(الحل) – “عمري عشرون عاماً.. أرملة مرتين.. أم لطفلين.. زوجة ثالثة لرجل في الأربعين.. وما زلت أشعر أن الطفلة في قلبي ترغب أن تلعب في الحديقة مع صديقاتها” ريم 20 عاماً من ريف ادلب.
طحنت رحى الحرب المستمرة منذ سنوات المجتمع السوري بكافة فئاته، ونالت النساء الحصة الأكبر من الألم والمعاناة حيث فقدن أزواجهن وهن في مقتبل العمر، فغالبية الأرامل اليوم تواجهن صعوبات اجتماعية واقتصادية كبيرة تزيد من الألم والحزن الذي يحملنه في قلوبهن. تقوم هؤلاء النسوة بدفن شركاء حياتهن، إن كن محظوظات كفاية بأن يحصلن على الجثامين، وتودِعن في هذه القبور أيام الاستقرار، ليفتحنَ في حياتهن صفحة جديدة طويلة من الشقاء.
تفقد كل يوم عشرات النساء السوريات أزواجهن نتيجة الحرب الدائرة في البلاد، منهم من قضى نحبه أثناء قصف ما أو في مواجهة مع قوات النظام أو الجبهات الاسلامية المتشددة، ومنهم من اختفى بعد حملة اعتقالات أو على حاجز ما، لتبدأ هذه النساء بعيش واحدة من أصعب التجارب التي قد تمرّ بها امرأة في حياتها، خاصة في المناطق الريفية المحافظة، هناك حيث لا يمكن للمرأة أن تعيش بلا رجل “يحميها ويستر عليها”.

أدفع الثمن مرتين
تعاني الأرامل في سوريا من عدة مشاكل لا تقتصر على ألمها بسبب خسارتها لشريك حياتها ووالد أطفالها، بل تعاني بعد ذلك أيضاً من تدخل أهل الزوج في تربية الأولاد وفرض آرائهم على حياتها، والحد من حركتها وخروجها من المنزل. كما يلعب الأهل دوراً أساسياً في هذا التضييق، فبدل أن تحتضن أسرة المرأة ابنتها، تتحول هذه الأسرة لتصبح أكبر عائق في وجه الأرملة على تجاوز الألم والاعتماد على الذات. اشتكت عدة نساء من أن تحول المرأة فجأة إلى أرملة غالباً ما يسبب خسارتها لصديقاتها المقربات اللواتي تخفن على أزواجهن من الأرامل. ناهيك عن شعور الوحدة والخذلان الذي تشعر به المرأة بعد أن تفقد كل سند لها خاصة لو اضطرت إلى أن ترضخ للأمر الواقع وتتزوج مرة أخرى من رجل متزوج لتصبح “ضرة” وزوجة أب من دون رغبتها.
“توفي زوجي أثناء القصف على حمص في بدايات الثورة، وكان كل ما سمعته من الأقارب والأصدقاء هو عبارات الحب والمساندة والتأكيد على أن زوجي شهيد وأنه رحل إلى مكان أفضل. كما أكدوا جميعاً على أنني سأكون بخير وسأتمكن من تربية أطفالي لأنني امرأة قوية. بعد أسابيع فقط تغير كل شيء. تقدم شقيق زوجي للزواج بي بحجة ضرورة اعتنائه بأولادي، وهددني أهله أنهم سيطردونني من البيت إذا لم أقبل، بحجة عدم مشروعية بقائي معهم في بيت واحد. رفض والدي استقبالي ولم يكن لدي حل سوى أن أرضى بالزواج من رجل لطالما اعتبرته أخاً لي” ليلى 26 عاماً من حمص.

أشعر أنني قتلت زوجي
لا توجد تقارير دولية تحدد عدد الرجال المفقودين قسرياً بشكل دقيق ولكنها تؤكد جميعاً على أن هذا العدد بالآلاف. معظم هؤلاء الرجال تركوا خلفهم زوجات وحيدات يتعرض لكل أنواع الصعاب، فلا يكفي أنهن فقدن أزواجهن بل عليهن أيضاً أن يحمين أنفسهن من مجتمع لا يرحم. سعت كثيرات منهن بداعي اليأس إلى إعلان وفاة أزواجهن ليتزوجن مرة أخرى من أول عريس يقبل بهن وبأطفالهن “ليستر عليهن”. تقول سعاد 36 عاماً من ريف حلب أنها لم تملك حلاً آخر إلا أن تباشر بمعاملة وفاة زوجها الذي ما زالت في قلبها تشعر أنه حي في قبو ما وأنها لا تعرف ماذا ستقول لابنتها عندما تكبر وتعرف ما فعلته. كان عليها أن تفعل هذا كي تستفيد من الإعانات المقدمة للأرامل، وأنها تعرف أن والدها لن يتركها تنتظر زوجاُ في عداد الأموات.

