كيف يبدو “النصر” في سوريا الممزقة اليوم

كيف يبدو “النصر” في سوريا الممزقة اليوم

وكالات (الحل) – أجرى فريق صحيفة “نيويورك تايمز” جولةً في سوريا دامت ثمانية أيام ليعدّ تقريراً تناول شكل الانتصار الذي تتحدث عنه الحكومة السورية اليوم. فقد كان الركام والسواد هما السمتان الغالبتان على البلاد، أما الشيء الذي كانت تفتقر إليه بعد سنوات الحرب الثمان فهو الشباب والطبقة الوسطى. ففي الطريق الذي سلكه الفريق إلى أنقاض ضاحية دوما، استغرق الأمر بعض الوقت ليدركوا ما هو مفقود.. فكانت النساء تدير دكاكين البقالة ويتجول الرجال المسنون على الدراجات النارية، بينما يحمل الأطفال “الهزيلون” أوعية تحتوي الماء لنقلها إلى منازلهم. ولكن، لم يكن هناك سوى عدد قليل من الشباب. لقد ماتوا في الحرب، أو تم رميهم في السجون أو مبعثرون خارج الحدود السورية.

أما الآن، فيتوجب على الناجين من الموت، كالجدة “أم خليل” ذات الوجه المستدير والبالغة من العمر تسعة وخمسين عاماً، أن يسدّوا غياب هؤلاء الشباب. فقد قُتل ثلاثة من أبنائها خلال الحرب، وعُذّب آخر في سجون فصائل المعارضة، بينما اختفى الخامس في سجون السلطات السورية. وكان يتوجب على زوجات أبنائهم البدء بالعمل بينما كانت تربي أحفادها الخمسة وحدها بعد أن قتل زوجها في غارةٍ جوية هو الآخر. “أحيانا أجلس وأفكر، كيف حصل كل هذا؟” تقول أم خليل التي تقطن مع ما تبقى من عائلتها في شقةٍ تعود لأقرباء لها. وتضيف: “كان لدي أبناء يعملون. كان كل شيء طبيعياً، وفجأة فقدتهم. كان لدي زوج. فقدته هو الآخر. ليس لدي أجوبة. الله يسامح اللي كان السبب بكل اللي صار”. ثم انفجرت باكية لتقول: “سواء أسامحهم الله أم لم يسامحهم، ما الفرق الذي سوف يحدثه ذلك؟ أتمنى لو كان بإمكاني أن أجد من دمر هذه المدينة. لكنت قتلته”.
ويشير التقرير إلى أن الدمار والانتعاش موزعان بشكلٍ غير متساوي في هذه البلاد. فبعد ثماني سنوات من الحرب، تسيطر الحكومة السورية على معظم أراضي سوريا. وقد بدا يوم الثلاثاء الماضي أقرب إلى السيطرة على إدلب، آخر معاقل المعارضة، أكثر من أي وقت قد مضى.

ولم يكن موضوع انتصار الرئيس بشار الأسد موضع شك لبعض الوقت، لذا أرسلت صحيفة النيويورك تايمز ثلاثة من صحفييها ليتلمسوا شكل هذا النصر. وخلال زيارتهم لخمسة مدن وقرى تقع تحت سيطرة السلطات السورية في شهر حزيران الماضي، لم يجدوا سوى الدمار والكرم السوري. فالحزن لا يفارق وجوه الناس الذين يكدّون طوال اليوم. وقد تم توزيع المعاناة بشكلٍ غير متكافئ، حيث كان للفقراء النصيب الأكبر وكذلك للمناطق التي كانت تخضع لسيطرة فصائل المعارضة سابقا. أما الانتعاش، فقد تم تقاسمه بشكلٍ غير متكافئ كذلك.
ففي العاصمة دمشق، وعلى مسافة ليست ببعيدة عن الجبل الذي كانت قوات النظام تطلق منه قذائف المدفعية على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة ذات يوم، تم بناء مجمّع تجاري فخم بميزانية بلغت 310 مليون دولار خلال الحرب. حيث يضجّ هذا المجمّع بطقطقة أحذية الكعب العالي للسيدات المرفهات اللاتي يتسوقن فيه. أما في مدينة دوما المجاورة، والتي كانت طيلة فترة الحرب خاضعة لسيطرة الفصائل، فما تزال مياه الشرب حلماً أكثر منه حقيقة. وفي معقل النظام في مدينة اللاذقية الواقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بكت الكثير من الأمهات أمام صور أبنائهن القتلى. أما في مدينة حلب وبعد مرور أكثر من عامين على استعادة الأسد السيطرة على مدينة حلب الشمالية، فاستطاعت المصانع والبازارات القديمة والأسواق أن تنفض عنها غبار الحرب مرة أخرىإلا أن الكهرباء ما تزال عثرةً في هذه المدينة حيث لا توجد كهرباء سوى لفترة واحدة طيلة اليوم.

