أصبح عمر الجريمة ست سنوات.. ذكرى الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية

أصبح عمر الجريمة ست سنوات.. ذكرى الهجوم الكيماوي على الغوطة الشرقية

(الحل) – “بدأت شفتاي بالرجفان والانتفاخ، وعيناي أيضاً، وانعدمت الرؤية أمامي. كان جميع الناس مرميين على الأرض يصرخون، وكان هنالك العشرات من الشهداء. كان لون وجوههم أصفر، كانوا جاحظي الأعين ومفتوحي الأفواه. عائلة كاملة من بيت جيراننا كانت تنازع الموت ولم أستطع إنقاذهم. حاولت إنقاذ بعض النساء، اللواتي كن تصرخن وتطلبن النجدة. كان الأطفال يرجفون بشكل مخيف ويتساقطون الواحد تلو الآخر. ثم بدأ الزبد يخرج من فمي. عدت إلى البيت فوراً، فوجدت أفراد عائلتي وقد أغمي عليهم جميعاً. قام أحد المواطنين بمساعدتي في نقلهم إلى النقطة الطبية بعد عدم تمكني من قيادة السيارة”.

ما تزال صور قتلى القصف الكيماوي على الغوطة الشرقية محفورة في ذاكرتنا، أنفاسهم وهم يقاتلون الموت، أعينهم المفتوحة والزبد الخارج من أفواههم، جثث الأطفال المرمية في كل مكان. لن يمحو الزمن ولا التاريخ ما فعلته الحكومة السورية بهؤلاء المدنيين الأبرياء، وسيبقى السؤال مطروحاً: متى سيأتي يوم الحساب؟ متى سيعاقب هؤلاء المجرمين على انتهاك كل المواثيق والمعاهدات الدولية والإنسانية والمبادئ الأخلاقية؟

يصادف اليوم 21 آب/ أغسطس 2019 مرور ست سنوات على الهجوم على الغوطة الشرقية بغاز السارين السام، مما أسفر عن مقتل 1429 شخصاً أغلبهم من النساء والأطفال، وإصابة أكثر من عشرة آلاف شخص من أهالي الغوطة. رغم ادعاء المجتمع الدولي الاهتمام بهذا الهجوم إلا أن كل جهد تم بذله لإيقاف هذا النوع من الجرائم اللاإنسانية في الصراع السوري باء بالفشل. لقد قامت منظمة هيومن رايتس ووتش بتوثيق ما يزيد عن الـ 85 هجوماً بالأسلحة الكيماوية في سوريا منذ هجوم عام 2013 على الغوطة الشرقية، كما ما زالت الاتهامات بهجمات جديدة مستمرة حتى اليوم دون أن تستطيع أية قوى دولية أن تسيطر على الموقف أو تعاقب الفاعلين.

كي لا ننسى
“كنت في المنزل عندما بدأ القصف، بعد لحظات أخذ صوت الصراخ يتعالى فركضت إلى الخارج. كانت رائحة المكان كالكبريت، النساء مرميات على الأرض والأطفال فاقدي الوعي والزبد يخرج من فمهم. لم أفهم شيئاً كنت كأنني في حلم. حينها بدأت أشعر بالدوار ولم أتمالك نفسي، سقطت أرضاً وظللت أحاول الزحف لأبتعد عن المكان لكنني فقدت الوعي أخيراً. أخبروني في المركز الطبي أن الرجل الذي قام بإسعافي قد تسمم أيضاً وهو في حالٍ خطرة. كان أسوء يومٍ في حياتي. شعرت كأن يوم القيامة قد بدأ”.

اتهمت الحكومة السورية في أولى ساعات يوم الأربعاء 21 آب/ أغسطس 2013 بارتكاب جريمة بحق المدنيين الساكنين في بلدات الغوطة الشرقية، حيث قامت بقصف ثلاثين صاروخاً وقذيفة محمّلين بالمواد الكيماوية عليهم، ليكون هذا هو الهجوم الكيماوي الأضخم ضد المناطق الثائرة. وما يزيد الأمر بؤساً هو توقيت هذا الهجوم الذي جاء متزامناً مع تواجد لجنة الخبراء الخاصة بالكشف عن استعمال المواد الكيماوية في مدينة دمشق بعد وصولهم الى الأراضي السورية قبلها بعدة أيام فقط، علمأً أن عمل اللجنة المذكورة كان محصوراً بالمناطق المتفق عليها مسبقاً مع النظام، ومهمتها الوحيدة هي معرفة ما إذا كان هذا السلاح قد تم استخدامه أم لا.