هل تعدد الزوجات هو الحل؟
لم يكن تعدد الزوجات منتشراً بشكل كبير جداً في سوريا قبل الحرب (2%)، ولكن اليوم أكثر من يستغل حاجة الأرامل هم رجال الجماعات الاسلامية الذين يطمحون باستمرار “لإكمال نصف دينهم” بالزواج مثنى وثلاث ورباع. وهم نفسهم الأكثر عرضة للقتل ولترميل هؤلاء النسوة اللواتي يجدن أنفسهن أرامل من جديد.
كان تعدد الزوجات أحد أبرز الحلول المطروحة في المجتمع السوري “للستر” على الأرامل ولكن على صعيد آخر لم يرحم المجتمع الضرة من التأنيب لأنها “سرقت” رجلاً من بيته و”أغوته” ليتزوجها، وأصبحت زوجة الأب “الظالمة” التي حرمت الأولاد من حقهم في التمتع ببنوتهم. تقول سلمى 19 عاماً من الرقة أنها لم تسلم يوماً من تحكم أم عمر زوجة زوجها الأولى التي تعيش معها في نفس البيت، فبعد أن وافقت على زواجها من الحاج أبو عمر مرغمة، وجدت أم عمر بالمرصاد لتعاملها كخادمة في المنزل مجبرة إياها أن تدفع ثمن زواجها غالياً.

حاميها حراميها
يبدأ استغلال بعض النساء الأرامل من بيت أهلهن، فرغم أن الأرامل ممنوعات من الخروج من البيت لتفادي “حكي الناس”، فالكثير من الأرامل اشتكين أن آباءهن يجبرونهن على النزول إلى الأسواق لبيع ما يحصلن عليه من المساعدات المقدمة لهن ولأولادهن ثم يأخذون هذه الأموال القليلة بحجة أنهم “يصرفون عليهن وعلى أبنائهن”. وفي حالات أخرى قالت النساء أنهن لم يردن إلا أن يمضين ما تبقى لهن من عمر في تربية أولادهن ولكنهن حرمن من هذا الحق بسبب ضغط آبائهن وإجبارهم لهن على الزواج من رجال أكبر سناً منهن بكثير. تقول خولة 22 عاماً من ريف ادلب أنها تزوجت غصباً من رجل عمره ضعف عمرها وأنها كانت تتعرض للضرب والإهانة كل يوم لمعرفة زوجها أن لا سند لها ولا قوة. تقول أنه في كل شجار بينهما يذكرها بأنه “رضي بها رغم أنها أرملة”.
على عكس تلك الحالات تقول دانية بأنها سعيدة بزواجها الثاني من رجل كانت هي زوجته الرابعة. فالدين قد حلل تعدد الزوجات وهي لم تقم بأي فعل حرام. تقول دانية “أردت أن أرتاح من كلام المجتمع المحيط بي وضغطه علي، الكل يحاكمني لأنني أرملة وقد تعبت من نظرتهم إلي كأنني ساقطة، خاصة وأنني تجاوزت الثلاثين من عمري”.

جيل جديد من الألم
يدفع أطفال الأرامل ضريبة وفاة الوالد إو اختفائه، فهم لا يفقدون السند والرعاية فقط بل يتعرضون أيضاً لتمييز مجتمعي كبير عبر رسائل الحياة اليومية، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات العنف لديهم، خاصة في ظل ضعف الأم وعدم قدرتها على حمايتهم. تشير التقارير الخاصة بمنظمة (يونيسف) أن أغلب الأطفال اليتامى في سوريا قد تركوا المدارس من أجل التسول أو العمل في مهن غير إنسانية ولا تليق بالأطفال.

مساعدات لا تغني من جوع
إن عمل المنظمات الدولية والجهات الحكومية التي تقدم الإعانات المحدودة لأسر الأيتام والأرامل لا يكاد يسد إلا النذر اليسير من الحاجة الحقيقية لهم، علماً أن هذه الإعانات يتم تقسيمها على أكثر من أسرة من أقارب المتوفى، وعليه يجب على هذه المنظمات والجهات الداعمة أن تجد حلاً أكثر جدية لسد حاجات الأسرة التي فقدت معيلها، وألا تكتفي ببعض الإجراءات والمساعدات البسيطة ليريح العالم الدولي والنظام السوري ضميره وينام بسلام تاركاً وراءه آلاف البطون الجائعة لا تنام.
وعلى صعيد آخر تسعى عدة منظمات سورية مدنية إلى دعم الأرامل عن طريق دورات خاصة لتعليمهن مهنة ما، يستطعن ممارستها في البيت بين أبنائهن، ولكن ما تزال هذه المنظمات قاصرة عن استيعاب عدد الأرامل الكبير بسبب عدم وجود التمويل اللازم، أو لانعدام الوعي اللازم عند أهل المرأة للسماح لها بالالتحاق بهذه الدورات.

الأرامل في سوريا، قصة ألم لا تنتهي
تعاني الأرامل اليوم من مشاكل كثيرة تبرز إلى السطح بعد فترة وجيزة من وفاة الزوج، تتلخص في: أولاً الضوابط الاجتماعية القاسية المفروضة عليهن من قبل الأهل والمجتمع، ثانياً من تحكم أهل الزوج بحياتهن، ثالثاً من عدم قدرة الأهل على تحمل نفقتهن وأولادهن، وأخيراً الكثير من المشاكل الأخرى الاجتماعية، النفسية والمادية التي على المرأة مواجهتها فقط كونها أرملة “ناقصة” محرم عليها ما يحق لسواها. تحتاج هذه النساء إلى المزيد من الدعم ليتمكن من الاعتناء بأنفسهن دون الحاجة إلى اللجوء إلى حلول أخرى غير منصفة، كأن يتم دعمهن عبر تعليمهن حرفة ما، وإيجاد الحب من الناس المحيطين بهن، وأن يتوقف المجتمع عن محاكمتهن على جريمة لم يرتكبنها.

غالية مردم بك

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.