بعد مرور ثماني سنوات على بداية الثورة في سوريا، ومع تحول الانتفاضة السلمية إلى نزاع مسلح دموي، مازال الشعب السوري هو الذي يتحمل العبء الأكبر من المعاناة، تجويع وتشريد وتهجير وقتل وفقدان وتعذيب وغيرها الكثير من الآلام التي لا يمكن لشيء أن يخففها. ورغم محاولات المنظمات الدولية تقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين، إلا أن الحكومة السورية تقف في وجه أي نوع من الإعانة يخدم “المعارضين” منتهكة بهذا كل ما تبقى من حقوقهم في الحياة.

تتلاعب الحكومة السورية بنظام تقديم المساعدات الانسانية لتحقيق الفائدة الأكبر للدولة بدل الاهتمام بحاجات المدنيين. الإيمان بأن حصول الناس على مقدار قليل من المساعدة أفضل من لا شيء بالإضافة إلى المعوقات التي تضعها الحكومة في وجه توزيع المساعدات، بات سبباً في تمويل الأنشطة الحكومية وآلية القمع بدل الاستجابة الإنسانية الفعلية لحاجات الأهالي. والنتيجة هي أن حقوق السوريين ترضخ لمطالب السلطات، مما يؤدي إلى توزيع هذه المساعدات بناء على الأجندة السياسية للحكومة بدل أن يكون المقياس هو مدى تعرض الإنسان للانتهاك وحاجته للدعم والمساعدة.

سياسات السيطرة على المساعدات الإنسانية:
عندما تقرر منظمة إنسانية أو تنموية العمل في مناطق سورية تسيطر عليها الحكومة، عليها أن تتصدى أولاً لسلسلة من الشروط التي تهدد قدرتها على تقديم المساعدات الإنسانية أو الإنمائية بطريقة تتوافق مع حقوق الإنسان. من أجل إحكام السيطرة على المساعدات الإنسانية، تتبع الحكومة السورية عدة سياسات ممنهجة تضمن لها التحكم بتوزيع المساعدة واستغلالها لصالحها.

1- اشتراط تقديم المشاريع وأخذ الموافقة عليها من الحكومة السورية:
ترفض الحكومة السورية إعطاء الإذن لدخول قوافل المساعدات إلى المناطق المحاصرة، وتلزم أي منظمة إنسانية تريد تقديم المساعدة أن تقدم قبل ذلك مشروعاً للحكومة للموافقة عليه، وفي معظم الحالات ترفض الحكومة هذه المشاريع لأسباب غامضة وحتى تعسفية، بل إنها تفرض مشاريعها الخاصة التي تتوافق مع سياستها، وتمنع المنظمات من إجراء أي مسح أو تقييم لاحتياجات السكان في المنطقة التي يريدون تقديم المساعدة فيها. وما يحصل في الواقع أنه وفي سبيل نيل الموافقة على مشاريعهم، يلجأ العاملون في المجال الإنساني إلى المقايضة مع الحكومة، وعندها ينتهي بهم المطاف فعلياً بإعطاء الأولوية للبرامج بناء على ما تسمح به الحكومة بدلاً مما يتماشى مع احتياجات السكان. على سبيل المثال، رغم وجود 8500 نازح في دوما في الغوطة الشرقية، لم تتلقَ هذه البلدة سوى جزء ضئيل جداً من دعم إعادة التأهيل يتمثل في خزاني ماء يحملان علامة اللجنة الدولية للصليب الأحمر، وذلك بسبب معارضتها للسلطة السورية.
يقول أحد العاملين في المجال الإنساني: “في سوريا ، تتم المقايضة مع الحكومة بشأن المشاريع والجميع يعرف ذلك. كموظف إنساني، أقول مثلاً أنني سأؤهل المدارس في منطقة ما، فتعود الحكومة وتقول: ماذا عن هذه المناطق بدلاً من ذلك؟ يبدأ التفاوض والأخذ والرد، حتى ألتزم بمناطقهم للحصول على موافقة لمشاريعي”.