سادت مع سقوط أول قذائف الكيماوي حالة من الهلع والارتباك بين السكان، وبسبب اعتقادهم بأنه قصف عادي بالهاون قاموا بالاختباء بالأقبية بدل أن يصعدوا إلى الطوابق العليا حيث يكون الهواء أقل تسمماً، مما أدى إلى سوء وضعهم الصحي وإلى موت عدد كبير جداً منهم. كما أن توقيت الضربة المتزامن مع نوم السكان لعب دوراً كبيراً في زيادة عدد الضحايا الذين توفوا على أسرّتهم.

عند انتشار نبأ القصف الكيماوي سارعت طواقم المسعفين والمتطوعين إلى الأماكن الأكثر تضرراً لنقل المصابين إلى النقاط الطبية، إلا أن معظم المسعفين تضرروا صحياً بسبب عدم توفر الأقنعة الواقية والأدوية الكافية لمثل هذا الهجوم الكبير، كما أن عدد المشافي القليل والحصار الطويل على الغوطة لعب دوراً رئيسياً في عدم توفر الأدوية وغيرها من المواد الطبية اللازمة والأساسية.

يقول أحد العاملين في أحد المراكز الطبية في الغوطة: “وصلت أولى الحالات المصابة بالغازات الكيماوية في الساعة الثانية ليلاً، وبلغت ذروتها بين الساعة الثالثة والسادسة صباحاً. أحضرنا صهاريج ماء وكنا نقوم بخلع ملابس المصابين وغسل أجسادهم بالصهاريج. وصلنا نحو ألف مصاب. لا يتواجد لدينا في النقطة الطبية مادة اتروبين (مادة تستخدم لتخفيف أعراض الإصابة بالأسلحة الكيماوية) كافية للجميع، ولم يبق لدينا أكسجين على الإطلاق ولا يوجد كهرباء ولا مازوت لتشغيل المولدات. أصبحنا نعطي الإبر فقط للحالات الصعبة جداً أما البقية فنكتفي بغسلهم بالماء. الأتروبين الذي كان متوفراً لدينا منتهي الصلاحية أصلاً منذ شهرين لكننا استخدمناه، كما أحضر لنا أحد الأطباء البيطريين اتروبين معد للحيوانات قمنا باستخدامه بنسب قليلة جداً ايضاً للعلاج”.
كانت للنساء والأطفال الحصة الأكبر من الألم، الأطفال بسبب ضعف مقاومتهم والنساء نظراً لضيق الأماكن وعدم وجود ردهات خاصة تتيح خلع ثياب النساء قبل غسلهن من آثار المواد السامة.
حفر سكان المكان المقابر الجماعية ليواروا الجثث المكدسة التي بدأت تتفسخ سريعاً في حر شهر آب، ويقول شهود العيان أن كثيراً من الجثث كانت غير معروفة الهوية لأن عائلات بأكملها قتلت ولم يكن هناك وقت أو سبيل لمعرفة أصحابها.

موقف الحكومة السورية من هجمات الكيماوي في الغوطة
أنكرت الحكومة السورية مسؤوليتها عن الهجوم على الغوطة، وألقت باللوم على جماعات المعارضة لكنها لم تقدم أي دليل يدعم مزاعمها. بناءً على الأدلة المتوفرة، وجدت هيومن رايتس ووتش وغيرها من المنظمات الدولية أن قوات الحكومة السورية كانت مسؤولة عن هذه المجزرة، خصوصاً أن كل الأدلة المتعلقة بنوع الصواريخ والقاذفات المستخدمة موجودة فقط في حوزة القوات الحكومية السورية. كما أن كل التحقيقات الدولية (رغم محدوديتها) تقول أن ادعاءات الحكومة بأن “المعارضة هي المسؤولة عن الهجمات” تفتقر إلى المصداقية ولا تتفق مع الأدلة الموجودة في مكان الحادث.

