لبنان (الحل) – حملة وزارة العمل اللبنانية ضد العمالة الأجنبية في لبنان، أدت إلى صدام فلسطيني لبناني بشأن العمال من اللاجئين الفلسطينيين في هذا البلد، وكانت إحدى مظاهره تحرك أثرياء فلسطينيين من أصحاب الودائع في المصارف اللبنانية في اتجاه سحب ودائعهم للضغط على القطاع المصرفي اللبناني شديد الصلة بالحكومة، لوقف الإجراءات بحق العمل الفلسطينيين والعمل على تحسين ظروف عملهم وقوننته.

استجلبت هذه الحادثة الحديث عن السوريين الأثرياء وأصحاب الاستثمارات ورؤوس الأموال في لبنان، خاصة لجهة تجنبهم عموماً الخوض في الأمور “السياسية” أو تلك المتعلقة بالسياسات والممارسات العنصرية بحق اللاجئين من مواطنيهم.
إلى جانب الاختلاط العائلي بين السوريين واللبنانيين تاريخياً، شكل لبنان متنفساً اقتصادياً للسوريين على مدى عقود طويلة، ويمكن فهم ذلك بالعودة إلى اختلاف النظامين الاقتصاديين في سوريا ولبنان، فبينما كان الاقتصاد السوري قريباً من النظام الاشتراكي، مراقب حوكمياً ومقيد بشدة، كان الاقتصاد اللبناني اقتصاداً شبه ليبرالي، حراً يشجع على المبادرة الفردية ومنفتحاً على الأسواق الخارجية.

ومع حركة “التأميم” في سوريا التي شملت الملكيات الزراعية والمنشآت الصناعية والمصالح التجارية والمدارس الخاصة، انتقلت بشكل نهائي أو شبه نهائي رؤوس أموال سورية كثيرة من سوريا إلى لبنان هرباً من التعدي على الملكيات الخاصة باسم الاشتراكية وملكية الشعب، وبات هاجس التأميم جاثماً على صدور أصحاب رؤوس الأموال القديمين أو الناشئين مذ ذلك الوقت، فشكلت بيروت بمصارفها محطة عمل مالية لهم، يخزنون فيها ثرواتهم ويقصدونها للترفيه السريع والتسوق والاستشفاء.

حتى مع وصول وصول رئيس النظام الحال بشار الأسد إلى الحكم وافتتاح بعض المصارف الخاصة، لم يغادر الماضي ذاكرة أصحاب رؤوس الأموال وبقيت المصارف الخارجية، واللبنانية أقربها، المفضلة لدى السوريين. وفي هذا السياق يشرح صاحب منشأة صناعية سابقة في ريف حلب “أبو طوني” أن المصارف الخاصة التي افتتحت بعد عام 2000 كانت مقيدة بقوانين الدولة في حركتها، وبقيت عمليات التحويل إلى خارج القطر غير قانونية، بالإضافة إلى أن المصارف اللبنانية التي افتتحت فروعاً لها في سوريا كانت مقيدة بالقانون الذي فرض عليها أن تكون فروعها السورية مستقلة تماماً عن المصرف الأم في لبنان، وعليه لا أستطيع أن أحول مبلغاً مالياً من حسابي في بنك بيبلوس حلب إلى بنك بيبلوس بيروت. ويتابع أبو طوني شارحاً كيف عمد وآخرين إلى فتح حسابات صغيرة أو متوسطة في المصارف السورية الخاصة، ولكن رأسمالهم الأساسي وعملياتهم المصرفية بقيت تتم عبر المصارف اللبنانية.

مع اندلاع الثورة السورية والأحداث التي تلتها، لم يعمد أصحاب الثروات كلهم إلى مغادرة البلاد بطبيعة الحالـ فخياراتهم ارتبط على نحو منطقي بالجنسيات التي يحملون، ورأيتهم لمستقبل البلاد، واصطفافهم السياسي، ووضع استثماراتهم في سوريا، ومن لم يأخذ قراراً بمغدارة البلاد نهائياً إلى بلاد المهجر، أو رأى أن توتر الأوضاع هو فترة مؤقتة ستنتهي خلال أشهر أو أكثر بقليل، نقل عائلته إلى لبنان وبقي هو يتنقل بين البلدين مقسماً وقته بين عائلته وعمله.

