يعتبر العقاب الجسدي من أكبر المشاكل الصحية المجتمعية في العالم أجمع. يوافق حوالي 80% من البالغين في مجتمعاتنا العربية على طريقة العقاب الجسدي لتأديب الأطفال على الرغم من أن جميع الأدلة تثبت عدم فعاليته، وتثبت كذلك أنه يعقد المشاكل أكثر مما هي عليه أصلاً. وعلى الرغم من وجود أساليب تعامل أنجع من الضرب، يتمسك الأهل بالعادات والتقاليد التأديبية التي تربوا عليها.

ما المقصود بالعقاب الجسدي في سياق هذا المقال؟
العقاب الجسدي هو استعمال القوة الجسدية لجعل الطفل يشعر بالألم من أجل تصحيح سلوك معين. ويتضمن الضرب، الصفع، القرص، الركل وغيرها من الممارسات التي من شأنها إيلام الطفل جسدياً وترهيبه، سواء باستخدام القوة الجسدية للشخص المؤدب أو باستخدام أدوات أخرى.

نتائج العقاب الجسدي على الطفل على المدى الطويل
1- السلوك الاجتماعي:
يضرب رامي -طالب في صف الأول- أصدقاءه في الصف بشكل متكرر، لدرجة جعلت باقي الأطفال تخافه وتتجنبه وترفض اللعب معه. عند سؤال معلمة الصف لرامي عن سبب ضربه لهم أجاب بلهجة أكبر من عمره بكثير مبرراً “إنهم يلعبون بطريقة خاطئة، فأضربهم ليتعلموا طريقة اللعب الصحيحة. هذا ما يفعله أبي معي دائماً لأتعلم”.
غالباً ما يرتبط العقاب الجسدي بسلوك الأطفال المعادي للآخرين (مثل أشقائهم، أقرانهم، أو حتى مع البالغين). يشرع العقاب الجسدي للأطفال عنفهم في علاقاتهم الخاصة لأنهم يميلون الى اكتساب السلوك الذي تعرضوا له أنفسهم من أقرب الناس إليهم. من المثير للسخرية أن الأهل يقومون بعقاب طفلهم بسبب سلوك عنيف قام به بطريقة عنيفة أخرى، مما يؤدي الى تعزيز السلوك عنده. يقلد الأطفال دائماً البالغين في تصرفاتهم، فإن قام الأهل بمحاولة تقويم سلوك أطفالهم بجعلهم يتألمون، ففي الغالب هؤلاء الأطفال هم أول من سيقوم بفعل مماثل عندما يرغبون بتقويم سلوك أشخاص آخرين.

2- التأثير على المعرفة والتعلم:
يعاقب س.ح مدرس مادة العلوم في إحدى المدارس الابتدائية في دمشق تلاميذ صفه جسدياً عند قيام أحدهم بأي فعل لا يعجبه، مما أدى إلى نفور طلابه من مادة العلوم وتقصير معظمهم فيها. عندما لاحظ المدير تدهور وضع الطلاب دراسياً قام باستبدال هذا الأستاذ، وكانت النتائج واضحة وسريعة عندما ارتفعت سوية الطلاب التعليمية وحبهم للمعرفة والتعلم. عند سؤاله، أكد الأستاذ الجديد أنه يحاول دائماً تنمية فضول الأطفال ويترك لهم المساحة الخاصة بهم للاستكشاف والبحث والنقاش، وبأنه يعاملهم باحترام ومحبة، ويرفض رفضاً تاماً أي عقاب يتضمن الألم الجسدي أو الإهانة.
يأتي تطور المعرفة عند الأطفال نتيجة للتجارب والعلاقات الاجتماعية التي تؤثر بشكل مباشر على معرفة الأطفال وعلى حافزهم للتعلم، كتعلق الطفل بالشخص الذي يهتم به، وكالصداقات، والعلاقات بين الأطفال ومعلميهم. عندما يستخدم الأهل (أو المعلمون) “التواصل اللغوي والمنطق” لتقويم السلوك – سواء عن طريق الشرح وتوضيح الأسباب أو عن طريق النقاش – تكبر عند الطفل حوافز التعلم، لأن استخدام الوسائل الاستقرائية (مثل تحليل وتفسير الأمور) يؤدي إلى تعزيز النمو المعرفي، على عكس العقاب الجسدي الذي يخلق معرفة فقيرة هشة. هذا بالاضافة الى أن قلق الأطفال من تعرضهم للعقاب الجسدي يمنعهم من اكتشاف عوالمهم الفيزيائية (المادية) والاجتماعية بحرية وجرأة.

