علي الكرملي

كانَت حَياته طبيعيّة، كما حَياة أي موصِليّ في مدينَتِه. تخرّجَ بدرجة البكالوريوس في الهندسة الميكانيكية من الجامعة التي تحمل اسم محافظتِه عام ٢٠١٠، ليخوضَ غمار الماجستير بُعَيدَ عامٍ فقَط، لينالها بامتياز مع بزوغ ٢٠١٣.

تزوّجَ من فتاة من نفس قسمه، تصغُرُه بِعام، عند أواخر عامه الذي نال منه ”الماستَر“،  هذا بَعدَ أن أَمسى عند مُنتصفِهِ مُحاضِراً خارجياً في جامعته الأُم، يملِكُ بَيتاً يحتضنهُ وزوجته بمُفردهما، أَبى ألا يكونَ بَعيداً عن منزلِ جَدّه (عائلته)، فَلَم يبعدهُم أكثَرَ مِن فرعَيْن.

كانَ يُجري بعض الإجراءات الروتينيّة تَحضيراً للتحليق نحوَ بلاد ”العَم سام“ لإكمال الدكتوراه، بعدَ أَن قُبِلَ في بعثات الدولة العراقيّة للخارج، كانَ ذاكَ عندَ الرُبع الأوّل من ٢٠١٤، في وَقتٍ كانَت زوجتُهُ قَد شقَّت طريقها في التدريس الأهلي لمواد الفيزياء والرياضيات، فَما الذي حدَث؟

الشاب فهد صباح

في ليلَةٍ ظَلماء لَم يُنِرها أيُّما بَدرٍ، دخلَ (داعش) إلى المدينة، استَفاقوا من نومِهِم؛ لِيَرَوا أنفُسَهُم مُحتَلُّون، أيُّ صُبحٍ هذا، وأُيُّ تَعاسَةٍ تلك؟ أَن تستَيقظَ لتجد نفسك انزلَقتَ من حياة (التكنولوجيا) إلى زمنِ هولاكو، حيثُ الاحتلال، والذُل.

يقول ”فهَد“ الذي لم يتجاوز ربيع الـ ”26“ حينَها، «كنتُ مَصدوماً، لَم أكُن أتخيّلُ مثل هذا السيناريو البتَّة، لمَ أَستِطع تركَ المدينَة؛ لأن زوجَتي حامل، ومن الصّعب التنقل بها من مكان إلى آخر، وهي بحاجة إلى مُراجعات صحيَّة، فمكثنا في بيتنا، حالنا حال الكثيرين».

ماذا يفعَل؟ هل يستسلِم، وهو الذي على بعد أمتارٍ من تحقيق حلمه في إكماله للدكتوراه بـ أميركا؟، وبها تكون خلاصه من مصيرٍ لا يتكهنه قَطْ، «ما زادَ الطينُ بَلَّةً، وصول رسالة من المعهد البريطاني بتأجيل امتحان اللغة قبيل أيامٍ ثلاث من خوضه؛ للظروف الراهنة، المعهَد قد أخلى موظّفيه وتركَ البلاد».

أمسَت الحَياةُ مُرَّةً، لا تُطاق، الوقتُ بَطيء لا يَمشي، الساعة يومٌ، واليومُ عام، لا إنترنت، لا اتصالات، لا ترحال، لا سفَر، ولا مهرب، قُطِعَت كل الطرق الرابطة بمدينة الحَدباء من كل محافظات الجوار بعد أن احتلّ التنظيم #سنجار ونفّذَ مجزرته بأهلها، يقول فهد، «منها، ونَحنُ قُطِعنا عن العالَم».

فقَد عمله، الحياة الخارجيّة توقّفَت، أمسى حبيسَ البَيْت، فهوَ لا يرتضي لنفسه الخروج من المنزل للتعنيف؛ لأنه على حين غرَّةٍ توقفك (سيارَةُ الحِسبَة)، تُحاسبُكَ على لحيتِكَ، هندامِكَ، وتجلدُكَ بقسوة إذ ما رأَت بين اصبَعيكَ سيجارَة.

جاءَ الشتاء، شتاء عام الكابوس الأعظَم، رُزِقَ بطفلينِ توأَمَ ”أُسَيد، ورُوَيد“. معَ طلّتهِما، أضحَت الحياة أكثر صعوبة، المُتطلّبات زادَت، المال ينفَد، فما كان منه إلاّ أن يشتري منظومة إنترنِت ويوزّعها على المُشتركين بأجور زهيدَة، «لا أحصد سوى 60 دولار عند نهاية الشهر»، يَحكي فهَد.

