نشرت صحيفة ذا “دايلي بيست” تقريراُ بيّنت فيه نتائج قرار سحب الرئيس الأمريكي دونالد ترمب قواته من سوريا. فبالرغم من أن تظاهره بفرض عقوبات على تركيا قد تمنع هذه الأخيرة من القضاء على حلفائه السابقين، إلا أنه فتح الباب أمام نظام الأسد وبوتين لتحقيق مكاسبهم. فبعد مقتل مئات الآلاف وتشريد نصف الشعب السوري إثر سنوات الحرب السورية الثمانية، هيّأ قرار ترامب هذا، الفرصة لنظام بشار الأسد ليعيد فرض سيطرته على منطقة تعادل مساحتها ما يقارب ثلث البلاد والتي كانت خارج قبضته منذ العام 2012.

وبعيداً عن كبح جماح خصوم الولايات المتحدة، فمن المحتمل أن تُذكر إدارة ترمب عبر التاريخ كواحدة من الأسباب التي تمكن الأسد، أكبر قاتل جماعي في هذا القرن، من خلالها من العودة أخيراً إلى موقع السلطة بلا منازع. فقد بدأت الأخبار صباح يوم الثلاثاء مع بثّ تصوير مباشر لـ “أوليغ بلوخين”، صحفي موال للكرملين، من داخل قاعدة السعيدي الأمريكية المهجورة مؤخراً في سوريا على الأطراف الغربية لريف منبج. “صباح الخير للجميع من منبج” هتف بلوخين. وأضاف: “أنا الآن في القاعدة العسكرية الأمريكية، حيث كانوا هنا حتى صباح الأمس. بالفعل، نحن هنا (بدلاً عنهم). سوف نرى الآن كيف كانوا يعيشون، بماذا كانوا منشغلين، وماذا كان يجري هنا”.

ويُظهر تسجيل فيديو آخر كوخين وهو يلعب ساخراً بذراع حاجز في مدخل القاعدة حيث يقوم بفحصه إذا ما كان يعمل أم لا. “إنه بحالة جيدة”، طمأن بلوخين المصور بابتسامةٍ عابرة. وبلوخين، الذي يعمل لصالح شبكة أخبار ANNA المؤيدة للكرملين، عمل سابقاً على تغطية نشاطات شركة “فاغنر” الخاصة للمقاولات العسكرية الروسية أثناء تدريبها لميليشيات مؤيدة للأسد في شهر كانون الثاني. كما عمل لاحقاً في مرافقة القوات الروسية والقوات الموالية للأسد خلال حملتها الأخيرة في شهر آب والتي نجحت من خلالها في استعادة السيطرة على مدينة خان شيخون. واليوم يقف شامتاً في مكان كان بالأمس قاعدة عسكرية أمريكية.

وسرعان ما أجرت وسائل إعلام موالية للأسد جولات مماثلة على قواعد عسكرية أمريكية أخرى هجرها الجنود الأمريكان. حيث ذكرت بأن القوات الأمريكية انسحبت من موقعين إضافيين على الأقل، بما في ذلك بلدة تل بيدر الشرقية وقاعدة خراب عشاق الواقعة غربي عين عيسى. وكانت التقارير الواردة قبل انسحاب القوات الأمريكية بفترة قصيرة تفيد بأن عائلات مقاتلي تنظيم داعش ما تزال تُحتجز في ما يشبه المعتقل بالقرب من عين عيسى والذي أضرموا النيران في جميع أنحائه في محاولة جديدة للفرار منه.

ويبين التقرير بأن حليفة الأسد الرئيسية روسيا، وإلى جانب تكريس اهتمامها للتغيير الهام الذي يجري في الوقت الحالي، فقد حلت محل الولايات المتحدة باعتبارها الطرف الرئيسي في الشمال السوري القادر على التواصل مع معظم أطراف النزاع. وقد كان لبلوخين دور خاص بالنسبة للسكان المحليين في مدينة منبج. فبعد أيام قليلة من إعلان ترامب قراره الصادم بسحب قواته من سوريا، واصل الجنود الأمريكيون المتواجدون في قاعدة السعيدية بالقيام بدورياتهم الشبه يومية في ريف منبج الشمالي والغربي. الأمر الذي نجح في المساعدة على درء المحاولات السابقة للنظام السوري بإقامة مواقع له في المنطقة. حيث منح ذلك سكان منبج المعارضين للنظام مزيداً من الأمل بأن يكون للمؤسسات العسكرية الأمريكية دوراً في إجبار الرئيس التركي على تبني حل وسط من شأنه إبقاء القوات الأمريكية في المنطقة حتى تتمكن الفصائل التي تدعمها تركيا من السيطرة. إلا أن تلك الآمال وإلى جانب ما يزيد عن ستة عشر شهراً من الدبلوماسية الأمريكية التركية باءت بالفشل حيث قامت القوات الأمريكية بالانسحاب النهائي من المنطقة. الأمر الذي مهد الطريق أمام قوات النظام السوري وحلفائها الروس لالسيطرة بحرية وبدون معارضة.