ترفض الحكومة السورية بشدة السماح للموظفين الدوليين في المنظمات الإنسانية ووكالات الأمم المتحدة بالقيام بزيارات ميدانية للمناطق، وذلك من خلال فرضها عليهم طلب الحصول على إذن من وزارة الخارجية يقابل بالرفض أو يترك بلا رد دون أي تبرير، مما يؤدي إلى إضعاف قدرة المنظمات وإلى العجز عن تنفيذ مشاريع تلبي فعلاً احتياجات السكان الملحة وحقوقهم الأساسية. بدلاً من ذلك، تتحول هذه المساعدات إلى أداة لمعاقبة السكان المدنيين الذين تعتبرهم الدولة من المعارضين، ولمكافأة الذين تعتبرهم موالين أو يمكنهم خدمة مصالحها. كما تستخدم الحكومة السورية سلطتها بفرض إصدار تأشيرات للموظفين الدوليين كوسيلة ضغط ضد المنظمات الإنسانية حتى تمتثل الأخيرة لمطالب الدولة. والنتيجة النهائية هي أنه إما أن يضطر العاملون في المجال الإنساني إلى الرضوخ أو تصبح عملياتهم محاصرة إلى درجة تجبرهم على التوقف عن وضع برامج للنهوض بحقوق السكان بشكل حقيقي. وعن هذا قالت عاملة سابقة في المجال الإنساني أنه تمت الموافقة لمنظمتها على تنفيذ مشروع في مدينة اللاذقية، لكن رفض السماح لها بزيارة البلدة والاطلاع على سير المشروع. استمرت هذه المنظمة بالعمل على المشروع وبدفع الأموال في سبيل ذلك دون أن تحظى بفرصة رصد الأنشطة أو التحقق منها.

2- الإلزام بالشراكة مع أطراف إنسانية محلية خاضعة للموافقة المسبقة والتدقيق الأمني:
يشترط على وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية الدولية التي ترغب في العمل في سوريا أن تجد لها شريكاً محلياً لتنفيذ برامجها. يمكن أن يكون الشريك منظمةً محليةً غير حكومية خاضعة للموافقة المسبقة والتدقيق من قبل فروع المخابرات السورية (أبرزها منظمة الهلال الأحمر العربي السوري ومنظمة الأمانة السورية للتنمية)، أو وزارات مختصة (وزارة الخارجية والمغتربين بالتعاون مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل). وباعتبار أن فروع المخابرات هي أحد أكبر المسؤولين عن الانتهاكات الحقوقية الممنهجة التي يتعرض لها المدنيون، بما في ذلك الاعتقال التعسفي والتعذيب والقتل، فإن تدخل الفروع الأمنية في البرامج الإنسانية يعرقل قدرة العاملين في المجال الإنساني على إيصال المساعدات والحصول على وصول غير مقيد إلى السكان بشكل محايد، ويقيّد بشدة قدرتهم على تلبية الاحتياجات الأساسية من مأوى وغذاء وماء ورعاية صحية.