مهرجان القراءة الأول في الموصل

”فهد صباح“، الذي يقطن في #حي_العامل بالجانب الأيمن من #الموصل_القديمة، كانَ لا يُغادر بيته، إلاّ للضرورَة القُصوى، فهوَ لا يطيق مناظر العُنف التي تملأ المدينة، وهو الذي يستذكر حالة إعدامِ #داعش لأحد المدنيّين من أعلى #عمارة_الأورزدي في #باب_الطوب، بصوت مرتجف، ملؤُهُ الحسَرات والآهات.

وعمارة الأورزدي، هي أعلى بناية في مركز المدينة، كانَ التنظيم ينفذ منها الإعدامات للمدنيين، بإلقائهم من فوقها، وهي إحدى أساليب الإعدام الأكثر اتباعاً لدَيه، ويبثها عبر الشاشات العملاقة التي تتوسط الساحات، من خانَة الميديا والترويج لقوّته.

يقول فهد، «كنتُ خارجاً لأمر ضروري، وشاهدتُ تجمُّعاً للناس، فأخبروني بحالة إعدام ستُصار بُعَيد لحَظات، حاولتُ الابتعاد ما استَطَعت، لكن أفراد التنظيم أعادَنا؛ فهو ينفذ عملياته أمام المارّة الذين يُجبرهم على مُشاهدة مسلسلات الإعدام بالقوة».

كانَ يقضي وقته بقراءة الكتب ضمن اختصاصه الهندسي، عدا عن الكتب الاجتماعية؛ نتيجة الفراغ الطويل، لكن مع ذلك، يُعِدُّ البحوث، ويستخلصُ النتائج، لينجحَ بعد التواصل مع مجلة أميركية محكمة في نشر بحث له، وكانَت تلك نُقطَتهُ المُضيئة وسطَ تلكَ العُتمَة.

الحَياةُ ما عادت تُطاق، الوضعُ صارَ أكثَر سوءاً، حتى الـ /٦٠/ دولار الني يجنيها، ضاعت منه، بعد أن ترك عمله كموزع للإنترنت؛ لطلب التنظيم من الموزعين بتزويدهم بمعلومات المُشتَركين، ولَولا أن أَخَواته كُنَّ مُوَظّفات، وادّخَرن بعض النقود، لَأَمسى وضعُهُ في خبَر كان.

انقَضى ٢٠١٥، وحَلَّ ٢٠١٦، والخدمات ساءَت أكثرَ مِمّا علَيه، الكهرباء شبه منقطعة، والماء لا يصلُ إلاّ مرّةً واحدة كلّ /١٥/ يوم، والأطفال بحاجة إلى الغسل والنظافَة، وحتى بطاريات أجهزة الإنارة الصغيرَة بدأَت بالانتهاء، البيتُ مُعتَم، والأطفال يبكون بهيستيريا.

فهد صباح

يقول فَهَد، «في الأيّام الأخيرة، عشنا من دون سُكّر، لا مال لدينا لشراء الحلوى للأطفال، وسعرُ البَيضَةِ الواحدَة وصلَ إلى دولار»، (ما يُقارب /١٢٥٠/ دينار في العملة المحلية العراقية)، استمرّ الوضع على هذا المنوال حتى انطلاق عمليات تحرير الجانب الأيسر في منتصف تشرين الأول/ أكتوبر.

بعدها، ومع انطلاق العمليات، بدأ التنظيم بالانشقاق والتراجع، ما أدى إلى عودة بعض شبكات الاتصال، بخاصّة شبكة كوريك تيليكوم للعمَل في المدينة، «ونَرى عمليات التقدم عبر الساتلايت، الساتَلايت الذي سحبته (داعش) من كل بيت فيما بعد مع قرب انتهاء عمليات الجانب الأيسر».

«كانَ حظّنا وافراً، فـ حيّنا هو الحي الرابع الذي تحرّر في عمليات الجانب الأيمن، لكن ليلة ما قبل التحرير لم أنَمها مُطلقاً، إذ كان بيني والإعدام ساعتان لا غير، عشيّة التحرير، طلب منا داعش الانسحاب معه وترك بيوتنا، فهو كان يعمد لسحب المدنيين كأعتدة بشرية له مع كل انسحاب له من منطقة ما».