3- الاستقرار العاطفي للطفل:
يقول آدم (22 عاماً): “كان والداي صارمين جداً، وكانا يطلبان مني أن أفعل ما أؤمر به دون أي تفكير أو جدال فالنقاش “قلة أدب”. كان سلاح أمي هو ملعقة المطبخ الخشبية الطويلة، بينما اكتفى والدي باستخدام يديه. اعتبروا مشاكستي الطفولية تحدٍ شخصي لهما وكأنني قمت باهانتهما عمداً. كنت في بعض الأحيان وعلى الرغم من تصرفي بشكل جيد أُضرب بشكل متكرر، مما دفعني إلى القيام بأمور سيئة نتيجة لذلك دون أي تفكير، وجعلني أُعيد تصرفاتي التي تزعجهما على الرغم من ضربهما لي. كانت الرسالة التي أتلقاها منهما عند ضربهما لي أنني فتى لا أحسن القيام بأي شيء، وبأنهما لن يحباني مهما فعلت”

بإمكان العقاب الجسدي إحداث تأثير سلبي على العلاقة بين الأطفال وأهلهم. أهم ما يبني العلاقات الآمنة للطفل هو الدفء العاطفي والتفاعل الإيجابي. إن إحساس الطفل بالأمان بعلاقته مع أهله هو أمر مهم جداً لإحساسه بحياة مستقرة سعيدة وشعوره بالثقة بنفسه، وهي مكون أساسي من مكونات تطوير مداركه و إحساسه الداخلي. يقوم العقاب الجسدي باغتيال هذا الدفء ويخلق فجوة عاطفية بين الأهل والطفل ويقتل أي شعور بالأمان والثقة والانتماء.

4- الصحة النفسية:
أخبرت ليلى (13 عاماً) صديقاتها في الصف بأنها ترغب بالانتحار. عندما قامت المرشدة الاجتماعية في المدرسة بالتكلم معها قالت لها ليلى بأنها غير سعيدة، وبأن أهلها لا يحبونها ولا يسمحون لها بالقيام بأي شيء تحبه، بل ويقومون بضربها في كثير من الأحيان، على عكس أختها الصغرى المدللة منى.
رغم أن المشاكل النفسية عادة صعبة الملاحظة أكثر من المشاكل الجسدية، إلا أنها لا تقل أهمية عنها. عندما يلجأ الأطفال إلى كبت مشاعرهم لدى تعرضهم للعنف الجسدي الشديد، كثيراً ما يسوء الوضع حتى يصل إلى حدوث مشاكل نفسية مثل الاكتئاب، القلق، التفكير في الانتحار، الرغبة في الانتقام وغيرها. يحمل الأطفال هذه المشاكل معهم عندما يكبرون، ويبدأون بدورهم بضرب أطفالهم وتعنيفهم، لتخلق لدينا سلسلة من الأطفال والأهل الذين يحتاجون للعلاج والتوجيه النفسي. ومن الجدير بالذكر هنا أن الشعور بعدم التقبل الاجتماعي هو من أكبر المسببات لحالات الانتحار وخاصة عند المراهقين.

5- استيعاب الأمور الأخلاقية:
“عندما كنت في السادسة من عمري، أخذت قطعة بسكويت من البقالية دون أن أدفع ثمنها، وعندما شاهدتها أمي، ضربتني ضرباً شديداً لم أنساه. لم أعرف حينها سبب ضربها لي أو صراخها في وجهي فقد كنت صغيرة ولا أعرف قيمة النقود ولا المشتريات. أصبحتُ بعد تلك الحادثة استمتع بسرقة الأغراض من المحلات وأصبحت أطور أسلوبي أكثر كي لا يكتشف أهلي (أو الشرطة) ذلك في محاولة مني لتحديهم، والانتقام من ضربهم لي” هبة (23 عاماً).
أحد الأهداف الأساسية والطويلة الأمد لتأديب الأهل لأطفالهم هو مساعدة الأطفال على استيعاب قيم المجتمع وضبط تصرفاتهم، والقدرة على كبح النفس من التصرف بشكل مسيء أو غير أخلاقي. يرغب الأهل عادة بأن يمتثل أطفالهم لقيم المجتمع هذه ولكنهم لا يدركون بأن الاستخدام المفرط للسلطة لتحقيق الانضباط دون أي تفسير او نقاش قد يكون له تأثير معاكس. عندما تتعلق القصة بالمعايير الأخلاقية التي يجب أن يربي الأهل أبناءهم عليها، من الأفضل دائماً أن يفهم الطفل لماذا هذا التصرف سيء أو جيد، وأن يتعلم كيف يوازن الأمور بشكل صحيح لأن هذا ما يجعله قادراً على أخذ القرارات الصحيحة في حياته وعلى التصرف بشكل أخلاقي بدل أن يمتثل للأوامر بشكل فوري بسبب الترهيب والخوف من الألم.