ويشير التقرير إلى أنه ليست البنية التحتية فقط في سوريا التي تحتاج إلى إعادة البناء. فسوريا اليوم تفتقد إلى الطبقة الوسطى التي فرّ أفرادها أو سقطوا إلى مستوى أدنى على السلم الاقتصادي. حيث تقدر الأمم المتحدة أن أكثر من ثمانية أشخاص من أصل عشرة يعيشون الآن في فقر مدقع، حيث يجنون أقل من 3.10 دولار يومياً للشخص الواحد. وحتى مع عودة النازحين إلى منازلهم، يُجبر الشباب على الالتحاق بالخدمة الإلزامية في الجيش. في حين يختفي المعارضون ومن على صلة بهم في سجون النظام المظلمة. لذا، وبالرغم من أن أعداد الأفراد الذين يفرون من البلاد أقل بكثير عمما كان عليه عندما بلغت أعداد المهاجرين ذروتها، إلا أن الناس ما يزالون يهربون من البلاد.

ومع غياب دعم المانحين الدوليين لعملية إعادة الإعمار، كان على السوريين الذين عادوا لديارهم أن يبذلوا ما في وسعهم لترميم الثقوب التي خلفها الرصاص والقصف في جدران منازلهم وإطعام أطفالهم والعثور على عمل يحصلون منه على قوت يومهم.وفي ظل رحيل الكثير من الرجال، وقعت هذه المهمة على عاتق المسنين والشباب اليافعين وبشكل خاص على عاتق النساء، ومن بينهم نساء العائلات المحافظة اللاتي خرجن للعمل لأول مرة في حياتهن. حيث تقول أم عقيل، سيدة أربعينية من مدينة حلب الشرقية، موضحةً: “لم أعتقد في يومٍ من الأيام أنني كنت سأعمل، لكن هذا أفضل من أن أذهب وأطلب المال من الناس”. فبحسب قولها احتجزت قوات النظام زوجها بصورةٍ غير عادلة، لكنها نجت وبقيت على قيد الحياة. وتضيف بأنها أرادت من بناتها أن يعملن عندما ينهين دراستهن “كي لا يواجهوا ما واجهته أنا”.

ويبين التقرير بأن الأسد وأعوانه موجودون في كل مكان. فكيفما تولي وجهك تجد ما يذكرك بأن الأسد هو المسؤول عن كل هذا الدمار، وهو الذي سوف يتولى إدارته طوال الوقت في المستقبل. فهنا لافتة تحمل صورة بشار الأسد ومكتوب عليها عبارة “الأسد إلى الأبد”، وهي ليست إلا واحدة من العديد من اللافتات المشابهة المعلقة على الطرق السورية. وكانت صوره متواجدة في اللافتات المتوضعة عند مداخل المدن التي تم استعادتها من قبل قواته. وعند أحد بائعي التذكارات من دمشق، كان الأسد ينظر من بين ولاعات السجائر التي يعرضها للبيع كتذكار. كان وجهه يتوسط وجه داعميه، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وزعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله. وعند حاجزٍ للجيش، كان هناك ما لا يقل عن ثلاثة عشر أسداً كلّ منهم ينظر في اتجاهٍ مختلف وكأنه مجموعة من كاميرات المراقبة.
وبالرغم من حصول فريق نيويورك تايمز على إذن للدخول إلى سوريا بعد انتظار دام أكثر من نصف عام، إلا أن الإذن لا يعني أبداً حرية التجوّل. ففي كل الجولات التي قام بها الفريق، كان رجال النظام من جنود وعناصر باللباس المدني من قوى الأمن والمخابرات باستقبالهم. كما كان عناصر الأمن يقفون إلى جوارهم خلال معظم اللقاءات التي أجراها الفريق مع السوريين، الأمر الذي جعل من الصعب الحديث إلى الناس بسبب الخوف. وفي أفضل الأحوال التي تحدث بها الناس كان كلامهم مائل إلى كلام الموالين للنظام. فلا أحد من اللذين تحدثوا إلى الفريق ألقى باللوم على الأسد فيما آلت إليه الحال في سوريا. بل كان الانهيار الاقتصادي في كل الأحوال نتيجةً للعقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد، وليس بسبب الحرب أو الفساد.