وفي أماكن أخرى، في عين عيسى وتل تمر، البلدتان الواقعتان على طول الطريق السريع M4 والذي يعتبر الشريان الرئيسي للنقل والمواصلات في شمال سوريا، أقامت قوات النظام والقوات الروسية حواجز تفتيش وقواعد دائمة لضمان السيطرة على الطريق الاستراتيجي في مواجهة الهجمات التركية القادمة. الأمر الذي ساهم في مساعدة قوات سوريا الديمقراطية في تلك الليلة على استعادة السيطرة على ثلاث قرى في المنطقة المجاورة مباشرة لتل تمر كانت الفصائل المدعومة من تركيا قد سيطرت عليها. وفي الوقت الذي وفرت فيه قوات النظام بوصولها الإغاثة الضرورية التي تحتاجها قوات سوريا الديمقراطية على عدة جبهات، فإن تلك الإغاثة لن تكون بدون مقابل. فنظراً لأن قوات سوريا الديمقراطية ترحب بمزيد من التعزيزات للنظام السوري في أراضيها، فإنها بلا شك سوف تفقد مستقبلاً نفوذها الذي تحتاجه في الحفاظ على دورها داخل مؤسسات الحكم المدني في جميع أنحاء شمال شرق سوريا.

وقد أصدر مجلس سوريا الديمقراطية، الجناح المدني لقوات سوريا الديمقراطية، يوم الاثنين الماضي توجيهاً إلى المجالس المحلية في المنطقة بمتابعة أداء مهامهم كما كانت في السابق، مؤكداً أن لا شيء قد تغير وأن الاتفاق مع النظام لا يشكل أكثر من كونه تحالف عسكري مؤقت لحماية الحدود السورية. ومع ذلك، فمن غير المحتمل أن تكون قوات سوريا الديمقراطية أو مجلس سوريا الديمقراطية أو أي من المؤسسات التي تدعمها قوات سوريا الديمقراطية قادرة على الحفاظ على أي قدر من الاستقلال بينما أصبح اعتمادها على نظام الأسد أكثر قوة.
وفي حديث للصحيفة مع مصدر عسكري رفيع المستوى في الجيش الوطني السوري في منبج، أشار المصدر إلى أن تركيا أعطت أمراً صباح الثلاثاء الماضي لوكلائها في الجيش الوطني السوري بوقف الهجوم مؤقتاً، بينما حاول الجانبان التوصل إلى اتفاق. وتم خلال ذلك الوقت تنظيم العديد من المظاهرات المؤيدة للنظام في منبج حيث وصلت عدة دبابات مدرعة للجيش السوري إلى المدينة. وبحسب مصادر محلية، فإن شخصيات مؤيدة للنظام قادت المظاهرات. حيث يُذكر أن تلك الشخصيات كانت قد تعرضت للاعتقال من قبل قوات سوريا الديمقراطية، لكن سرعان ما أطلق سراحها عقب دخول النظام وروسيا إلى المدينة.

وقد جاءت المحادثات الروسية التركية بعد يومٍ واحدٍ فقط من إصدار الصفحة الرسمية لقاعدة حميميم التابعة لوزارة الدفاع الروسية على الفيس بوك تحذيراً شديد اللهجة موجه إلى تركيا وحلفائها بعدم التصرف بتهور والدخول في حرب مفتوحة مع قوات النظام. كان ذلك بعد فترة قصيرة من زعم الروس التوصل إلى اتفاقية مع قوات سوريا الديمقراطية لتسمح لقوات النظام والقوات الروسية بالدخول إلى مدينتي كوباني ومنبج. لكن وبالرغم من محاولات إجراء محادثات وتكرار توجيه التحذيرات، إلا أن الفصائل المدعومة من تركيا شنت هجومها بحلول ليلة الثلاثاء الماضي. الأمر الذي أدى إلى نزوح المدنيين من مدينة كوباني الحدودية بسبب الاعتداءات التركية والتي كانت تحاول الاستيلاء على موقع قاعدة أمريكية سابقة تم إخلائها مؤخراً في مكان قريب من المدينة.

وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في حديثه إلى رويترز أثناء عودته من العاصمة الأذربيجانية باكو يبدو غير آبهٍ بالعقوبات الأمريكية التي فرضت على أنقرة ولا بوصول تعزيزات النظام العسكرية إلى المنطقة ولا حتى بالإدانة الدولية لهجوم بلاده على المنطقة. حيث قال في حديثه: “يقولون إعلان وقف إطلاق نار. نحن سوف لن نعلن وقف إطلاق النار أبدا”. وأضاف: “إنهم يضغطون علينا لإيقاف العملية. إنهم يعلنون العقوبات. هدفنا واضح. نحن لسنا قلقين بشأن أية عقوبات”. وبعد فترة وجيزة من حديثه، أفادت أجهزة الإعلام وناشطين محليين بأن غارة جوية تركية استهدفت بلدة عون الدادات الإستراتيجية، موقع سابق لقاعدة أمريكية في ريف منبج الشمالي على طول نهر الساجور الذي احتلته منذ ذلك الحين قوات النظام وقوات سوريا الديمقراطية.
وبحسب “نواف المصطفى”، ناشط يعيش على بعد أميال في مدينة منبج، فإنه يمكن سماع صوت القصف من منزله. حيث قال: “سمعت صوت انفجار واعتقدت أنه ربما كان هجوماً انتحارياً نفذه تنظيم داعش”. وأضاف: “لكن الأمر لم يكن كذلك. فسرعان ما جاءت الأخبار بقيام القوات التركية بقصف عون الدادات”.