المجتمع الدولي والعقاب الجسدي
هناك عدد كبير من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تحمي حقوق الأطفال، ونخص بالذكر اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989 والتي تنص على حق الطفل في التعبير والتعلم واللعب والحياة، وتحظر العقوبة البدنية أو العنف. تنص الفقرة الأولى من المادة 19: “تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير التشريعية والإدارية والاجتماعية والتعليمية الملائمة لحماية الطفل من كافة أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية، وهو في رعاية الوالد (الوالدين) أو الوصي القانوني (الأوصياء القانونيين) عليه، أو أي شخص آخر يتعهد الطفل برعايته”.
قامت أكثر من 37 دولة بمنع العقاب الجسدي بجميع أشكاله، حتى في المنزل من قبل الأهل، ووضعت التدابير اللازمة لسحب الأطفال من الأهل الذين يستخدمون العنف المفرط تجاه ابنائهم. نذكر من هذه البلدان السويد، ألمانيا، اسبانيا، اليونان، فنزويلا، وغيرها. كما قامت أكثر من مائة دولة بمنع العقاب الجسدي في المدارس.

حلول بديلة عن العقاب الجسدي
يوجد العديد من البرامج والبدائل التي تؤمن للأهل فهم أفضل لتطور أطفالهم، وتعطي استراتيجيات تؤدي بدورها الى عنف أقل عند الأطفال والبالغين، كما أنها تساعد الأهل على تخفيف اليأس والإحباط لديهم الذي يؤدي بالعادة الى استخدام العقاب الجسدي.
يبدأ تأثير اللغة على الطفل قبل أن يستطيع الكلام. الاستماع للاطفال ومعرفة دوافعهم للتصرف بطريقة معينة هو السر لبدء تغيير هذا التصرف. يجب أن يكون الأهل قدوة للطفل ليتعلم كيف يستمع وكيف يعبر باستخدام الكلمات أو لغة الجسد الودودة لا القوة البدنية العنيفة. يسعى الطفل جاهداً لأن يكون كوالديه، لذا تقع على عاتق الوالدين مسؤولية التحدث والتصرف بالطريقة التي يريدان لطفلهما أن يتصرف بها.

هل العصا من الجنة؟
يدعي بعض الأهل أن أطفالهم مختلفون ولا تجدي معهم هذه الأساليب “الحديثة” مهما حاولوا، وأن الضرب وحده يستطيع تقويم سلوك أطفالهم من مبدأ “العصا من الجنة”. ويبررون ذلك بأن أهلهم قد ربوهم بهذه الطريقة وقد كبروا على أسس وأخلاق سليمة ولم يؤثر الضرب سلباً عليهم. ولكن لننظر إلى مجتمعاتنا بتمعن، هل حقاً لم يؤثر الضرب سلباً على شخصياتنا ونفسياتنا وطريقة تعاملنا مع المشاكل والعقبات؟ العنف يولد العنف ولا يمكن أن ننتظر جيلاً مستقراً عاطفياً، سليماً من الأمراض النفسية إن كنا نمارس القمع من داخل البيوت.
العصا والعقاب الجسدي من صنع الشيطان البشري. لا شيء يبرر العنف مهما كان الطفل مشاكساً. إن كان أحدنا لا يعرف كيف يتعامل مع الطفل فهذا ليس عيباً، العيب هو أن نلجأ للضرب والعقاب بدل اللجوء إلى طلب المساعدة من اختصاصيي سلوك الأطفال أو من المرشدين النفسيين المختصين بمجال الطفل.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.