بإمكان فروع المخابرات طلب الحصول على بيانات المستفيدين في أي وقت، وإصدار الموافقات على توزيع المساعدات والإشراف على إيصالها إلى السكان المحتاجين. وفي شهادات لموظفي منظمات محلية، يجمعون على أن فروع المخابرات كانت مسؤولة عن تفتيش شحنات المساعدات ومرافقة القوافل على خطوط التوزيع. بدلاً من حماية عملية إيصال المساعدات أو تسهيلها، استغلت المخابرات نفوذها لمصادرة الشحنات للاستخدام الشخصي أو لإعادة بيعها، وإزالة مستلزمات ضرورية للبقاء على الحياة من قوافل الإغاثة الذاهبة إلى السكان. وفي شهادة قدمها أحد العاملين في الهلال الأحمر قال أنه شهد خلال سنواته الأربع مع المنظمة عدة حالات لضباط مخابرات رفيعي المستوى تعاونوا مع موظفي الهلال الأحمر على سرقة وإعادة بيع المساعدات الإنسانية، وقدم هذا الموظف صور المساعدات المسروقة والأختام المكسورة على الشحنات والتي قال أن الأجهزة الأمنية انتهكتها، كما شارك ناشط حقوقي آخر صور المساعدات مخزنة في فرع مخابرات القوات الجوية، علماً أنه نادراً ما تتعامل المنظمات الدولية مع فروع المخابرات مباشرة. كما قال عامل إنساني “لا تحتاج أجهزة الأمن إلى التعامل مع الأجانب. يوفر الشريك المحلي حلقة الوصل المثالية. يقدمون لأجهزة الأمن المعلومات التي تريدها وينفذون أوامرها. إذا قاوموا، يختفون من الوجود”.

كما يمتلك بعض الشركاء المحليين الخاضعين للموافقة المسبقة روابط مباشرة مع المجرمين ومنتهكي الحقوق، وقد قام بعض قادة الحرب في سوريا بإنشاء منظمات إنسانية غير حكومية ليتمكنوا من مشاركة المنظمات الدولية وسرقة الأموال والمساعدات. وللأسف لا يقوم العاملون في المجال الإنساني ووكالات الأمم المتحدة بالتدقيق بأعمال وممارسات هؤلاء الشركاء مما يخلق خطراً كبيراً في تحويل الموارد إلى هؤلاء المنتهكين وتحويل المساعدات إلى برامج انسانية فاشلة. أحد الأمثلة على هؤلاء الشركاء “مؤسسة الشهيد” المملوكة لمؤسس “قوات الدفاع الوطني” في حمص. وكانت قوات الدفاع الوطني مسؤولة، إلى جانب قوات الأمن السورية، عن أسر وإعدام الأشخاص الذين كانوا يحاولون الفرار عندما استولى الجيش على بلداتهم. كما ارتكبت قوات الدفاع الوطني العنف الجنسي ضد النساء اللواتي أسرن في المداهمات، ونهبت ممتلكات السكان النازحين، ومنعتهم من العودة إلى منازلهم.

أوضحت موظفة تقنية سابقة في وكالة تابعة للأمم المتحدة أنها شاركت منظمة تابعة لعضو في قوات الدفاع الوطني معروف بانتهاكاته وأنه بعد حوالي ستة أشهر من الشراكة مع المنظمة، تمكن موظف ميداني من دخول موقع أحد أنشطة المشروع وأبلغ أن الموقع فارغ. كانت المنظمة تتلقى الأموال من وكالة الأمم المتحدة لستة أشهر، وبدلاً من تنفيذ الأنشطة كانت تزوّر تواقيع المستفيدين المفترضين”.

3- تقييد قدرة المنظمات الإنسانية على معالجة المخاوف الحقوقية من خلال برامج الحماية:
يعاني السوريون منذ سنوات من انتهاكات منهجية لحقوقهم من قبل السلطات السورية، منها الاحتجاز التعسفي، التعذيب، القتل خارج القضاء، واستخدام القوة غير القانونية رداً على الأفعال المعارضة وغيرها الكثير. إن هذه الانتهاكات الحقوقية الخطيرة المستمرة تنتقص من قدرة السوريين على التمتع بحقوقهم الأساسية، بما فيها الحقوق غير السياسية مثل الحياة والسكن والتملك وتكوين أسرة والعودة إلى الوطن. نظراً إلى حجم الانتهاكات السابقة فإن أي جهد في سبيل تقديم المساعدات الإنسانية للمدنيين يجب أن يبدأ من التصدي للانتهاكات الرئيسية لحقوق الإنسان التي يواجهها السكان السوريون. لمنع ذلك، فرضت الحكومة السورية حظراً كاملاً على المراقبين الحقوقيين المستقلين، وقيدت قدرة الوكالات الإنسانية التي لديها مهام حماية على العمل. على سبيل المثال: تمنع السلطات السورية اللجنة الدولية للصليب الأحمر من الوصول إلى مراكز الاحتجاز الرسمية أو غير الرسمية، وفي مثال آخر تمتلك المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين قدرة محدودة غير منتظمة على الوصول الى مجتمعات العائدين أو النازحين.

