تصدرت الليرة السورية، أخبار وسائل الإعلام المحلية والعربية، وحتى العالمية خلال الأيام الماضية مع الهبوط المدوي في قيمتها أمام الدولار الأمريكي، ووصوله لمستويات تاريخية، واقترابه من حاجز الـ 700 ليرة لأول مرة، ليس فقط منذ اندلاع الحرب في عام 2011، بل منذ بدء تداولها عام 1948.

وعادت الليرة للتحسن خلال اليومين الماضيين، إذ تراجع سعر الصرف إلى 6000 ليرة للدولار الواحد.

تعددت الأسباب والتحليلات حول الانهيار المتسارع لـ الليرة السورية، التي فقدت أكثر من 35% من قيمتها خلال شهرين فقط، فالبعض يراها نتيجة العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية على النظام التي تزداد يوماً بعد يوم، لإجباره على القبول بصيغة حل سياسي.

والآخر يراها تتعلق بمسائل داخل بنية الحكومة السورية، من حيث تراجع مدخولاته بالعملة الصعبة وتدهور الإنتاج المحلي، في ظل عجر (المصرف المركزي) عن إيجاد مخرج، والذي مازال يحدد سعر الصرف عند حدود 435 ليرة.

وأمام هذا العجز الاقتصادي، الذي وقع فيه النظام منذ نهاية العام 2018، وبدأ مسلسل تدهور الليرة، لابد من طرح هذا التساؤل: أين حلفاء النظام (روسيا وإيران) الذين ساندوه على مدار السنوات الماضية عسكرياً وسياسياً وحتى اقتصادياً من حالة التدهور هذه؟

وهل نحن أمام مرحلة جديدة بإيقاف الدعم الاقتصادي عن النظام بعد عشرات العقود التي استحوذت عليها كل من روسيا وإيران في سوريا؟

هل ينهار الاقتصاد السوري؟

“لم يكن العامل الاقتصادي المتدهور مقياساً كافياً لسقوط الأنظمة الاستبدادية والشمولية، والتجربة التاريخية حول العالم تؤكد هذه الحقيقة”، بحسب الدكتور في العلوم الاقتصادية (رفعت عامر) في مقال رأي نشره موقع (الاقتصاد) الإلكتروني.

وأوضح الدكتور عامر أنه “على العكس من ذلك، كان العامل الاقتصادي المتدهور يعمل على تحلل الدولة والمجتمع وتحويل نظام الحكم فيها إلى عصابات وأمراء حرب تعايشت مع الأوضاع الجديدة، فلم يسقط نظام صدام حسين بسبب العامل الاقتصادي وكذلك الأفغاني وغيره”.

وأشار إلى أن “السلطات السورية ستكون قادرة على إيجاد الحلول والمخارج عن طريق الداعمين له، والذين لن يتخلوا عنه قبل تحقيق مصالحهم كاملة”.
في مقابل ذلك، لم تكن العقوبات الاقتصادية التي فرضت على الحكومة السورية، رغم شدتها، شرط لازم لانهيار النظام اقتصادياً، وهو ماحدث فعلياً في أوائل العام الجاري، بعد أزمة الطاقة (الغاز والبنزين) التي عصفت بمناطق سيطرته، وقيل حينها إن النظام انهار اقتصادياً، وهذا لم يحدث.

فسرعان ما وجد عدة بدائل وقام بتحرير أسعار المحروقات مع إبقاء الدعم بشكل محدود، ماسبب فجوة كبيرة بين مستوى دخل الفرد وإنفاقه، حيث لم يرفع النظام الأجور منذ العام 2014، والتي لاتتجاوز حالياً وفق أسعار الصرف 60 دولاراً.

من جانب آخر، أكد الصحفي الاقتصادي “أيمن محمد” لموقع (الحل) أن “السلطات السورية تحاول زيادة الفوضى بالسوق من ناحية أسعار صرف الليرة، وذلك للإيهام بأن انهيار الليرة وهمي”.

وأردف أن “الدليل على ذلك وجود 5 أسعار صرف مختلفة، فالمركزي لم يعدل في الأسعار التي طرحها منذ سنوات، ولتمويل المستوردات سعر صرف خاص، وكذلك الأمر بالنسبة للحوالات الخارجية، ومحلات الصرافة المرخصة، إضافة إلى السوق السوداء المتحكم الأول بالسوق”.

أين الحلفاء في محنة انهيار الليرة؟

حاولت الدول الداعمة للسلطات السورية، لاسيما (روسيا وإيران) الموازنة بين الدعم العسكري والاقتصادي المقدم لها في سبيل الخروج من الحرب بصفة “المنتصر” على كافة الأصعدة، ومن ثم جني ثمار هذا الدعم عبر تدفق أموال “إعادة الإعمار” والاستحواذ على المشاريع الاستراتيجية طويلة الأمد، من خلال عقود واتفاقيات مسبقة كانت قد وقعت بين الحكومة السورية من طرف، وروسيا وإيران كل على حدة.

