بات مبدأ «المصلحة المشتركة» أكثر وضوحاً للسوريين على مدار تسع سنوات من تحالفات الدول ومواقفها من الاحتجاجات السورية في الأشهر الأولى من العام 2011، ومن ثم الصراع الذي تحوّل تدريجياً إلى حرب كبرى بين أطراف متناحرة في المنطقة على الأرض السورية.

وأصبح اليوم من السهل فهم موقف موسكو، المتحالفة مع دمشق وتل أبيب في آن واحد، الندّ لواشنطن، والمتقارب مع أنقرة، والمتعارض مع طهران. ومواقف طهران، المتقاربة مع أنقرة، المعلنة عداءها لتل أبيب، المتحالفة مع دمشق! فأين إيران اليوم من الهجوم التركي على شمال شرق سوريا؟

على عكس ادعاءات وتصريحات الحكومة السورية بشأن العملية التركية، لا تصرّح طهران بشكل علني رفضها لهذه العملية، وإن حدث ذلك فكان خجولاً ولا يوازي حجم العملية المستمرة لليوم الرابع على التوالي.

وتجد إيران مصلحتها العُليا في هذه العملية، فهي من أشد الدول محاربة وقمعاً للأكراد، إذ تخشى تكرار النموذج العراقي المجاور لها في سوريا، وبذلك يُصبح كرستان سوريا بجوار كردستان العراق، ممهدين لكردستان إيران لاحقاً، فهي تدعم بكل ما أوتيت من قوة ومن تحت الطاولة، الهجوم التركي الذي يُبدّد أحلام الكورد بإدارتهم الذاتية.

ولطالما تلاقت مصالح دمشق وطهران وأنقرة حين يكون الحديث عن محاربة الأكراد، ولا تُخفي دمشق ذلك من خلال انكفاءها العسكري عن محاربة الأتراك بسلاحي الجو والصواريخ، وترك القاعدة التركية في مورك بأمان مع إيصال الطعام والشراب لها، ووصل الأمر إلى حدّ الشماتة بالأكراد من خلال المحللين السياسيين الذين يستضيفهم التلفزيون السوري.

أما طهران، فتغيبُ التفاصيل الإنسانية للعملية التركية، وتُغطّى العملية في إعلامها وأخبارها كأنها معركة بين جيشين نظاميين متكافئين في القوة، وأحدهما يغلبُ الآخر، لا بين دولة معتدية على سيادة دولة أخرى، ومجموعات مقاتلة كوردية لا تملك أسلحة ثقيلة ولا دعماً لوجستياً.

تغض الطرف طهران إذاً عن كل الخسائر البشرية التي تلحق بالسوريين شمالاً، ولا تُمارس أي ضغط على أنقرة لإيقاف العملية، بل على العكس تماماً، هي تتمنى إكمال العملية حتى آخر لحظة.

بالمقابل، تجد طهران الآن أن الفرصة مواتية لها، كي تتغلغل مرة أخرى في الشأن السوري الاجتماعي والمحلي، مستغلة انشغال الروسي المُطارد لها، وعدم تركيزه حالياً على الجانبين الاجتماعي والثقافي، واهتمامه في المجالين العسكري والاقتصادي.

أزيحت طهران شيئاً فشيئاً من المشهد العسكري السوري، وضربت مقرّاتها واحداً تلو الآخر بصواريخ إسرائيلية وبرضى روسي، وسُحب البساط من تحتها في كثير من الملفات الاقتصادية، فلم يبق لها سوى المناورات في المواضيع والملفات الاجتماعية والثقافية، والتي من ورائها قد تنجح في استغلال فقر الناس وجهلهم بعض الأحيان من أجل ضمّهم لمدّها الشيعي، أو نشر أفكارها المذهبية، وقد حصلت تلك المحاولات في دير الزور وحلب، من خلال توزيع مساعدات غذائية وعينية، وعليها العديد من الشعارات المذهبية التي تحمل طابعاً طائفياً.

أدركت إيران إذاً أنها ستخرج جنودها من سوريا عاجلاً أم آجلاً، لكنها لا تريد أن تكون خارج اللعبة، فتبحث عن نفسها موطئ قدم داخل البلاد، من البوابة الخلفية، وأنشأت العديد من المؤسسات الإعلامية والثقافية والتربوية بحجة دعم السوريين، وقدمت منح تصوير أفلام سينمائية عرضت في حلب ودمشق، وأقامت العديد من الندوات في دار الأوبرا وسط العاصمة السورية، رُفع خلالها العلم التركي، ومن خلفه صور لخامنئي والخميني، وقدّمت فيها سوريا بالشكل الذي تريده إيران.

قد تكون قناة «العالم سوريا» أكثر الدلائل تصديقاً للمعطيات السابقة، فهذه المحطة الإيرانية الناطقة باللغة العربية، والموجهة للجمهور السوري، قد بدأت عملها منذ حوالي سنة، لتضخ برامجها وأفكارها بشكل تدريجي، لكننا نجدُ أن ما يُعرض على الشاشة يُخالف الواقع، رغم أن كل اللقطات والمشاهد والبرامج مصورة داخل سوريا، فترفض القناة عرض أي لقطة من الشارع أو أي مكان العام، وفيه المشهد فتاة بغير حجاب، ويتعمد المصوروين والكادر الفني أن تكون كل النساء العاملات معهم والمذيعات، وحتى الضيفات ومن يتم استضافتهنّ في البرامج الصباحية، يتم إلزامهنّ جميعاً بارتداء الحجاب.

تظهر «سوريا أخرى» بالمنظور الإيراني، سوريا المحجبة والمرتدية للعباءة السوداء، والتي تحاول إيران أن تُمليها مستغلة الانشغال الروسي!

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.