بعد التحرير، أمسَت الظروف أكثر صعوبة، صار التنظيم يضرب المناطق المحرّرة من المناطق التي يسيطر عليها بقذائف الهاون، قذيفة هاون وقعَت في بيته، ضربت الطابق الثاني فأحدثت ثقباً في سطح المنزل، ما اضطرّه وعائلته إلى تركه، والعبور نحو الجانب الأيسر، فهو أكثر استقراراً بعد التحرير.

هُناك، في الأيسر، وبعد أسبوعين من سكنه الوقتي فيه، نظّم ومجموعة من الشباب، حملات تطوعية لتنظيف المكتبة المركزية لجامعة الموصل بعدما أُحرِقَتْ، يقول فهَد، «من بين أربعة أضلاع تحمل كتب المكتبة، وجَدنا ضلع كامل لم يحدث فيه ضرر،  يحوي على/٣٥/ ألف كتاب، نقلناها كلها نحو مكان أفضل».

من أجواء ملتقى الكتاب

حدثَ ذلك في منتصف آيار/ مايو من عام التحرير ( ٢٠١٧)، واستغرقَت عمليّة نقل الكتب مدة شهر ونصف، بُعَيدَها نَظَّمَ وعددٌ من الشباب والشابات، زوجته ضمنهم، حملةً للتشجيع على القراءة والاهتمام بالجانب الثقافي؛ لأنه كان يؤمن بأنه لا يجب حسر الحياة بالجانب الإغاثي فقط.

وبالفعل، نجحَ من خلال التنسيق مع عدّة دور نشر في #بغداد برفدهم بعدد لا بأس به من الكتب والروايات، بعد أن التقاهم حينما جاؤوا إلى #الحدباء في قافلة حملت وسم #العيد_في_الموصل، ونجحَ في افتتاح أول مهرجان للقراءة والكتابة في #أم_الربيعين بعد التحرير، كان ذلك في أيلول/ سبتمبر.

بعد أن عادت الحياة طبيعية في المدينة، التَقى بصديقه حارث الذي كان يفكر في إنشاء مقهى، فاقترَحَ عليه أن يشتركا في إنشاء مقهى ثقافي، وكان لهما ذاك، «بعتُ حتى مجوهرات زوجتي لأجل المشروع، وحصلنا على موقع مُلائم، ونجهد لإكماله وتجهيزه الليل في النهار بمفردنا».

كأن لسان حاله يقول: «أُوَدّع عاماً؛ لأستقبلَ آخر، تنتصف الساعة بين العامين، عاريَةٌ، إلاّ منَ الحَدباء»، افتتحا المقهى في آخر ليلة من ليالي ٢٠١٨ مع ولوج أولى ساعات ٢٠١٩، تحت مُسَمّى ”مُلتَقى الكتاب“، لينجحا في استقطاب أنظار الموصليين والموصليات، وإقامة عشرات المحافل الثقافية فيه.

نتيجة دورهما في افتتاح أول مشروع ثقافي في المدينة بعد تحريرها، تم دعوتهما لحضور مؤتمر ثقافي في #باريس، يُعنى بالمدن التي تحرّرت تَواً من (داعش)، بعد عودته من مدينة الأنوار، استطاع أن يتوظف بصفة مدير إعلامي لشبكة جباية الضرائب والتيار الكهربائي في الجانب الأيسر من الموصل.

صارَ اليوم، مشغولاً جُلّ الوقت، صباحاً في دائرة الجباية، ومساءً في المُلتَقى، إضافة إلى عودته كمُحاضر في #جامعة_الموصل، فلا يستطيع التنفس لبرهة، أما زوجته ”هند“ فسلكَت منحى آخر بعيداً عن تخصصها، أمسَت صحفيّة.

وتعمَل مع الـ (iom) في جانب التماسك الاجتماعي، بعدَ أن حضرَت مُؤتَمراً يخص ذلك في سَراييفو بالبوسنة، أما طفليهُما فصارَ عمرهما خمس سنوات، وهُما الآن في ”الروضَة“. كان يا ما كان ذلك ”فهد“ وتلك هي قصّته التي حفرَها بكل أبجَديات القوّة دون أن يستسلم لليأس مرَّةً.


 

هل أعجبك المحتوى وتريد المزيد منه يصل إلى صندوق بريدك الإلكتروني بشكلٍ دوري؟
انضم إلى قائمة من يقدّرون محتوى الحل نت واشترك بنشرتنا البريدية.