت بعض الدول، كما هو الحال بالنسبة لروسيا، قد قامت باستعادة مواطنيها، فإن الدول الغربية لا تزال متعنتة ومترددة في القيام بذلك.

فلونا قد اختفت تماماً. وقد ظنّ جدها هيرفي ليوني، سليل الماريشال هامبيرت ليوني، أنه قد تمكّن أخيراً من معرفة مكان تواجدها. لكن ما من شيء أكيد، فبعض نساء جهاديي “داعش” من الأجانب أخبروه بأنها موجودة في مخيم الهول، شمال شرق سوريا. ومنذ ذلك الحين، لم يصل جدها أي خبر أو إشارة. فلونا، الفرنسية اليتيمة والتي لم يتجاوز عمرها بعد العامين، لم تعد على ما يبدو موجودة في مخيم الهول. فلا الصليب الأحمر ولا منظمة هيومن رايتس ووتش الغير حكومية ولا حتى منظمة أطباء بلا حدود قد وجدوا لها أثراً هناك. ويزفر الجد قائلاً: “لقد فقدنا الأمل بإيجادها في هذا المخيم. حتى أننا اعتقدنا بأنها ربما قد ضاعت في البرية أو أن عائلةً سورية قد وجدتها وأخذتها معها. كل شيء وارد”.

وكانت لونا قد جُرحت في الرقة، المعقل السابق لتنظيم داعش، في حين أنها لم تكن قد بلغت بعد من العمر سوى بضعة شهور. لكنها نجت من كوارث انهيار الخلافة الجهادية. وكانت أمها كارولين في الباغوز حيث خاض التنظيم في بداية هذا العام معاركه الأخيرة قبل أن يخسر آخر معقل له في دولة “الخلافة” المزعومة. وقد سبق لها وأن اتصلت بوالد لونا في السابع والعشرين من شهر شباط الماضي لتخبره بأنها لا تنوي الاستسلام وأنها تريد الاستمرار حتى نهاية الجهاد برفقة صاحبها الفرنسي الجنسية. لتنتهي المعارك بعد ذلك بثلاثة أسابيع بهزيمة نكراء لتنظيم داعش ومقتل كارولين وصاحبها وابنتها البكر. أما لونا، فقد تم إرسالها إلى مخيم الهول، بحسب شهادات البعض من صديقات أمها.

ومنذ ذلك الحين وبسبب الفوضى التي يشهدها المخيم، لا أحد يعلم لا أين ولا كيف استطاعت هذه الطفلة أن تختفي. ففي وقتٍ سابق من العام الحالي، وقع طفلين يتيمين فرنسيين في يد جهادية سورية كانت تسيء معاملتهما. وكان لا بد من تدخل نساء جهاديات أخريات في المخيم لإجبارها على تركهما يرحلان. فلولا تدخّل تلك النسوة لكان الطفلان الصغيران، اللذان لا يتكلمان بعد والمثخنان بالجروح، قد اختفيا كذلك. وفي الخامس عشر من شهر آذار الماضي، تمكّنت فرنسا من إعادتهما إلى بلادهما مع ثلاثة أيتام آخرين. أما بالنسبة للونا، فلا أحد يعلم عنها شيء. وبحسب آخر إحصاء لمركز تحليل الإرهاب، فإنه لا يزال هناك 370 فرنسياً معتقلين في سجون “القوات الكردية” في سوريا، من بينهم 250 طفلاً ثمانية منهم أيتام.

ويشير التقرير إلى أن هناك ثمانين ألف شخص مكدّسين اليوم في مخيم الهول. وأن أغلبيتهم من السوريين والعراقيين (حوالي 70 ألف). وهم يعيشون في المخيم الرئيسي، وتتعامل معهم “السلطات الكردية” كمدنيين. أما بالنسبة للأجانب الآخرين، فإنهم يتكدّسون في ملحق المخيم المحاط بسياجً عتيق. وهذا الملحق هو عبارة عن سجن مفتوح غير محروس بشكل جيد، حيث يوجد فيه اليوم أكثر من أحد عشر ألف امرأة وطفل، من بينهم سبعة آلاف قاصر معظمهم تحت سن الثامنة عشر. وفي كل أسبوع تقريباً هناك ولادات جديدة.