في أغلب النقاشات الإعلامية والسياسية، والحملات التي توصف بالعنصرية في لبنان بشأن اللاجئين السوريين، يكون هؤلاء الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال مستثنين تلقائياً من النقاش، حتى يكاد يظن أن مشكلة العنصريين من اللبنانيين هي فقط مع اللاجئين الفقراء وليست مع كل السوريين كما يقتضي “المنطق العنصري”.
يتمتع أفراد هذه الطبقة بالإضافة إلى طبقة الفنانين من ممثلين ومغنين، بعلاقات وصلات لبنانية تتيح لهم تسهيلات ليس في متناول اللاجئين السوريين العاديين، منها ما يتم فوق القانون عن طريق الواسطة، ومنها ما يتيحه امتلاك العقارات والمنازل والمعامل الذي يسمح بحكم القانون تسهيلات على صعيد دخول البلاد والإقامة فيها. وحتى في المدارس الراقية التي تشترط لقبول تلميذ جديد أن يكون من سبقه في عائلته من رواد المدرسة، بدأ عدد التلاميذ السوريين بالإزدياد رغم التكاليف الباهظة لهذه المدارس مثل ليسيه نهر إبراهيم، وليسيه عبد القادر، وبرمانا هاي سكول، بواسطة علاقات أهاليهم وتبرعاتهم المالية لهذه المدارس!

بمتابعة حسابات بعض أصحاب رؤوس الأموال من السوريين الذين انتقلوا إلى لبنان بعيد اندلاع الثورة، يمكن مشاهدة صور لهم ولعائلاتهم أحياناً رفقة مسؤولين لبنانيين من نواب ووزراء ورؤوساء بلديات، بمن فيهم جبران باسيل نفسه، الذي يعتبر من قبل كثيرين أنه صاحب الخطاب الأكثر عنصرية بحق اللاجئين السوريين، بينما يمكن الاستنتاج من الصور التي تعبر عن تقارب ما بين بعض السوريين الأثرياء والشخصيات السياسية اللبنانية أن المال والمصالح المشتركة يستطيعان تجاوز كل العقبات القانونية والعنصرية، أو أغلبها على الأقل.

بعض أصحاب المنشآت الصناعية من السوريين نقل معامله إلى لبنان، ومنها تلك الخاصة بالمواد الغذائية كالبسكويت بأنواعه، والخاصة بالمواد النايلونية والأكياس ومواد التغليف، والتصميم والطباعة، ومواد التنظيف، وقطاع المطاعم والمقاهي والترفيه وغيرها محدثين منشآت بملايين الدولارات وموظفين المئات من العمال أغلبهم بطبيعة الحال من اللاجئين السوريين. مع وجود حالات شراكة في رأسمال مع رؤوس أموال لبنانية ربما لأسباب متعلقة بالوضع القانوني والحصول على تسهيلات وغض نظر من قبل السلطات.
المفارقة أن بعض أصحاب هذه المنشآت الذي يقومون بتشغيل اللاجئين السوريين وهم بغالبيتهم من مؤيدي النظام السوري، يقومون باستغلال حاجتهم ووضعهم اللا قانوني في لبنان، ليجبروهم على العمل لساعات طويل مع إجازات محدودة وبرواتب هزيلة حتى لحملة الشهادات الجامعية الذين يعملون باختصاصاتهم.

تطور العلاقات بين أصحاب رؤوس الأموال السوريين والطبقة السياسية في لبنان، خاصة الطبقة السياسية الحاكمة من حزب الله وحليفه التيار الوطني الحر أوصلت أسماء تجاوزت المئة من هؤلاء إلى مرسوم التجنيس الذي تم قبل أكثر من عام والذي أثار ضجة داخلية في لبنان بسبب حساسية تجنيس السوريين والفلسطينيين والمناكفات السياسية تحت ستار الوطنية والوهوية اللبنانية في الأحزاب والتيارات السياسية اللبنانية.
صحيح أن منح الجنسية تم لعدد محدود من السوريين، عدد غير قليل منهم معني بالجنسية لحسابات تتعلق بالعقوبات الأمريكية ولا علاقة له كثيراً بنشاطاته في لبنان، إلا أن المرسوم الماضي قد فتح شهية الكثير من الأثرياء السوريين في لبنان لطرق أبواب الحصول على هذه الجنسية التي توفر لهم حرية الحركة والتملك والعمل، دون أن يبتعدوا جغرافياً عن مدنهم الأصلية فيحافظون على استثماراتهم المتبقية في سوريا، بينما يقبعون قرب أموالهم المودعة في المصارف اللبنانية، موفرين مستوى من الحياة والخدمات لعائلاتهم لم تعد سوريا قادرة على تقديمه برأيهم، وتبقى مأساة اللاجئين السوريين بعيدة عن اهتماماتهم في كثير من الأحياء وليسوا مستعدين لبذل جهد في سبيل الدفاع عنهم أو المطالبة بتخفيف القيود عليهم.

رجا أمين

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.