من جهته، يقوم “أحمد قلقلي”، ناشط آخر معارض للنظام، بإرسال تحذيرات لعائلات مقاتلي الجيش الوطني السوري عبر عدة مجموعات واتس آب يستخدمها سكان محليين لمتابعة الأخبار. حيث جاء في رسالته: “أي شاب في منبج لديه أخ يقاتل في الخطوط الأمامية مع الجيش الوطني السوري، ينبغي أن يتجنب النوم في البيت الليلة”، مشيراً إلى احتمال تعرض منازلهم للمداهمة من قوات سوريا الديمقراطية والنظام رداً على الهجمات. وأضاف في رسالته: “حاول البقاء عند صديق أو شخص لا يمت لك بصلة قرابة”.
ويبين التقرير أنه من المرجح أن تعوق العقوبات الأمريكية التي فرضتها مؤخراً إدارة ترامب على الوزراء والمسؤولين الحكوميين الأتراك قدرة أنقرة على شن حرب شاملة ضد قوات سوريا الديمقراطية، حيث رُفعت كلفة عمل كذلك بشكلٍ ملحوظ. وبالرغم من ذلك، فمن غير المرجح أن تؤدي تلك العوامل بأردوغان إلى إنهاء حملته، حيث يواجه تهديداً بزعزعة استقرار حكومته بسبب الضغوطات الداخلية لتوفير مساحة لإعادة توطين اللاجئين السوريين الذين شكّلوا عبئاً حقيقياً على الاقتصاد التركي.

وبالتالي فإن النتائج التي ستتمخض عما يحدث، ولو كانت بطيئة وطويلة، فإنها سوف تكون حملة لتحقيق هدف أنقرة المتمثل في إقامة منطقة آمنة في منبج وعلى طول الحدود التركية مع سوريا. ومع ذلك، فإن احتمال التأخر في تحقيق مزيداً من المكاسب التركية سيعطي النظام السوري فرصة أكبر لحشد قواته ونشرها بهدوء في جميع أنحاء المنطقة. كما سوف تستمر تركيا في استغلال التهديدات التي تشكلها قوات سوريا الديمقراطية من أجل كسب مزيداً من القوة في شمال شرق سوريا. علاوة على ذلك، فإنه من غير المحتمل أن يزعج انتشار قوات النظام السوري في أرجاء المنطقة الرئيس التركي كثيراً طالما أنها لا تختلط مع قوات سوريا الديمقراطية وغيرها من القوات الكردية المسلحة.

ويوكد ذلك قول أردوغان أيضاً خلال حديثه إلى الصحفيين في باكو: “دخول قوات النظام إلى منبج ليس سلبياً بالنسبة لي. لماذا؟ إنها أرضهم بعد كل شيء”. وأضاف: “لكن، ما يهمني أن لا تبقى المنظمة الإرهابية هناك… أخبرت السيد بوتين بذلك أيضاً. إذا كنت تقوم بتطهير منبج من المنظمات الإرهابية، فحين إذٍ يمكنك أنت أو النظام توفير جميع الخدمات اللوجستية. لكن إذا لم تفعل ذلك، فإن السكان هناك سوف يطلبون منا المساعدة في إنقاذهم”، حيث يقصد أردوغان بعبارة “المنظمات الإرهابية” الأكراد الذين كانت تدعمهم الولايات المتحدة في حربهم ضد داعش.
ويبين تصريح كهذا صادر عن رئيس دولة مجاورة، والذي كان من أكثر المؤيدين للثورة السورية للإطاحة بالأسد منذ ثمانية أعوام، مدى التغيرات التي طرأت على الحسابات الدولية المحيطة بالقضية السورية. ويرجح التقرير أن يشجع نظام الأسد النظر في إمكانية ملاحقة قوات سوريا الديمقراطية والقضاء عليها إذا ما كان القيام بذلك من شأنه أن يضع حدّ إلى الأبد لنشاطات تدخل جارهم التركي. وقد يحدث هذا الاحتمال كجزء من عملية تبادل واسعة أو صفقة توافق بموجبها تركيا أيضاً على سحب قواتها من منطقة إدلب، حيث هيئة تحرير الشام، الفرع السابق لتنظيم القاعدة في سوريا. حيث تشير بوضوح تصريحات أردوغان إلى أنه بعد قرار ترامب بسحب قواته، فإن الأوراق في أيدي نظام الأسد وحليفه الروسي.

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.