وتؤكد ليبراسيون بأن مخيم الهول هذا لم يكن يوماً مهيئاً لاستقبال هكذا عدد من الأشخاص. ففي نهاية عام 2018، لم يكن هناك سوى عشرة آلاف شخص في هذا المخيم. أما الآخرون، فقد تدفقوا مع تراجع تنظيم “داعش”، إلى أن فقد التنظيم آخر معاقله في الباغوز. واليوم، يوجد في المخيم خمسين جنسية مختلفة على الأقل. وقد أصبحت ظروف العيش هناك، السيئة بالأساس، لا تطاق مع حلول الصيف وارتفاع درجة الحرارة إلى 50 درجة مئوية. ويوضح أحد العاملين في إحدى المنظمات الغير الحكومية قائلاً: “الوضع الإنساني سيء في المخيم الأساسي، لكنه أسوأ بكثير في الملحق”.
ومشاكل المخيم تتفاقم وتتوالى وتتراكم الواحدة فوق الأخرى. فبالإضافة إلى الأمراض وسوء التغذية والجروح الغير مداواة، هناك الولادات التي تتم في الخيام دونما أدنى رعاية. ومنذ عدة أسابيع، انخفضت مخصصات المياه لتصل إلى ثلاثة لترات للشخص الواحد في اليوم، لتعود وترتفع بعدها إلى عشرة لترات. في حين أن المعايير الصحية تقتضي خمسين لتراً على الأقل. لكن الأهم من ذلك أن اختبارات هذه المياه قد أظهرت أنها ملوثة ببكتيريا إشريكية قولونية المسببة للإسهال والأخماج المعوية والبولية. الأمر الذي يزيد من معدل سوء التغذية والذي سبق وأن تم اعتباره مثيراً للقلق من قبل مصدر إنساني آخر. حيث يؤكد هذا الأخير قائلاً: “في الربيع وعندما بدأ الناس يتدفقون بشكل جماعي إلى المخيم، كانوا يعانون من سوء تغذية كبير كانت قد فرضته عليهم ظروف الحرب والرحلة المضنية حتى الوصول إلى المخيم. وكان من المتوقع أن يتحسن الوضع مع مرور الوقت. لكن في الواقع، تدهور الوضع أكثر مما كان عليه”. وقد توفيت فتاة فرنسية تبلغ من العمر ثلاثة أعوام منذ عدة أسابيع. فنقلها إلى مستشفى الحسكة المدينة الأكبر في المنطقة، قد تم تأجيله عدّة مرات. وعندما جاء دورها كي تتم معالجتها، كان الوقت قد تأخر كثيراً.
كما أن الاختلاط وغياب النظافة، لعدم وجود حمامات، يزيد كذلك من انتشار الأمراض. وقد تم بالفعل الإبلاغ عن حالات داء اللاشمانيا والحصبة، وكذلك عن حالة واحدة من التهاب السحايا. حيث يضيف المصدر الإنساني: “إنه أمرٌ خطير للغاية، ومن الممكن أن يظهر وباء بسرعة كبيرة في ظل هذه الظروف”.

وفي موازاة ذلك، فقد تدهورت الظروف الأمنية في المخيم. وقد وصل الأمر إلى الطعن بالسكاكين ورمي الحجارة والتهديدات بين نزلاء المخيم. فالأكثر تطرفاً يهاجمون من يعتبرونهم “كفاراً”. وفي بداية شهر تموز الحالي، طعنت امرأة جهادية حارسا من قوات سوريا الديمقراطية. وقامت سلطات المخيم بتعميم صورة الشاب الذي نجا بأعجوبة من ضربة السكين المغروزة بين كتفيه. وقبل ذلك بقليل، في نهاية شهر أيار الماضي، تمكنت ستة بلجيكيات من زوجات الجهاديين من الفرار. ولم ينتبه الحراس لذلك، لولا أن منظمة غير حكومية أخبرتهم بعد ذلك بعدّة أيام. وفي الخامس عشر من الشهر الحالي، انتشر مقطع فيديو على وسائل التواصل الاجتماعي لطفلٍ وهو يرفع ويعلق علم تنظيم داعش في المخيم وسط استحسان عدد من النسوة بنقابهن الأسود الكامل.
ويقول المصدر الإنساني بهذا الخصوص: “لا يمكن لمثل هكذا حوادث إلا أن تتكرر وتزداد. فالتوتر شديد في المخيم ولا يمكننا استبعاد أي شيء بما في ذلك التمرد الجماعي”. وبحسب تقريرٍ صادر عن معهد دراسات الحرب الأمريكي، فإن مخيم الهول يضم فوق طاقته حوالي 30 ألف شخص. وقد بات مزيجاً قابلاً للاشتعال في أية لحظة بين المدنيين وبين عوائل الجهاديين المقتنعة عقائدياً بأفكار تنظيم داعش. ومن المحتمل جداً أن يستهدف التنظيم هذه المخيمات والسجون كي يُبعث من جديد في كلٍّ من سوريا والعراق.

ويكشف التقرير بأنه وفي الخفاء، فإن الدبلوماسيين والإنسانيين يتبادلون الشعور بالقلق حيال وضع مخيم الهول، حيث يصفونه ببرميل بارود على وشك الاشتعال. ويقول مسؤول كبير في منظمة دولية بهذا الخصوص: “نحن في مواجهة تحدي تاريخي. فإن كنا نعتقد فعلاً بأن هذه المشكلة سوف تختفي لوحدها، فإننا نغالط أنفسنا. لقد أقمنا غوانتانامو جديد في شمال شرق سوريا… إلا أنه لم يكن هناك إلا 1500 معتقل في غوانتانامو. أما هنا، فنحن في مواجهة حوالي مئة ألف شخص موجودين اليوم في فراغ قانوني. فإن نحن لم نحل هذه المشكلة، فإننا سوف نكون في مواجهة جيل جهادي مستقبلي (تنظيم داعش 3.0). نحن نرى ذلك منذ عدّة عقود، وكل جيل جديد هو أكثر تطرفاً من سابقه”.

وبحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فإن الرد على هذا الوضع “المروّع” يختلف من دولة إلى أخرى. فقد وافقت كلّ من روسيا وأوزباكستان وكازاخستان على استعادة رعاياها من نساء وأطفال الجهاديين بشكلٍ كبير. لكن هذه الدول تبقى الاستثناء، لأن أغلب الدول الأخرى لا تزال مترددة. فباريس، على سبيل المثال، تتبع سياسة الإعادة إلى الوطن “كل حالة على حدا”. وحتى تاريخ اليوم لم تُعد فرنسا سوى سبعة عشر طفلاً يتيماً. وقد كانت الحكومة الفرنسية قد خططت عكس ذلك. فبحسب الوثائق الاستخباراتية، والتي حصلت عليها ليبراسيون في بداية شهر نيسان الماضي، فقد كان من المقرر إعادة جماعية لكل الجهاديين الفرنسيين، بما في ذلك الرجال، في نهاية شهر شباط الماضي. لكن العدائية التي أظهرها الرأي العام الفرنسي في استطلاعات الرأي أقنعت الإليزيه في التراجع عن ذلك. ومنذ ذلك الحين، والمدافع عن الحقوق واللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان وكذلك اللجنة الدولية لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة يُصرّون على تأييدهم لإعادة هؤلاء الجهاديين الفرنسيين إلى بلادهم.

ويؤكد دومينيك ستيل هارد، مدير العمليات في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، تأييده لإعادة الجهاديين الأجانب إلى بلادهم، قائلاً: “يمكننا أن نتفهم بأن هناك مشكلة أمنية. لكن بالنسبة للنساء والأطفال، فإن النهج الوحيد يجب أن يكون إعادتهم إلى ديارهم وإعادة دمجهم في مجتمعاتهم”. ويضيف: “الحكومات الغربية ترفض أن تتحمل هذه المخاطرة السياسية. لكنني لست متأكداً إن كان هذا الأمر سيدوم طويلاً. فهذه الحكومات تعرف جيداً بأنها إن لم تفعل شيئاً، فإن النتائج سوف تكون أخطر في الأشهر والسنوات القادمة”.

من جهتهم، فإن المسؤولين “الأكراد” يذهبون في ذات الاتجاه. فهم يسهّلون إعادة الجهاديين الروس إلى بلادهم، ويقومون بتسليمهم إلى الشرطة العسكرية الروسية المنتشرة في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري. كما أن هناك طريق آخر عبر دمشق قبل الترحيل إلى لبنان ومن ثم إلى بلادهم. لكن فرنسا وغيرها من الدول ترفض ذلك. “فوزارة الخارجية السورية تشترط “مذكرة شفوية” ترقى إلى الاعتراف بشرعية نظام بشار الأسد”، بحسب دبلوماسي غربي. لكن هناك احتمالات أخرى، كإرسال طائرة عسكرية إلى مناطق الإدارة الذاتية الكردية. وهو الحل الذي لجأت إليه باريس لنقل اثنا عشر طفلاً في العاشر من شهر حزيران الماضي. كما أن هناك اللجوء إلى الجيش الأمريكي الذي يضع في خدمتهم ناقلاته الضخمة وجنوده من القوات الخاصة لتأمين نقل هؤلاء الجهاديين. وقد لجأت كازاخستان إلى هذا الخيار في شهر كانون الثاني الماضي. وبذلك تم ترحيل الجهاديين الكازاخستانيين عبر قاعدة أمريكية في الكويت.

وفي مواجهة التعنّت الغربي، فإن “الأكراد” يُبدون رغبتهم بإنشاء محكمة دولية لمحاكمة جهاديي تنظيم “داعش” المعتقلين في سجونهم. حيث يوضّح أحد مستشاري الإدارة الذاتية الكردية، خلال مروره في باريس، قائلاً: “الأمر ليس وكأنه كان لدينا الخيار. ولكننا نطرح هذا الحل في ظل رفض الدول الأجنبية استعادة رعاياها من الجهاديين”.

لكن هل هذا ممكن؟ لتجيب كليمنص بيكترات، محامية المنظمة الدولية لحقوق الإنسان، جازمةً: “بالتأكيد لا يمكن ذلك. فالعدالة هي حكر على الدول. وكردستان سوريا ليست بدولة ذات كيان. وبالتالي فإنها ليست ذات اختصاص من أجل محكمة دولية، ولن يكون ذلك شرعياً. والدول الغربية تتجاهل المطلب الكردي بشكلٍ فاضح”.

ترجمة موقع (الحل)

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.