وقد حرص المرافقون على إظهار كيف باتت الحياة تعود إلى طبيعتها، ولم يكن ذلك صعباً في العاصمة دمشق التي تجنبت إلى حدّ كبير الأضرار المادية التي خلفتها الحرب. لكن، وبعد دقيقتين من الخروج من دمشق إلى دوما تغير المشهد خارج نافذة السيارة بشكلٍ كلي. فقد تحول من مدينة تعج بالحركة إلى حقلٍ من الركام الرمادية. وقد استمر هذا المشهد لأميال، إنه رماد الحرب. فقد أصبحت المباني السكنية أشبه بمواقف السيارات المفتوحة، الأبواب تنفض غباراً رمادياً، والمآذن التي تخرج من بين أكوام الأنقاض كانت أشبه بشموعٍ نصف ذائبة مغروسة في كعكة عيد الميلاد. حيث يعكس ذلك الدمار إصرار الطائرات الحربية والمدفعية التي قصفت المواقع على كسح كل معالم الحياة هناك، فلم تخلّف سوى بضعة آثار تشير إلى وجود البشر. الأمر الذي سهّل للكثيرين نسيان ما كانت عليه تلك المنطقة قبل تحولها إلى ركام، والتي كانت مأهولة بالسكان في يومٍ من الأيام.

ويشهد سوق المدينة إقبالاً بطيئاً باستثناء هؤلاء الذين يبحثون عن الفاكهة أو الأواني المنزلية الرخيصة الثمن. فبعد أكثر من عام على دخول قوات النظام إلى معقل الثوار هذا بعد حصارٍ أجبر الناس على اللجوء إلى أكل الحشائش والأعشاب، بقيت نسبة كبيرة من المدينة مهجورة وغير صالحة للسكن. ومن السهل معرفة الأماكن التي بدأ الناس بالعودة إليها، وذلك من خلال الخيام التي ينصبونها وسط تلال من الأنقاض مستخدمين أقمشة قذرة لتحل محل جدران لمنازل لم تعد موجودة.
وفي أحد الأبنية، ومن خلال الفتحات الكبيرة في الجدران، كانت الثريات السوداء التي ظهرت من تلك الفتحات شاهداً على الطبقة المتوسطة التي زالت من دوما. فقد قادت طفلة كانت تلعب في الجوار فريق نيويورك تايمز لمقابلة أجدادها في الطابق العلوي للبناء. علي حمود طعمه وزوجته أم فارس، حيث يحرص معظم السكان على عدم ذكر الاسم الكامل خوفاً على سلامتهم مكتفين بأم وأبو (اسم الولد الأكبر). فقد عاد الأجداد إلى منزلهم هذا في شهر أيار الماضي، ليجدوه منهوب ومحروق. ولم ينج من المنزل قطعة أثاث واحدة سوى سجادة بلونها الخمري والأزرق كانت أم فارس قد اصطحبتها مها عندما فرّوا إلى الجانب الآخر من المدينة خلال الأيام الأولى للحرب. وقد رفضت التخلي عنها طوال السبعة أعوام التي قضوها تحت الأرض بالرغم من أنهم كانوا في كثير من الأحيان يمضون أياماً بدون طعام أو ماء منتظرةً اليوم الذي سوف تعود فيه إلى منزلها مرةً أخرى لتعيدها إليه.