إيران كانت السباقة في دعم الحكومة السورية اقتصادياً، فبدأت منذ العام 2013 بتفعيل مايسمى “الخط الائتماني”، وهي عبارة عن قروض مالية تمنح للنظام يستطيع من خلالها شراء مواد غذائية ومشتقات نفطية وغيرها من إيران حصراً.

وكان القرض الأول بمقدار مليار دولار في 2013، وتبعه القرض الثاني في نفس العام وبلغ 3.6 مليار دولار، ليصادق (بشار الأسد) على القرض الثالث في 2017 بقيمة مليار دولار بغرض تمويل الصادرات.

ومع بدء الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، بفرض حزمة من العقوبات الصارمة على النظام وإيران على حد سواء، بدأت الآثار السلبية على الاقتصاد السوري، وتجلى في أزمة المحروقات الأخيرة، ومنع إمدادت النفط بالوصول إلى السلطات السورية، ما اضطرها لفتح قنوات استيراد جديدة وتحمل أعباء مالية جديدة بالعملة الصعبة لتأمين المشتقات النفطية.

ومن ثم بدأت الحكومة السورية تحميل أثار العقوبات، على المواطن عبر تخفيض الدعم وتحرير أسعار المواد، وذلك يعتبر من العوامل الرئيسية لانهيار الليرة حالياً، إذ بلغت الخسائر في قطاع النفط والغاز خلال سنوات الحرب نحو 74 مليار دولار، وفقاً لـ”وزارة النفط والثروة المعدنية” التابعة للحكومة السورية.

وبما يخص روسيا، لم يكن دعمها الاقتصادي للحكومة السورية بنفس وتيرة الدعم الإيراني، فموسكو التي وقفت إلى جانب السلطات السورية في عام 2015 عسكرياً، سعت لتحصل مكاسب اقتصادية من خلال العقود والاتفاقيات “طويلة الأمد” الموقعة مع الحكومة السورية في مجال الطاقة واستخراج الفوسفات والنقل والموانئ وغيرها.

كما دعمت موسكو الحكومة السورية في استيراد القمح والغاز، وعمليات التبادل التجاري مع القرم وأوسيتيا الجنوبية التابعتين لموسكو.

وقامت قبل شهر تقريباً بشطب الديون المترتبة على سوريا والتي وصلت لـ 9.8 مليار دولار، في مقابل استمرار العقود الحصرية، والامتيازات في الموانئ والمطارات والتحكم في طرق النقل، التي تمر من سوريا.

ما التوقعات لوضع الليرة وتحولاتها؟

روسيا وإيران، بحسب وصف الصحفي الاقتصادي (أيمن محمد) عاجزتان عن دعم الليرة السورية، والتدخل في سعر الصرف، كونهما تخضعان لعقوبات أمريكية وأوروبية أيضاً.

ولفت أن لكل من روسيا وغيران مناطق نفوذ داخل سوريا، ولم يعد يهمها كثيراً تدهور الليرة أو حتى انهيار الاقتصاد”.

وأضاف محمد أن “الهم الأول والأخير لكل من روسيا وإيران هو بدء عملية إعادة الإعمار، لجني المكاسب لتعويض ما صُرف من مليارات طوال سنوات الحرب، التي تعتبر مصدر للقطع الأجنبي الذي فقدته السلطات السورية جراء تخليها عنها لصالح حلفاؤها”.

“لكن هذه المساعي قوبلت بمعارضة أوروبية أمريكية بسلسلة من العقوبات قيّدت الحركة الاقتصادية داخل سوريا وجعلتها تعصف بالأزمات”، بحسب محمد.

وأشار المحلل الاقتصادي (سامر المبيض) لموقع (الحل) إلى أنه “لا يوجد ناتج محلي يمكن الاعتماد عليه في إدخال القطع الأجنبي إلى سوريا، فمعظم حقول النفط خرجت عن سيطرة الحكومة، وكذلك عائدات السياحة والزراعة وغيرها أصبحت بمستوياتها الدنيا”.

“كما أن جلب المستثمرين الذي حاول النظام استقدامهم في معرض دمشق الدولي فشل مع التحذيرات الأمريكية للشركات، التي تنوي الاستثمار بشملها بالعقوبات من جهة، والتخوفات من السيطرة الإيرانية الروسية التي تسعى لاحتكار اقتصاد البلد بالعقود والامتيازات”.

وختم المبيض حديثه بأن “السلطات السورية قادرة على خفض قيمة الدولار بمستوى 100 ليرة لا أكثر، لكنه في المجمل لم يعد قادراً على تخفيض سعر الدولار تحت 600 ليرة، وبالتالي سيلجأ إلى سياسة زيادة الأسعار والضرائب، والاستمرار في سياسة رفع الدعم، ما يؤدي إلى زيادة انتشار الفقر ومعدلات التضخم، دون انهيار كلي للاقتصاد”.

إعداد وتحرير: أسامة مكية

الصورة من الأرشيف

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.