خطر الأسلحة الكيماوية
كثيرة هي الجرائم التي يمارسها النظام السوري ضد شعبه كل يوم من قصف وتجويع وتشريد واعتقالات تعسفية، ولكن لا شيء يضاهي خطورة الأسلحة الكيماوية المروعة التي تمتد لتشمل الأجيال القادمة أيضاً، ناهيك عما تسببه من دمار للحيوانات والأراضي الزراعية. تتسبب هذه الأسلحة بقتل المئات بشكل عشوائي كما أنها تشكل سبباً لدخول الناجين والعاملين في مجال المساعدة الإنسانية والطبية بحالة من الصدمة النفسية قد تصل إلى حد فقدان الذاكرة المؤقت. تقول أم إحدى الطفلات الناجيات من القصف في الغوطة أن ابنتها لم تتمكن من التعرف عليها بعد أن استيقظت من الإغماء وأنها ظلت تبكي باحثة عن أمها تائهة بين الحقيقة والخيال.
لفهمٍ أكثر عن مخاطر الأسلحة الكيماوية لا بد لنا أن ننظر إلى الحروب التاريخية السابقة، وبحسب تقارير منظمة الأمم المتحدة فإن الحرب العراقية الإيرانية تعد من أبرز حالات استخدام هذا النوع من السلاح، وهناك وُجد أن معظم الناجين يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق واليأس والاكتئاب، حتى أن بعض الناجين أقدموا على الانتحار.
وبالعودة إلى الغوطة الشرقية، تحدّث المسعفون عن الأعراض التي شهدوها بالمصابين ومن أبرزها: الإقياء، سيلان اللعاب بشكل رغوي، هياج شديد، حدقات دبوسية، احمرار في العينين، زلة تنفسية، اختلاجات عصبية، توقف التنفس والقلب، خروج الدم من الأنف والفم، والهلوسة وفقدان الذاكرة. يقول أحد الأطباء: كان الفارق الزمني بين القصف وبين بدء الأعراض نحو نصف دقيقة فقط، لذلك في العديد من الحالات لم يتمكن المصابون من التحرك أو الهرب وماتوا في مكانهم”.

موقف المجتمع الدولي
لم تقم سوريا بالتصديق على الاتفاقية الدولية التي تحظر استخدام الأسلحة الكيمياوية إلا بعد قيامها بالقصف على الغوطة وذلك في شهر أيلول/ سبتمبر عام 2013، وكان من المفترض أن تقوم الحكومة السورية بتدمير كل مخزونها البالغ 1200 طن من الأسلحة الكيمياوية. ولكن يبدو أنها إما لم تدمر كل المخزون أو أنها استمرت بانتاج تلك المواد حيث أن الحكومة استمرت باستخدام السارين في عمليات قصف أخرى، كما أنها بدأت باستخدام الكلور كسلاح كيماوي آخر. ووفقاً لتقرير صادر عن الجمعية الطبية السورية الأمريكية في عام 2016 عن الهجمات الكيمياوية في سوريا، فقد وقع 77% منها بعد صدور قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنشأ إطاراً لتدمير مخزونات الأسلحة الكيمياوية المعلن عنها في سوريا.
أما بالنسبة للتحقيق بهذه الجريمة فلم تتمكن آلية التحقيق المشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية والأمم المتحدة من التحقيق بهجمات الأسلحة الكيمياوية بسبب استخدام روسيا لحق النقض (الفيتو) ضد مهمة هذه الآلية علماً أن روسيا استخدمت الفيتو لمنع التحقيقات أربع مرات. ولكن على الرغم من معارضة روسيا المستمرة، فقد تم أخيراً منح منظمة حظر الأسلحة الكيمياوية الإذن بالتحقيق لمعرفة ماذا جرى في سوريا ومن هي الجهة التي قامت بضرب الكيماوي، ولكن من المؤكد أن عمل المنظمة سيكون مليئاً بالتحديات بسبب رفض الحكومة السورية منح فريق التحقيق حق الوصول إلى سوريا.

ضرورة تحقيق العدالة
من أجل كل ضحايا الهجمات الكيمياوية في الغوطة وفي غيرها من المجازر الكيماوية في دير الزور وريف دمشق ودرعا وسواها، يجب أن تكون هناك مساءلة ولو بعد حين. يجب على المجتمع الدولي أن يتحرك سريعاً لمحاسبة الفاعلين لأن استخدام هذه الاسلحة الكيماوية هو عمل محظور دولياً وليس من الممكن انتظار حدوث المزيد من الضربات حتى يتأكد مجلس الأمن أن السوريين هم فعلاً ضحايا لحكومتهم التي تقتلهم بالآلاف على مرأى ومسمع من الجميع. يجب علينا كلنا كسوريين أن نوثق هذه الحالات وأن نمتلك القوة اللازمة لإعطاء الشهادات للمنظمات والجهات المعنية كي تضغط أكثر على المجتمع الدولي ليقف بوجه الطاغية الذي يقتل بلا رقيب. فأقل ما يمكنه فعله هو الضغط على الحكومة كي تتوقف فوراً عن هذا العمل الذي يدمر مجتمعات كاملة بلا حساب أو رقيب.

مصدر الشهادات: معظم الشهادات تم أخذها من تقارير “مركز توثيق الانتهاكات في سوريا” ولم يتم ذكر الأسماء حفاظاً على سرية وخصوصية المعلومات.

غالية مردم بك

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.