وكان الجدّان قد فقدا عشرين شخصاً من أفراد أسرتهما إلى أن حان موعد عودتهما إلى منزلهما. واليوم يربيان هذان الجدان أحد عشر حفيداً يتيماً في مبنىً شبه مهجور. وبالرغم من وجود قلّة من الأصدقاء والجيران الذين بقوا على قيد الحياة، تقول أم فارس: “نحن نتجنب رؤية بعضنا البعض، فجميعنا لديه ذات القصص المحزنة”. وجلس حفيدها خالد البالغ من العمر تسعة أعوام يمسح عينيه الدامعتين تارةً، ويدفن وجهه في الوسادة تارةً أخرى. وتقول أم فارس إنه لا يبكي والده المتوفى. إنما عمل خالد في الحدادة ليحصل على ما يعادل سعر سندويشة في اليوم، إلا أن الشرار والمواد الكيميائية تسببت بتهيج عينيه. وتضيف بأنه لا يمكن لأحد أن يتحمل نفقات العلاج والدواء، وبدون عمل خالد لا يمكنهم الحصول حتى على الطعام.

وفي إشارة إلى كرم السوريين الذي لمسه فريق الصحيفة أينما حلّوا، جاء في التقرير: “نهض السيد طعمه من مكانه ليعود إلينا حاملاً طبقاً من الحلويات المحشوة بالتمر والمكسرات، فكل السوريين الذين إلتقيناهم قدّموا لنا شيئاً بداعي الضيافة غير آبهين لقلة الكمية التي بحوزتهم. وهنا، في مجلس السيد طعمه كان من غير اللائق رفض تناول الضيافة”. وقد أشارت السيدة كوهوت، وهي مصوّرة الفريق إلى أنها رأت السيد طعمه يبحث في قعر الخزانة ليخرج آخر علبة حلوى كانت أم فارس قد صفّت بها تلك الحلويات بعناية فائقة. وعندما ودّع الفريق عائلة طعمه على مشارف ذلك الشارع المسحوق، كان السيد طعمه ينظر إلى حيث كان، وما يزال، منزله ليقول: “هذه أفضل منطقة في مدينة دوما بأسرها”.
وعندما قرر الفريق التوجه إلى مدينة اللاذقية الساحلية تضاعف عدد المرافقين. فالمدينة المكتظة بـ “المسلمين العلويين”، طائفة الرئيس الأسد، والمهمشين سابقاً والتي عززت أبنائها في صفوف الجيش وقوى الأمن، “باتت حصناً للأسد وعائلته”.

وفي قرية بيت ياشوط الجبلية، كانت صور الشبان “الشهداء” الذين قتلوا في الحرب دفاعاً عن الأسد معلقة على أعمدة الهاتف. وقد رافق الفريق حشداً من الضباط والمسؤولين ليتنقلوا من منزل إلى آخر في القرية. وعند سؤال والد ياسين حسانه، أحد الجنود الذين قتلوا في المعارك، عما إذا كان الأمر يستحق تلك التضحية؟! أجاب وعيناه تحدقان بالضابط قائلاً: “كل شيء فداء لسوريا” ليهز الضابط رأسه موافقاً. ليضيف الأب: “أتمنى أن نصبح جميعنا شهداء في سبيل الوطن”. أما زكية أحمد حسان، إحدى الأمهات الثكالى على أبنائهن الشهداء، أحضرت الكرسي البلاستيكي الذي اعتادت الجلوس عليه بالقرب من قبر ابنها حيث تغني له، فقالت: “لقد كان شرفاً لنا أن نضحي به”. وأضافت: “لقد كان يدافع عن الوطن”.
وفي الوقت الذي يعتقد فيه الكثير من غير “العلويين” أن “العلويين” كوفئوا بشكلٍ كبير مقابل ولائهم للأسد، إلا أن تلك العائلات كانت بالكاد تحصل على شيء من هذا القبيل. فقد تحدثوا عن ارتفاع أسعار البطاطا والزيت والسكر، وأنهم غير قادرين على شراء حليب الأطفال، كما أنهم توقفوا عن شراء اللحوم.وقد مررت السيدة حسان يدها عبر الخضروات التي كانت تزرعها بالقرب من قبر ابنها، وقالت: “حتى لو فرض الأمريكان عقوبات علينا، فيمكننا على الأقل تناول الخبز والخيار!”.