حوّلت وكالات الحماية بسبب هذا عملها على التركيز على الحماية “اللينة”. فبدلاً من رصد الانتهاكات والإبلاغ عن الاعتقالات وسوء المعاملة وانتهاك حقوق الملكية، أصبحت مهمة الوكالات زيادة الوعي بشأن العنف الجنسي وتطوير المراكز المجتمعية. نشرت وزارة الشؤون الاجتماعية السورية قاعدة بيانات حول الحماية والأنشطة المجتمعية في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة. تشير هذه البيانات إلى أن الأنشطة الرئيسية التي تنفَذ هي تطوير المراكز المجتمعية للنساء والشباب، وبعض مشاريع حماية الطفل التي تنظر في إعادة تأهيل الجنود الأطفال والدعم النفسي الاجتماعي. رغم أهمية هذه البرامج إلا أنها لا تعالج المخاوف الحقوقية الرئيسية في سوريا، وبالتالي تؤدي هذه السياسات إلى العجز عن تعزيز الحقوق الإنسانية للسكان، أو حمايتهم من الانتهاكات، وتؤدي كذلك إلى العجز عن النظر بفعالية في الآثار الحقوقية المترتبة على البرامج الإنسانية والتنموية والعجز عن خلق ضمانات مستقلة وموثوقة في مجال الأمن والحماية تفي بأحد العوامل المطلوبة لتسهيل عودة السوريين المهجرين.

يجب على المنظمات الدولية التصرف بمسؤولية
رغم فرض هذه السياسات من السلطات السورية، ثمة العديد من التدابير التي يمكن اتخاذها من قبل المنظمات والوكالات الدولية للتصرف بمسؤولية أكبر اتجاه الشعب السوري. ينبغي على الجهات الفاعلة في سوريا فهم كل المخاطر والانتهاكات الحقوقية المحتملة التي قد تنشأ عن برامجها وذلك من خلال عدم تنفيذ أي مشروع ما لم يكن قائماً على احتياجات الأكثر الحاحاً دون تمييز بين الناس، ورفض مشاركة أي أحد ارتكب انتهاكات حقوقية جسيمة. يجب التأكد دائماً من الحفاظ على سرية قوائم المستفيدين والإصرار على الوصول الكامل والمنتظم إلى جميع المناطق. كما يجب على الجهات المانحة استخدام نفوذها للضغط على الحكومة السورية لإزالة القيود المفروضة على المساعدات والوصول إليها.

ختاماً لا بد من أن نذكر أنه في حالات مماثلة لما يحدث في سوريا، قد يفوق الضرر اللاحق بحقوق الإنسان فواند البرامج الإنسانية، خاصة بالنظر إلى سجل الحكومة السورية في منع المساعدات عن ذوي الاحتياجات الأكثر إلحاحاً، والخطر الكبير بأن يتم تمويل جهاز الدولة الذي يضر بالناس أنفسهم الذين يحاولون خدمتهم. لذا ينبغي لجميع الجهات الفاعلة في سوريا تجنب المساهمة في انتهاكات حقوقية خطيرة، عن طريق إنهاء عملياتها حيث لا يمكن تجنب المخاطر، وحيث تفوق الأضرار المحتملة فوائد البرامج. على وجه الخصوص، ينبغي لها تجنب المشاريع التي تساهم في النزوح أو المتعلقة بيناء وإدارة أنظمة السجون والمحاكم القضائية، وغيرها من كيانات الخدمة العامة المكلفة بانفاذ القانون.

المصدر: هيومان رايتس واتش

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.