نشرت صحيفة “فايننشيال تايمز” تقريراً توضح فيه محاولة نظام الأسد ضمان عدم إعادة تشكيل مجتمعات سكانية ذات غالبية من “السنة”. فما تزال الحرب في سوريا، وبعد أكثر من ثماني سنوات، تستمر مثل عاصفة هائجة تحوم باتجاهات وأشكال مختلفة بقدرة كبيرة على التدمير. ومن الواضح أن العنف يطلق عنانه في محافظة إدلب الشمالية الغربية، المعقل الأخير للثورة التي انفجرت في العام 2011 ضد نظام الرئيس بشار الأسد. فقد استأنفت قوات الأسد بدعمٍ من الجوية الروسية الهجوم لاستعادة السيطرة على إدلب التي سيطرت عليها مجموعات من المعارضة المسلحة والإسلاميين في العام 2015.

وكان قد تم تأجيل معركة إدلب قبل عامٍ باتفاقية بين روسيا وتركيا لتحويل المنطقة إلى منطقة خفض تصعيد وضبطها بشكلٍ مشترك. وكانت محافظة إدلب، التي تضخم عدد سكانها ليصل إلى ثلاثة ملايين نسمة بسبب هروب اللاجئين من النظام في الجنوب، قد استخدمت لمحاصرة المعارضة المسلحة الباقية على قيد الحياة ومن ضمنها هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، آخر فرع للقاعدة في سوريا.

كما كانت تركيا قد أسست، بتواطؤ روسي، جيبين في شمال غرب سوريا في العامين 2016 و 2018 كجزء من حملتها المستمرة لمنع القوات الكردية من تأسيس دولة أو كيان لهم على حدودها من شأنها أن ترتبط بالجموح الكردي منذ خمسة وثلاثين عاماً في الداخل التركي. وفي المقابل كان يفترض على الجيش التركي، الذي لديه نقطة مراقبة في إدلب، كبح جماح هيئة تحرير الشام. ولكن بدلاً من ذلك تم دحر وكلاء تركيا من السوريين والبالغ عددهم حوالي ثلاثين ألف مقاتلاً من قبل هيئة تحرير الشام.

الآن، وبعد أشهرٍ من القصف المدمر للبلدات، ومن ضمنهم خان شيخون الواقعة في جنوب إدلب والتي شهدت هجوماً مميتاً من النظام بـ “غاز الأعصاب” في نيسان من العام 2017، بدأت الحملة من جديد. فحوالي 500 ألف شخص من سكان إدلب هربوا باتجاه الشمال، وقد تعرضوا للضغط على الحدود الشمالية الغربية مع تركيا. من جانبها تقول كل من روسيا ودمشق بأن أنقرة قد أخفقت في الوصول إلى نهاية الاتفاق. وإن كان ذلك صحيحاً، إلا أن الاتفاق لم يكن قابلاً للتطبيق أصلاً. فالقوات التركية،إلى جانب حلفائها من الفصائل المعارضة المسلحة السورية الذين دُحروا من قبل هيئة تحرير الشام، لم يحاولوا حقاً. وقد كان تركيزهم في ذلك الوقت على منطقة شمال شرق الفرات، حيث أخبر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العالم بأنه يعتزم إنشاء “منطقة آمنة” في شمال شرق سوريا بطول 480 كيلو متراً وعمق 30 كيلو متراً في البلاد لإعادة توطين مليوني لاجئ سوري أو أكثر. وقد أظهر أردوغان خرائط لتوضيح هذه المنطقة الآمنة في الجمعية العامة السنوية للأمم المتحدة. ويذكر أن تركيا تستضيف 3.6 مليون لاجئ سوري وسط ركودٍ اقتصادي يتسبب بتحول المشاعر العامة ضدهم.

وقد تسبب النزاع في سوريا بنزوح ما يقارب من نصف سكان البلاد في مرحلة ما قبل الحرب. فحوالي ستة ملايين لاجئ فروا خارج حدود البلاد، في حين نزح ما يقارب ستة ملايين شخص داخلياً. وكانت الغالبية الساحقة منهم من “السنة”، ما يعكس أن الغالبية “السنية” كانت حجر الأساس للثورة ضد النظام. إلا أنه وبحسب بعض الخبراء في القضية الكردية، فإن هدف أردوغان الحقيقي هو القضاء على الحكم الذاتي الذي أسسه الأكراد السوريون في مساحة تقارب من ربع مساحة سوريا والتي يسيطرون عليها بدعمٍ جوي أمريكي في معركتهم ضد داعش. فالهدف هو تغيير التركيبة السكانية وتقليل عدد الأكراد من خلال تدفق كبير للعرب “السنة” إلى المناطق الكردية. فالقوات التركية والفصائل التابعة لها من السوريين محتشدة على الحدود للضغط من أجل قضية رئيسهم أردوغان.

وتشير “الفينانشيال تايمز” إلى أن خطة أردوغان في مجملها ليست واقعية. إلا أنه ومهما كانت نواياه، فهي تعكس عملية إعادة الهيكلة الديموغرافية الشديدة التي تشهدها سوريا في كل أنحائها. فبدعمٍ من إيران والكتائب الشيعية شبه العسكرية، من حزب الله اللبناني وقوات الحشد الشعبي العراقية، إلى جانب سلاح الجو الروسي بقي الأسد في السلطة. وقد وضع نظامه التدابير لضمان عدم إعادة التوازن السكاني لسوريا ما قبل الحرب، والتي كانت قاتلة بالنسبة له ولطائفته. وتتراوح هذه التدابير من القوانين الهادفة إلى مصادرة الأملاك العائدة للاجئين والتدقيق على الرجال السنة في سن القتال لسحبهم إلى الخدمة العسكرية أو السجن أو ما هو أسوأ بالنسبة للعائدين بحيث يدقق كل ما قدموه على الشبكة العنكبوتية، والنزعة لتخريب كل مكان كان يأوي الثوار يوماً ما. فثلثي السكان كانوا من السنة ونصفهم تبعثر في الأرجاء سواء كانوا لاجئين أو منفيين داخلياً، مثلهم مثل السكان السنة في العراق بعد الغزو الذي قادته الولايات المتحدة الأمريكية في العام 2003 والذي أدى إلى وصول الغالبية الشيعية إلى السلطة.

وتختتم الصحيفة تقريرها بالإشارة إلى أن سمات سوريا والمنطقة بشكل عام تتغير، فالمزيج الديوغرافي في المشرق العربي انحرف عن السنة باتجاه الشيعة المدعومين من إيران. وقد مكّنت شبكة الميليشيات المسلحة بالصواريخ طهران من إقامة الهلال الشيعي عبر العراق وسوريا إلى لبنان وصولاً إلى اليمن من بحر قزوين إلى البحر الأبيض المتوسط، بحسب الباحث الفرنسي فابريس بالانش. إلا أنه هناك القليل من النقاش الواضح حول كل هذا في العواصم الغربية. فأوربا مرعوبة بسبب الخوف من موجات تدفق اللاجئين السوريين مجدداً كما كان الحال في الفترة بين العامين 2015 و 2016. لكن مستقبل سوريا ما يزال يقرر من قبل القوى الخارجية.ومع وجود عائلة الأسد في السلطة في دمشق والحكام الشيعة المدعومين بالمقاومة الشعبية في بغداد وبيروت، هناك الكثير لتغذية اليأس الراديكالي الذي يغتنمه المجاهدين. وسيكون لدى المتبقين من تنظيمي داعش والقاعدة الكثير من الفرص في المستقبل.

ترجمة (الحل نت)

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.