وقد حرص إبراهيم خضر السالم، محافظ اللاذقية، على التأكيد بأن الحكومة تخصص مزيداً من الموارد لأسر الشهداء. وكان من المفترض أن لهم الأولوية في الحصول على الوظائف الحكومية إلى جانب بعض الامتيازات الأخرى مثل الإعفاء من الضرائب المفروضة على السيارات والرسوم الجامعية. كما أكد بالقول: “الرئيس الأسد شخصياً يعطي الأولوية لهذه الأمور”. وأضاف: ” يتابع كل من سيادته والحكومة وضع أسر الشهداء بشكلٍ يومي “. وقد عمل ثلاثة من المصورين التابعين للنظام السوري على تسجيل اللقاء مع المحافظ إلى أن انتهى من سرد كل ما في جعبته.
وفي الطريق شمالاً باتجاه حلب، كانت المركبات المحترقة مقلوبة رأساً على عقب على جانب الطريق، وكان الدخان ينتشر على مسافة من إحدى الحرائق التي التهمت مؤخراً آلاف الهكتارات من المحاصيل الزراعية. ومن الواضح أن لا أحد يعرف من الذي يقف وراء إشعال تلك الحرائق، إنما الجميع متأكد من أن معاناة الجوع التي تعاني منها سوريا سوف تزداد سوءاً.

لقد كانت حلب قبل الحرب، أكبر المدن السورية والتي تعتبر المحرك التجاري لها، أكبر منافساً للعاصمة دمشق. وبحسب رنا، مرافقة الفريق، فإن شعب حلب لم يعرف طعم النوم في الليل أبداً، أو لم يعتادوا على ذلك. إلا أن الحصار الذي فرضه النظام على المدينة أدى إلى تخريب سوقها الأثري الذي يعود إلى القرن الرابع عشر، وكذلك معظم أنحاء المدينة، وأغرق المدينة في ظلام دامس. وبالرغم من مرور عامين ونصف على ما وصفه الجميع للفريق بتحرير حلب الشرقية التي كانت تخضع لسيطرة الثوار، إلا أنه لا تزال المولدات الكهربائية هي مصدر الكهرباء الرئيسي في المدينة.
ومع غياب الأموال إعادة اللازمة، فإن عملية إعادة إعمار المدينة تعتمد على جيوب الأفراد. فهناك أشخاص لا يمكنهم تحمّل تكاليف أبواب ونوافذ حتى، وهناك أفراد يعيشون بدون كهرباء لذلك تجد معظم الناس يمضون الليالي خارج منازلهم إلى أن يحين وقت النوم. أما من ناحية الخدمات الصحية، فقد استأنفت المستشفيات الحكومية فقط عملها، ربما لأن قوات النظام قصفت المستشفيات العامة مراراً وتكراراً فتركتها إلى اليوم في حالة من الخراب. أما في وضح النهار، فقد كانت المدينة تعج بحركة المرور وباعة البطيخ المتجولين. وفي أحد صالونات الحلاقة قالت سيدة بأنها اليوم تحصل على أول قصة شعر لها منذ بداية الحرب.

وقد فتحت المدارس أبوابها في حلب، فهي على وشك البدء بعامها الدراسي الجديد، و”عاد الأمان إلى سوريا”، بحسب إحدى اللافتات. إلا أن الأمان الذي أعلنت عنه تلك اللافتة كان بعيد المنال بالنسبة للسيدة أم أحمد البالغة من العمر ثمانية وعشرين عاماً، والتي كانت تجلس منحنية الظهر مع أختها في ساعة الغسق محاطتان بالمباني المدمرة. فعلى حد قولهما، فقد فقدتا زوجيهما بعد اعتقالهم من قبل قوات النظام عندما تقدموا في شرق حلب في العام 2015. وكان مرافقي الفريق يقتربون أكثر فأكثر، فرنا، التي لم تذكر اسم عائلتها، أخبرت أم أحمد أن الأمر أكثر تعقيداً مما ذكرته، وأنه لا ينبغي لها أن تتحدث بهذه الأمور إلى الصحفيين. “هل يجب أن أكذب؟ هذا ما حصل فعلاً”، أجابت أم أحمد. وهنا قادت رنا أم أحمد إلى المطبخ لتتعالى أصواتهن. إلا أن أم أحمد كانت هادئة عندما عادت إلينا.

وعندما حان وقت العشاء في ليلة الفريق الأولى في حلب، قال سائقهم أبو عبدو أنه يعرف عدة أماكن لتناول الطعام قريبة من الفندق الذي نزلوا به، حيث أنه كان يأخذ السياح إلى تلك الأماكن في الفترة التي سبقت الحرب. وقد رافقهم إلى أول مطعم تذكره. وأول مطعم تذكره كان قد اختفى عن الوجود، وكذلك الثاني. وفي منتصف الطريق باتجاه البناء التالي كان يقف رجلاً في المدخل الوحيد المضاء لبناء بجواره لافتة تقول: “روستو أبو نواس”، فهرع أبو عبدو نحوه. “سيد محمود هل تتذكرني؟ لقد كنت أتردد إلى هنا طوال الوقت. كان طعامك أفضل طعام، نعم كان الأفضل”. إلا أن عبد الغني محمود، صاحب المطعم لم يتعرف عليه في بداية الأمر. ولكن بعد حين وبشكلٍ مفاجئ صارخ: “آه نعم”، وكرر: “نعم تذكرت”.
لقد كان المطعم خاوياً إلا من الشيف المحدوب الظهر والذي كان يجلس إلى إحدى زواياه. جلس الفريق إلى طاولةٍ كان غطائها ملطخ بالبقع بشكلٍ يشبه النقوش على جدران مدينة حلب القديمة. وقد حام بعض الذباب حول المكان الذي يتواجد فيه الطعام. الشيء الوحيد الذي لم تغيره سنون الحرب هو الطاولة المليئة بالطماطم والخيار والفجل والنعناع الطازج. وعندما طلب أبو عبدو مشروباً بارداً اعتذر السيد محمود بالقول: “لقد تعطلت مولدة الكهرباء التي كانت تشغل الثلاجة، لذا لا يوجد ثلج”. وهنا توجه أحد الصحفيين إلى المترجم وطلب منه سؤال أبو عبدو: “هل كنا حقاً سوف نتناول اللحوم هنا؟!”.

قدم مطعم السيد محمود أولاً الخضروات، ثم طبق الحمص والمتبل، والباذنجان المشوي. ثم العديد من الأطباق التي تحتوي الدجاج المتبل المشوي والكباب. عندها بدأ الفريق بتناول الطعام ناسياً مسألة التبريد. لقد تناولوا هذه الأطباق مراتٍ عدة من قبل، في لبنان وفي سوريا الآن. إلا أن هذا كان أفضل طبقٍ يتناولوه. وقد أكد أبو عبدو: “إنه بذات المذاق. نفس الطعم الذي أتذكره من قبل”. وعندما غادر الفريق المطعم كان الشارع فارغاً ومظلماً بالرغم من أن الوقت لم يكن متأخراً بعد. لكن سنوات كثيرة مرت منذ أن كانت حلب تبقى مستفيقة طوال الليل.
وقد اشتكى فريق نيويورك تايمز إلى وزير الإعلام بشأن كثرة المرافقين، ليجيب الأخير أن عليهم تفهّم الوضع. فهنا ليست أمريكا، وأنهم يقومون بعملهم بشكلٍ مختلف وأن الجميع يفترض بأنهم جواسيس. وعندما حان الوقت لمغادرة سوريا، رافقت الاستخبارات العسكرية السورية الفريق إلى الحدود اللبنانية. وقد اضطروا للتوقف على جانب الطريق السريع أربعة مرات بسبب أعطال سيارتهم. فعلى ما يبدو لم تكن الميزانية تشمل صيانة سياراتهم. وفي كل مرة كانوا يحاولون فيها العودة إلى الطريق، كان صندوق سيارتهم السوداء التي تملئها الخدوش يفتح بطريقةٍ وتوقيتٍ مضحكين.
ولكن، كيف بدا النصر في سوريا؟ لقد قتل ما لا يقل عن نصف مليون شخص، وتشرّد أكثر من أحد عشر مليون آخرين عن منازلهم. وتحولت المدن إلى حطام، وحلت الأشباح محل الجيران. أما مراكز التسوق فلا يرتادها إلا فئة معينة، في حين يزرع آخرون الخيار ليسدوا به رمقهم. ومعظم الأشخاص الذين قابلهم الفريق كانوا حريصين على ما ينطقون به، متجنبين الحديث عما يتعلق بالماضي أو المستقبل، لكن رؤوسهم المطأطأة كانت عازمة على البقاء والاستمرار بالعيش. إلا أن شيئاً ما كان دائماً يذكر الفريق بأن سوريا أكبر من الحرب التي حلّت عليها، مهما كانت طويلة ومهما كانت الفظائع والأهوال التي ارتكبت بحقها.

ترجمة موقع (الحل)

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.